الناس أصناف، صنف أشرك بالله فوصفهم القرآن بشر البريئة، أي أشد الناس شرا، وصنف ثان عمل عملا صالحا فوصفهم بخير البريئة أي الخليقة، فهم أفضل الخلق وأقربهم الى خالقهم، فشر البريئة هم الذين خالفوا تعاليم كتب الله المنزّلة وأنبياء الله المرسلة، و خير البريئة هم الذين آمنوا بقلوبهم بربهم وكتبه ورسله واليوم الآخر وعملوا الصالحات بذواتهم، فلنتتبع ما قيل في تفسير قول الله تعالى «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة» (البينة 7 و8) من أقوال علماء التفسير كسماحة الشيخ الامام محمد الطاهر ابن عاشور والدكتور يوسف القرضاوي. يقول سماحة الشيخ ابن عاشور رحمه الله «الجملة استئناف بياني ناشئ عن تكرر ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، فإن ذلك يثير في نفوس الذين آمنوا من أهل الكتاب والمشركين تساؤلا عن حالهم، لعل تأخر إيمانهم الى ما بعد نزول الآيات في التنديد عليهم يجعلهم في انحطاط درجة، فجاءت هذه الآية مبينة أن من آمن منهم هو معدود في خير البريئة. والقول في اسم الاشارة وضمير الفصل والقصر وهمز البريئة، كالقول في نظيره المتقدم. واسم الاشارة بالجملة المخبر بها عنه جميعها خبر عن اسم «إن»، وجملة «جزاؤهم عند ربهم جنات عدن» الى آخرها مبينة لجملة «أولئك هم خير البريئة»، و«عند ربهم» ظرف وقع اعتراضا بين «جزاؤهم» وبين «جنات عدن» للتنويه بعظم الجزاء بأنه مدخر لهم عند ربهم تكرمة لهم لما في «عند» من الإيماء الى الحظوة والعناية. وما في لفظ ربهم من الإيماء الى اجزال الجزاء بما يناسب عظم المضاف اليه «عند»، وما يناسب شأن من يرُب أن يبلغ بمربوبه عظيم الاحسان. واضافة «جنات» الى «عدن» لإفادة أنها مسكنهم، لأن العدن الاقامة، أي ليس جزاؤهم تنزها في الجنات بل أقوى من ذلك بالاقامة فيها، وقوله «خالدين فيها أبدا» بشارة بأنها مسكنهم الخالد، ووصف الجنات ب«تجري من تحتها الأنهار لبيان منتهى حسنها، وجري النهر مستعار لانتقال السيل تشبيها لسرعة انتقال الماء بسرعة المشي، والنهر أخدود عظيم في الأرض يسيل فيه الماء فلا يطلق إلا على مجموع الأخدود ومائه، واسناد الجري الى الأنهار توسع في الكلام لأن الذي يجري هو ماؤها وهو المعتبر في ماهية النهر، وجعل جزاء الجماعة جمع الجنات فيجوز أن يكون على وجه التوزيع، أي لكل واحد جنة كقوله تعالى «ويجعلون أصابعهم في آذانهم» وقولك «ركب القوم دوابهم» ويجوز أن يكون لكل واحد جنات متعددة والفصل لا ينحصر. قال تعالى «ولمن خاف مقام ربه جنتان». وجملة «رضي الله عنهم» حال من ضمير «خالدين» أي خالدين خلودا مقارنا لرضى الله عنهم، فهم في مدة خلودهم فيها محفوفون بآثار رضي الله عنهم، وذلك أعظم مراتب الكرامة. قال تعالى «ورضوان من الله أكبر» ورضى الله تعلق احسانه وإكرامه لعبده، وأما الرضى في قوله «ورضوا عنه» فهو كناية عن كونهم نالهم من احسان الله ما لا مطلب لهم فوقه، كقول أبي بكر في حديث الغار «فشرب حتى رضيت» وقول مخرمة حين أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم قباء رضي مخرمة، وزاد حسن وقع هنا ما فيه من المشاكلة (هذا تفسيره في قول الله تعالى «إن الذين آمنوا وعلموا الصالحات أولئك خير البريئة، جزاؤهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه») وفي تفسر هذا انتقل الى ما ذكره في تفسيره الدكتور يوسف القرضاوي يقول بعد ذكره عن «مآل الفجار من أهل الكتاب والمشركين المخالفين لكتب الله المنزلة وأنبياء الله المرسلة» يقول «ثم أخبر تعالى عن حال الأبرار الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بأبدانهم بأنهم خير البرية. وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين من البرية على الملائكة لقوله «أولئك خير البرية»، ثم قال «جزاؤهم عند ربهم» أي يوم القيامة «جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا» أي بلا انفصال ولا انقضاء ولا فراغ «رضي الله عنهم ورضوا عنه» ومقام رضاه عنهم أعلى مما أوتوه من النعم المقيم «ورضوا عنه» فيما منحهم من الفضل العميم». والملاحظ أن سماحة الشيخ الامام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله اعتمد رواية قالوا فقال «البريئة» بينما الدكتور يوسف القرضاوي فقد اعتمد رواية حفص فقال «البرية» والروايتان صحيحتان. يقول الاستاذ الشيخ محمد البشير بن جديدية في تفسيره «تنوير المستنير في بيان معاني البيان» «فإن الذين صدقوا بوحدانية الله وبرسوله وبما أنزل وبملائكته ويوم الحساب وأطاعوا الرسول فيما أمروهم به، فإنهم عند الله أكثر خلقه خيرا وقربا، واسم الاشارة «أولئك» في هذه الآية يدل على علو منزلة هؤلاء المؤمنين ورفعة مكانتهم». يقول السيد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» عن الآية المذكورة أعلاه «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات..» (الآية) يقول «حكم كذلك قاطع لا جدال فيه ولا مجال، ولكن شرطه كذلك واضح لا غموض فيه ولا احتيال، إنه الايمان الذي ينشئ آثاره في واقع الحياة «وعملوا الصالحات»، وليس هو الكلام الذي لا يتعدى الشفاه. والصالحات في كل ما أمر الله بفعله من عبادة وخلق وعمل وتعامل. وفي أولها اقامة شريعة الله في الارض، والحكم بين الناس بما شرع الله، فمن كانوا كذلك فهم خير البرية..». ويقول الامام علي بن محمد بن المعروف بالخازن في تفسيره تفسير القرآن العظيم عن الآية «أولئك هم خير البرية»، يعني أنهم بسبب أعمالهم الصالحة واجتنابهم الشرك استحقوا هذا الاسم» فشتان بين المخلصين في العمل الصالح وهم المؤمنون بالله تعالى وبشريعته السمحة، وبين الذين لا يخصلون في عملهم وهم المشركون بالله والناكرون لشريعة خالقهم. فالله سبحانه في هذه السورة كشف عن وعيد المشركين ووعد الأبرار وجزاء الفريقين قال البيضاوي عن وعد المؤمنين «إن الذين آمنوا» فيه مبالغات: تقديم المدح وذكر الجزاء المؤذن بأن ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به، والحكم عليه بأنه من عند ربهم وجمع جنات وتقييدها اضافة ووصفا بما يزداد لها نعيما وتأكيد الخلود بالتأبيد» (انظر تفسير البيضاوي) وذكر الدكتور وهبة الزحيلي في تفسيره «التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج» وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين الأبرار على الملائكة لقوله تعالى «أولئك هم خير البرية» ثم قال صاحب التفسير «اخرج ابن ابي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا، قال : أتعجبون من منزلة الملائكة من الله والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة، أعظم من ذلك وقرأ هذه الآية. والجواب بأن الملائكة ايضا داخلون في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو المراد بالبرية بنو آدم، لأن اشتقاقهما من البرى وهو التراب، لا من برأ الله الخلق، فلا يدخل الملائكة في الآية البتة» (انظر تفسير الزحيلي).