بعد المراهقين والاطفال والدواب جاء دور المختلين عقليا لينالوا نصيبهم في الجهاد وما سيعقبه من نعيم الجنة الموعودة ومن يدري فقد تكتشف السلطات المعنية في بغداد وواشنطن لجوء الانتحاريين في العراق الى الشعوذة والسحر او ربما الى كائنات واجساد خارقة لا مجال لرصدها او ايقافها لتنفيذ عملياتها مستقبلا ومواصلة استنزاف واهدار دماء العراقيين... هكذا اذن لم يكن بامكان القيادات العسكرية الامريكية في العراق ومعها مسؤولي الحكومة العراقية هذه المرة افضل من عاهة الجنون والاختلال العقلي للتخفي وتبرير التنصل من تبعات العمليتين الانتحاريتين الاخيرتين اللتين استهدفتا سوقا شعبية عراقية لتخلف ورائهما المزيد من الدماء والارواح والثكالى والايتام والارامل. فكل التبريرات تبقى واردة للبحث عن شماعة قادرة على تحمل اعباء تداعيات الجحيم العراقي المستمر واخفاء الفشل المستمر والعيوب القائمة في المخططات الامنية التي اكدت افلاسها مرة بعد مرة... واذا كانت العقول المختلة هذه المرة من يقف وراء هكذا تفجيرات فاحرى باصحاب العقول "الصائبة" ان تخجل من نفسها وان تبحث لها عن مبررات اكثر اقناعا... المشهد كان كسابقيه مقرفا الى درجة الاشمئزاز والغثيان ولم يخرج عن اطار ما بات مالوفا في العراق ولعل ما زاد في بشاعته وفظاعته ان تعمد عديد الاصوات داخل العراق وخارجه الى تحميل مسؤولية ما حدث الى فتاتين تعانيان من اختلال عقلي عمدت القاعدة الى استغلالهما لتوجيه ضربة قاسية للعراق وتجديد محن وآلام اهله وجروحه التي لم يكتب لها ان تضمد بعد خمس سنوات من الاستنزاف... صحيح ان ما روج حتى الان من اعمال ارهابية وانتهاكات نسبت الى تنظيم القاعدة واستهدفت اكثر من بلد عربي او غير عربي من شانها ان تؤكد انه بامكان هذا التنظيم ان يلجا الى كل الطرق والاساليب المتوقعة، وحتى غير المتوقعة التي يمكن ان تتوفر لديه لتحقيق اهدافه في العراق كما في افغانستان او خارجهما بهدف ترهيب المدنيين وتحويلهم الى مشاريع قنابل جماعية مؤقتة قابلة للانفجار في كل حين وحيثما تكون. ولكن الحقيقة ايضا ان في محاولة اسقاط عملية بغداد الاخيرة على فتاتين تشكوان من الاختلال العقلي اكثر من مجرد عملية تلاعب بالحقائق واستبلاه للعقول واستخفاف بها، بل واستهزاء بما آلت اليه قيمة الحياة الانسانية في بلد يسجل يوميا ترمل مائة امراة على الاقل وتيتم مئات الاطفال بما يمكن ان يحول كل امراة وكل طفل بينهم الى قنبلة موقوتة بحثا عن الخلاص من دوامة العنف التي تابى ان تنتهي. وفي كل الاحوال فان محاولات التخفي خلف عاهات مرضية انما تكشف عن وضع يشكو من علل خطيرة في العراق لا تجد لها دواء ناجعا وهي لا تعدو ان تكون اكثر من تنصل واضح من المسؤولية واعتراف صريح بعجز وفشل السيناريوهات والخطط المطروحة لتغيير المشهد العراقي بما يمكن ان يساعد على اعادة الامن والاستقرار الغائب فيه. ثلاث ملاحظات اساسية ارتبطت بالعمليتين الانتحاريتين في احد الاسواق الشعبية العراقية الاسبوع الماضي، اولها انها تاتي بعد عودة نوع من الهدوء النسبي للعراق وتسجيل تراجع لا يستهان به في احداث العنف وهو ما اعاد بعض التفاؤل في النفوس بشان توقف آلة القتل التي جعلت من النساء والاطفال والشيوخ زادها اليومي وهو تفاؤل سرعان ما تراجع ليعيد العراقيين الى الامر الواقع ويؤكد ان خطر الموت لا يزال يتربص بهم في كل حين... اما الملاحظة الثانية فهي ترتبط بخطاب الرئيس الامريكي جورج بوش حول حالة الاتحاد وما حمله من عبارات الانتصار للجهود الامريكية في العراق وافغانستان وقد جاءت العملية بمثابة رسالة عاجلة تدعو الرئيس الامريكي الى تاجيل موعد الاحتفال وهو الخطاب الذي تزامن بدوره مع تقارير امريكية بشان تسعمائة وثلاثون كذبة من جانب مسؤولي الادارة الامريكية لتبرير الحرب على العراق. اما الملاحظة الثالثة فقد ارتبطت بالتقرير البريطاني بشان حصيلة الحرب في هذا البلد والتي تجاوزت المليون قتيل حتى الان وهو التقرير الذي وان واجه الكثير من محاولات التشكيك والانتقادات من اطراف كثيرة كانت ولاتزال تصر على رفض تحمل المسؤولية فيما بلغه العراق من فوضى امنية ومن تفكك عرقي وانقسام طائفي ومن تصفية للحسابات وانتشار للفوضى والعنف والجريمة، فانه حمل في طياته ايضا الكثير من الاحصائيات والارقام والدراسات الموضوعية التي اشرف على تحقيقها اخصائيون وباحثون مستقلون. واذا كانت العديد من الصحف الاسرائيلية قد وجدت المجال واسعا بعد تلك العملية للحديث عن نهاية الاسلام في يوم الجمعة المقدس في اشارة الى الانتحاريين الذين يحلمون بالجنة من وراء هكذا عمليات، وهي اشارة لا تخلو من ايحاءات اسرائيلية كثيرة مغلوطة لتشويه صورة الاسلام وتحميله ما لا يحتمل، فانها قد تجاهلت عن قصد او عن غير قصد والارجح عن قصد ان تحميل مختلتين عقليتين مسؤولية تلك العملية امر يشكو اختلالا واضحا بدوره. والامر هنا لا يتعلق بالبحث عن تبريرات مطلوبة لمنفذي هذه العمليات فليست التبريرات ما يمكن ان يغيب عن الواقع العراقي اذ يكفي ان هذا البلد الذي بات اليوم يوصف ببلد الايتام لكثرة الاطفال العراقيين اليتامى الذين تجاوز عددهم الخمسة ملايين يتيم اكثر من خمسمائة الف منهم بلا ماوى فيما يقبع ثمانمائة منهم في السجون الامريكية ومثلهم في السجون العراقية وان اغلب هؤلاء قد فقدوا اباءهم امام انظارهم في اعمال العنف المستمر في القرى والمدن العراقية مما جعل روبرت فيسك الكاتب البريطاني يقول ليس صعبا خلق الايتام في العراق اذا كنت متمردا بامكانك ان تفجر نفسك في سوق شعبي واذا كنت طيارا امريكيا بامكانك ان تلقي قنابلك على المنزل الخطا في القرية الخطا واذا كنت من المرتزقة بامكانك ان تطلق اربعين رصاصة على صدر ارملة. والمؤسف ان لغة الارقام الواردة من بلاد الرافدين لا تتوقف عند هذا الحد ولاشك ان في وجود اكثر من ثلاث ملايين ارملة في العراق تشكو الخصاصة والحرمان وفقدان السند العائلي والمادي وتعيش بين احضان الياس والخوف من الحاضر والمستقبل مايمكن ان يؤكد انه ليس من المستحيل في شيء دفع هؤلاء الى مثل تلك النهاية المؤلمة التي يمكن ان تدفع بالانسان الى التخلي عن انسانيته وفقدان عقله وقدرته على التمييز بين الحرام والحلال او بين الحياة والموت...