يبدو أننا على أبواب سنة سياسية جديدة، ستكون مختلفة كليا عن التي سبقتها، بل يمكن القول أن البلاد قد تشهد أول سنة سياسية بالمفهوم الصحيح والمتعارف عليه، حيث أنها بامتياز سنة استحقاقات ورهانات، سنة طيّ صفحة الوضع الانتقالي والمؤقت، لكنها سنة لا تخلو من إشكاليات تحمل في طياتها بوادر خطيرة، سواء في ما يتعلق بتماسك المجتمع، ومدى قدرة مختلف مكوناته على التعايش أو بالاستقرار السياسي، ومدى التمكن من تجسيد مفهوم الوفاق حول عديد المسائل. وإذا كان المبتغى في هذه الفترة هو الوفاق، فإن ما صدر عن أحد أبرز أعضاء الترويكا -وهو المنصف المرزوقي- يضع أكثر من علامة استفهام حول نسيج السنة السياسية، التي كان أول خيوطها اتهام مفاجئ من رئيس الجمهورية لحركة النهضة في رسالة موجهة إلى مؤتمر المؤتمر من أجل الجمهورية، بأنها تسعى للهيمنة على مفاصل الدولة. إنه أعمق شرخ يسجل بين مكونات الترويكا، لا تضاهيه في رمزيته واحتمالاته حتى استقالة محمد عبو من الحكومة، وبالتالي نحن أمام أول غيث نجهل تأثيراته وانعكاساته على المدَيَيْن القريب والبعيد، لكن الواضح أن المرزوقي لم يفتح النار على النهضة فحسب، بل إنه افتتح دون مقدمات الحملة الانتخابية، وبالأحرى حملته الانتخابية، ومرة أخرى يقع في نفس الخطإ الذي وقع فيه في السابق، أي أنه لا يعرف بالتحديد صلاحيات منصب الرئيس الذي سيترشح له. اتهام المرزوقي للنهضة -ورغم بعض التوضيحات بخصوصه للتخفيف من حدته- يبقى أمرا هاما ويدفع إلى التساؤل حول كيفية تعاطي حزب المؤتمر مع جملة من الملفات والقضايا، ليس في صلب الحكومة فحسب بل أيضا في المجلس التأسيسي، فهناك مسودة دستور تنتظر النقاش والمصادقة، وربما تطلب الأمر اللجوء إلى استفتاء في حالة عدم حصول وفاق بشأنها في التأسيسي، إضافة إلى الجدل بخصوص شرعية كل من الحكومة والمجلس التأسيسي بعد انقضاء المواعيد المحددة سابقا أي 23 أكتوبر المقبل. ستجد السنة السياسية الجديدة في هذا التاريخ وفي مسائل أخرى خيوطا كفيلة بنسج بقية معالمها، فإضافة إلى موازين القوى ومدى تماسك الترويكا ومدى شرعية السلط والسيناريوهات التي تحف بالدستور، هناك قضايا كبرى مطروحة تنتظر حلولا جذرية، فحرية الإعلام لا يمكن اجتثاثها من مفهوم الكرامة، كرامة المواطن وكرامة رجل الإعلام والوسيلة الإعلامية، لأنه لا معنى لحياة عامة يكون فيها الإعلام مهمشا.. والإعلامي مكبلا. هذا الوضع إجماليا سيفتح المجال أرحب أمام استقطابات عديدة، فالمعارضة بصدد إعادة ترتيب بيتها وحشد صفوفها عبر التكتلات والتحالفات، ويبدو أن السنة السياسية الجديدة قد تشهد تغيرا في الخريطة الحزبية بدخول حركة نداء تونس على الخط، آملة في لعب دور المحرك للحياة السياسية، وفي إحداث تغيير على موازين القوى في مواجهة أحزاب الترويكا، دون أن ينقص ذلك من دور وحجم بقية التكتلات والأحزاب بمختلف توجهاتها السياسية والفكرية. لقد رافقت ميلاد نداء تونس حملة إعلامية، بشرت بحركة سياسية كبيرة قادرة على الحد من نفوذ النهضة، لكن إلى حدّ الآن مازال حزب الباجي قائد السبسي لم يبرز كحركة بذلك الحجم، والتأثير المعلن عنه من قبل، وهذا أمر مفهوم في هذه المرحلة، لأن نداء تونس بصدد تجميع مكوناته وقواه، وبالتالي يتعين انتظار افتتاح الموسم السياسي. وبين التكتلات وإعادة رصّ الصفوف، يبقى التيار السلفي كأحد المعطيات الهامة على الساحة، سواء من حيث العدد أو من حيث القدرة على التحرك، من خلال هامش مناورة واسع اتسعت من خلاله دائرة التجاوزات والاعتداءات، وهو ما يتحتم إيقافها حتى لا تتعمق الشروخات في صلب المجتمع، إذ لا بد من التعايش بين الجميع على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية. يتعين انتظار الأشهر المقبلة، لمعرفة ما مدى التمكن من توفير الأطر الدستورية والقانونية واحترامها، لتحقيق هذا التعايش لأن المسألة أشمل من السلفية، ومن التيارات العلمانية.. إنها سنة سياسية جديدة مفتوحة على احتمالات شتى...