عاجل: وزارة العدل تعقد جلسات القضايا ذات الصّبغة الإرهابية عن بعد    مهرجان المناطيد الدولي يرجع لتونس في التاريخ هذا...وهذه تفاصيله والأماكن المخصصة    الاربعاء 24 سبتمبر الجاري ... يوم للمناخ والصحة بمقر معهد باستور بالعاصمة    استئناف دروس تعليم اللغة العربية لابناء الجالية التونسية ببمرسيليا في هذا الموعد    بلاغ هام لوزارة الداخلية..#خبر_عاجل    قابس: تطور في صادرات الباكورات الجيوحرارية    المعهد العربي لرؤساء المؤسسات ينظم الخميس المقبل منتدى اقتصاديا حول الآفاق الجديدة للسياحة في تونس    قطر تستضيف قمة عربية إسلامية طارئة بعد الهجوم الإسرائيلي    إسرائيل هددت تركيا بتدمير أي دعم تُقدمه للجيش السوري    فيفا تنصف الجامعة التونسية لكرة القدم في قضية رفض لاعبين الالتحاق بالمنتخب    الدولي الفرنسي السابق مانداندا يعلن نهاية مسيرته    المركز القطاعي للباردو يفتح أبوابه: تكوين مجاني في الخياطة والتصميم!    جريمة مروعة: ينهيان حياة صديقهما بعد اشتكائه عليهما لتحرشهما بزوجته..!    وزير الشّؤون الدّينية يلتقى رئيس مجلس شركة مطوّفي الحجيج    الكاف: تكثيف المعاينات الميدانية للوقوف على جاهزية المؤسسات التربوية لاستقبال التلاميذ في أحسن الظروف    مواطنة أمريكية لاتينية تُعلن إسلامها في مكتب مفتي الجمهورية    إحالة سهام بن سدرين ومبروك كورشيد على أنظار القضاء في قضايا فساد مالي    عاجل: أكثر من 12 مليون كراس مدعّم متوفر في المكتبات    الأسباب النفسية لتعاطي المخدرات    تأجيل رحلة السفينة قرطاج على خطّ تونس - جنوة - تونس: التفاصيل    علي الزرمديني: الهبّة الجماهيرية العالمية أربكت الكيان    الرابطة الأولى: برنامج النقل التلفزي لمباريات الجولة الخامسة ذهابا    الرابطة الأولى: تشكيلة مستقبل سليمان في مواجهة الأولمبي الباجي    أمطار متفاوتة في ولايات الجمهورية: أعلى كمية في قلعة سنان بالكاف    تونس تشارك في البطولة العربية للمنتخبات في كرة الطاولة بالمغرب من 11 الى 18 سبتمبر الجاري    افتتاح مرحلة ما قبل البيع لتذاكر مونديال 2026 (فيفا)    أضواء على الجهات :ميناء الصيد البحري بغار الملح يحتاج الى رافعة والى عملية توسعة لتعزيز دوره الاقتصادي    منظمة الصحة العالمية تؤكد عزمها البقاء في مدينة غزة..    الأمريكيون يحيون ذكرى هجمات 11 سبتمبر    انخفاض ملحوظ في درجات الحرارة..#خبر_عاجل    بعد تقلبات الأمس كيف سيكون الطقس هذا اليوم؟    ارتفاع مؤقت في الحرارة يسبق انخفاضها مطلع الأسبوع المقبل    اليوم: أسطول الصمود يبحر في اتّجاه بنزرت    بعد منعها من الغناء في مصر.. هيفاء وهبي تواجه النقابة قضائياً    فرنسا شعلّت: حرائق وسيارات مقلوبة ونهب في الشوارع...شفما؟    تطوير جراحة الصدر واستعمال أحدث التقنيات محور لقاء بوزارة الصحة    تقُص ظوافرك برشا: اعرف الأضرار قبل ما تفرط فيها!    عاجل: هشاشة العظام أولوية وطنية: نحو القيام بإجراءات جديدة    جدل واسع بعد تدوينة للإعلامي لطفي العماري حول «أسطول الصمود»    تفاصيل جديدة عن هجوم الدوحة.. 10 قنابل لم تدمر مقر حماس    اريانة:جلسة عمل لمتابعة أشغال تهيئة فضاء سوق مُفترق الإسكال    عودة ثقافيّة موفّقة    التظاهرات العربية ودورها في إثراء المشهد الثقافي العربي    كتاب «المعارك الأدبية في تونس بين التكفير والتخوين» وثيقة تاريخية عن انتكاسات المشهد الثقافي التونسي    نحو تطوير جراحة الصدر في تونس ودعم البحث العلمي    عاجل/ حجز كميات هامة من المواد المدعمة في مداهمة مخزن عشوائي بهذه الجهة    عاجل/ أمطار غزيرة ورعدية بهذه المناطق..    من الخميس للأحد: جدول كامل للمباريات والفرق اللي باش تتواجه مع الأربعة متع العشية    جلسة عمل في وزارة الصحة حول المخبر الوطني للجينوم البشري    المركز الوطني لفن العرائس يستقبل تلاميذ المدارس الخاصة والعمومية في اطار "مدارس وعرائس"    مدينة دوز تحتضن الدورة ال57 للمهرجان الدولي للصحراء من 25 الى 28 ديسمبر المقبل    في نشرة متابعة للرصد الجوي: تغيرات جوية منتظرة بعد الظهر بهذه الولايات    الديوان التونسي للتجارة يُوفّر كميّات من مادة القهوة الخضراء    المسرحي التونسي معز العاشوري يتحصل على جائزة أفضل مخرج في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي    بالفيديو: شاهد كيف سيبدو كسوف الشمس الكلي في تونس سنة 2027    تونس في الواجهة: محمود عباس يكرّم كوثر بن هنية عن فيلم "صوت هند رجب"    مدرستنا بين آفة الدروس الخصوصية وضياع البوصلة الأخلاقية والمجتمعية...مقارنات دولية من أجل إصلاح جذري    ''الخسوف الدموي'' للقمر يعود بعد سنوات...شوف شنيا أصلو في مخيلة التونسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المدرسة التونسية.. بين تساوي الفرص والحيف الاجتماعي (5\6)
نشر في الصباح يوم 29 - 09 - 2012

بقلم: د. أحمد بوعزّي -قرأت هذه الأيام في إحدى الصحف أن ولاية سليانة ستنعم في السنة القادمة ببعث إعدادية نموذجية مثل التي بعثها النظام البائد في عديد الولايات وذلك في نطاق تمكينها من منابها من التنمية،
وكأني بأول حكومة منتخبة بعد الثورة تفتقد إلى المخيلة ولا تستطيع إلا مواصلة سياسة النظام السابق وكان الأجدر بها إصلاح أخطائه. وقد كان رأي المختصين في التربية والمناضلين الديمقراطيين وخاصة من يحترم منهم الهوية التونسية ناقدا لسياسة بعث "الإعداديات النموذجية" لعدة أسباب نذكرها فيما يلي:
أولها هو التراجع عن سياسة التعريب التي اتبعتها الحكومة في تسعينات القرن الماضي بينما كان من الأجدر بها تعميمها على التعليم الثانوي مثل ما هو الحال في كل الدول التي تملك في تراثها لغة وطنية مكتوبة. وعوض أن يقع تقليد البلدان التي تستعمل لغتها الوطنية في التدريس والتي دخلت جامعاتها ضمن ال500 جامعة الأولى حسب تصنيف شنغهاي مثل اليونان وتركيا وإيران فقد قلدت إدارتنا إفريقيا الوسطى والكامرون وغينيا والكونغو.
والسبب الثاني هو وضع مناظرة في مستوى السادسة ابتدائي للتفريق بين أقلية محظوظة ستؤمّ ما سيسمّى ب"الإعداديات النموذجية" وبين الأغلبية المغلوب على أمرها والتي ستُحشر في الإعداديات "المتروكة" المتواجدة في الأحياء الشعبية وفي القرى الشعبية والتي لن تحظى بالأساتذة وبالقيمين الأكفاء ولن يقع تجهيزها بوسائل الدراسة ووسائل التدريس العصرية ولن تتخلص من اللغة العربية التي يظهر وأن المسؤولين في وزارتنا يعتبرونها لا تليق بالتلاميذ النجباء. وإن لم نسمع صيحة فزع ولم نر كتابات كثيرة في الجرائد حول هذا الموضوع فلأن أغلب الأولياء القادرين على الاحتجاج يعتقدون أن أبناءهم سوف يكونون من بين المحظوظين الحاصلين على امتيازات.
مساوئ هذه الإعداديات كثيرة وهي مساوئ تمسّ الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب بصورة مباشرة والبقية بصورة غير مباشرة. نحن نؤمن أنه على الدولة أن تعمل في الميدان التربوي في إطار الإنصاف، وفقا لمبدإ تساوي الفرص حتى تكون دولة ديمقراطية تعمل لفائدة كل المواطنين دون تمييز، وهي قاعدة تتبعها كل الدول الديمقراطية. وتساوي الفرص موجود في القانون التوجيهي لسنة 2002، لكن يظهر انه كتب للتسويق فقط.
نحن متأكدون أن هذه المعاهد "النموذجية" لن توجد في المناطق الشعبية مثل دوار هيشر وحي الزهور وأمثالها في المدن الكبيرة الأخرى ولن توجد في المدن الصغيرة بل ستوجد فقط في المناطق التي يسكنها الأثرياء وإطارات وزارة التربية وأصدقاؤهم.
نحن نؤمن أن الذين يحتاجون من الدولة لمجهود إضافي في ميدان التربية هم التلاميذ ذوي الاحتياجات الخصوصية والذين يسكنون أحياء يصعب العيش فيها والذين يعيشون وسط عائلات تتعرض إلى صعوبات الطلاق والبطالة والعنف إلى غير ذلك.
نحن نعتقد أيضا أن النوابغ سوف ينجحون مهما كان الأمر وبمعدّلات كبيرة سواء كانوا في معاهد عادية أو في معاهد خاصة، ولكن المتوسطين وهم الأغلبية الساحقة سوف يعملون ما في وسعهم للدخول إلى هذه الإعداديات مهما كان الثمن حتى ينجحوا بمعدلات أعلى من إمكانياتهم الطبيعية وأعلى من معدلات أقرانهم الذين سيبقون في الإعداديات "المتروكة" وحتى يتوجهوا إلى المسارات الدراسية "النبيلة".
كون كل التلاميذ يحضّرون نفس الشهادة (مناظرة الدخول إلى المعاهد النموذجية ثم الباكالوريا) يجعل من هذه الإعداديات وسيلة تمييز بين المواطنين غير مقبولة أخلاقيا وسياسيا وتعطي الذين يؤمونها تفوقا اصطناعيا على أقرانهم ما كانوا ليحصلوا عليه لولا تلك المصاريف الإضافية ولولا اختيار الأساتذة والقيّمين الأكفاء لتأطيرهم.
فهل كان هؤلاء التلاميذ سيتفوقون على أقرانهم لو لم يدخلوا هذه الإعداديات؟ فإن كان الجواب بنعم فلم لا نتركهم حيث هم ثم نوجّه هذه المصاريف الإضافية لتحسين البرامج ولتحسين المستوى المعرفي للمعلمين والأساتذة بالتكوين المستمر، وإن كان الجواب بلا فلماذا نبذل مجهودا إضافيا لتغليب تلميذ أقل إمكانيات ذهنية على زميله ليتوجه إلى الطب والهندسة ويحجز المكان بدون وجه حق ويمنع بالتالي تلميذا آخر من الترسيم في تلك الدراسة "النبيلة".
نحن نشتكي اليوم من الدروس الخصوصية التي تعارض مفهوم الدراسة العصري وتدفع الأساتذة والمعلمين بعنف نحو الفساد وتخرّب أخلاقهم سواء مع زملائهم أو مع تلامذتهم، لأن هذه الإعداديات سوف يدخلها أبناء الأثرياء الذين يستطيعون دفع الأموال الطائلة في الدروس الخصوصية ليحصل أبناؤهم على المعدل المطلوب.. نتساءل هنا، هل نحن أمام مخطط مكيافيلي يهدف لجعل الدروس الخصوصية إجبارية ومسكوت عنها رغم عدم أخلاقيتها، ورغم أنها ترسّخ عقلية الرشوة والمحسوبية لدى الشعب.
هناك مضارّ جانبية أخرى لا أتوسع فيها، مثل أن إعداديات التمييز هذه سوف تميّز بصورة نهائية بين تلميذين متساويين في الذكاء: التلميذ الحاصل على معدّل 15,38 من عشرين والحاصل على 15,39 لتجعل هذا يدرُس باللغة الفرنسية وذاك باللغة العربية، وإذا اعتبرنا أن الثاني "نابغة" والأول "عادي" فإننا نستنتج أن الوزارة تعتبر أن اللغة العربية لا تصلح للتدريس إلاّ للتلاميذ العاديين، وأن التعليم الذي تدرّس فيه المواد العلمية باللغة العربية هو تعليم دوني لا يصلح للنوابغ، فهل هذا ما توفره الوزارة لأبنائنا حاليا؟
ومن المضارّ أيضا أن التلاميذ المتروكين في الإعداديات "المتروكة" محرومون من فرصة تدارك للحاق بأقرانهم الذين يدخلون إعداديات التمييز والذين سوف ينقطعون عن أبناء الشعب وسوف ينظرون إليهم باحتقار لأن أغلب "النوابغ" هم من عائلات ذات دخل مرتفع ثم أن المميَّزين لن يستعملوا اللغة التي سيقع تداولها بين تلاميذ الإعداديات المتروكة، وسيخلق ذلك فجوة بين أفراد الشعب الواحد.
ومثل أن التلميذ الذي كان ترتيبه الأول بمعدّل 15 من عشرين في مدرسة عادية سوف يكون الأخير في قسم يتحصل كل تلامذته على معدّل يفوق 15 وهذا يولد الإحباط والاكتئاب، إذ عندما يكون التلميذ النابغة في صف مدرسي يتواجد فيه تلاميذ بمستويات مختلفة من الذكاء فإن ترتيبه الأول سوف يجعله يلعب دورا رياديا وقياديا بين أقرانه الذين سوف يحترمونه لذكائه وعمله وجدّيته وسوف يكون لهم مثالا يُحتذى به، ثم لما يتخرج هذا التلميذ من الجامعة فسوف يواصل دوره الريادي ويبعث المشاريع الاقتصادية، أم لما نضعه وهو صغير السن في هذه الإعداديات "النموذجية" فسوف لن يكون ترتيبه الأول ولن يتربّى على دور ريادي، ولن ينعم بلذة الترتيب الأول وسوف تتكوّن لديه مركبات النقص التي لا تخلق منه قائدا.
ولن أتحدّث عن إحباط الأساتذة الذين يدرّسون في الإعداديات المتروكة ونظرتهم إلى تلاميذهم، إذ يمكن تخيّل ذلك بسهولة.
وخوفنا كبير إن طُبّقت سياسة التمييز من أن تصبح الإعداديات "المتروكة" مثل مدارس السود في إفريقيا الجنوبية في الثمانينات: القدوة فيها ليس التلميذ الذكي الغائب عن هذه الإعداديات بل هو تلميذ قوي البنية مشاكس وعنيف، يتعلم عنه أقرانه "الفوسكة" و"التشليط" و"الزطلة" وغير ذلك، لأنهم سيفقدون الأمل من الخروج بواسطة الدراسة من حالة الفقر والإحباط التي هم فيها نظرا لأن التلاميذ الذين سيصبحون أطبّاء ومهندسين ومسيّرين للبلاد يكونون قد غادروا مدرستهم نهائيا ولم يبقوا بينهم ليكونوا مثالا لإنارة الطريق المستقيم لهم وإعطائهم الأمل الذي يمنعهم من السقوط في الانحراف. وهذه حقيقة يجب أن تعرفها الوزارة ويعرفها كل الأولياء الذين سيبقى أبناؤهم في الإعداديات "المتروكة".
إن المجتمعات مركّبة من عدة أصناف من البشر لهم مواهب مختلفة في أصواتهم وحركاتهم وعضلاتهم وأشكالهم وأدمغتهم وأحاسيسهم، كل موهبة منها مفيدة للمجتمع، لكنهم يختلفون ذهنيا وبدنيا عن بعضهم رغم تساويهم في الحقوق. لو كانت نية أصحاب القرار طيبة لبعثوا إعداديات لأصحاب المواهب الموسيقية والرياضية يدرسون نفس الشيء صباحا ويصقلون مواهبهم في العشية ونكون بذلك كونّا أبطالا في العزف والغناء والتمثيل والرياضة باعتمادنا على أبنائنا، أمّا أن نفرّق التلاميذ على أساس إمكانيات حل المشاكل الرياضية فذلك ظلم لغيرهم لأننا لن نصنع منهم شيئا سوى تمكينهم من دخول كلية الطب أو الحصول على منحة تمكّنهم من "الحرقة" القانونية. ولا يحق لنا التمييز بينهم وتفريقهم على هذا الأساس لإعطاء بعضهم امتيازات وحقوق اصطناعية لأن ذلك لا يخدم المميَّزين ولا المتميّز عليهم، بل علينا تربيتهم مع بعضهم ليستفيدوا من بعضهم وليحترموا المواهب والميزات الطبيعية لبعضهم البعض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.