ثلاثة مشاهد لا مجال لمتتبع الحراك السياسي في بلادنا ألا يتوقف عندها في مثل هذه المرحلة الحساسة من مسيرة الانتقال الديموقراطي مع انطلاق استحقاقات مرحلة ما بعد 23 اكتوبر بكل ما يعنيه هذا الموعد من تطلعات مشروعة لكل تونسي لتحقيق أهداف الثورة وأولها دستور يجمع التونسيين وخارطة طريق واضحة تحدد معالم المرحلة القادمة والمواعيد الانتخابية المرتقبة وتحقق العدالة لكل المظلومين وتعيد الآمال لآلاف الشباب المعطلين وتؤسس لقضاء مستقل وتعليم راق وإعلام حر من كل وصاية أو تبعية... أما المشهد الأول فيتعلق بالفيديو الخاص بزعيم تنظيم أنصار الشريعة الملقب بأبو عياض واتهاماته لرئيس الجمهورية المؤقت "بالطاغوت المرتد" وإعلانه تشكيل لجان شعبية لحماية الشعب في حال حدوث قلاقل في البلاد بكل ما يمكن أن يحمله خطابه من إشارات ورسائل تحريضية خطيرة سبق أن خبر التونسيون تداعياتها في أحداث السفارة الامريكية. وأما المشهد الثاني فيتعلق بانطلاق محاكمة عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية الحبيب الكزدغلي اليوم وهي محاكمة تتجاوز شخص العميد لتمس القيم الجامعية ومعها جل رجالات الفكر والابداع في البلاد.. وأما المشهد الثالث فيتعلق بخبر الاتصال الهاتفي الذي أجراه رئيس الدولة المنصف المرزوقي مع أحد ضحايا العنف في تطاوين لإدانة ورفض كل أشكال العنف السياسي... بادرة قد تساعد في حال توفرت الارادة السياسية والنوايا الصادقة في إخراج البلاد من عنق الزجاجة وتجنيبها الوقوع في متاهات العنف السياسي والفتن التي بدأت تطل علينا... إنها بالتأكيد ثلاثة مشاهد لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها في الوقت الذي تتواصل فيه تحت قبة قصر باردو مناقشات نواب المجلس التأسيسي حول الدستور الذي يفترض أن يكون دستور تونس بعد 14 جانفي، الضامن لحقوق كل مواطنيها في أعقاب ثورة على الظلم والفساد والاستبداد ومن أجل الكرامة والحرية والديموقراطية. وهي أيضا مشاهد وإن بدت متباينة فإنها على ترابط وثيق وتعكس بشدة واقع المشهد المعقد في البلاد ومستقبل الحريات في ظل انعدام الوضوح وتراجع هيبة الدولة إلى درجة إثارة الهواجس والمخاوف في النفوس . رغم الخيبات المتتالية التي سبقت أو واكبت ذكرى 23 أكتوبر، الذي لم يكن يوم احتفالات ولا يوم انتكاسة أيضا، بل يوما شبيها بالأيام التي سبقته، لا يجب أن يكون الغد الذي نتطلع إليه في ظل الاحتقان الحاصل والتشكيك والاتهامات التي لا تكاد تخفت الا لتعود بأكثر حدة وبشاعة بين كل الاطراف المتصارعة على السلطة لتسمم الأجواء وتزيد أزمة الثقة الحاصلة بين الحاكم والمحكوم... لسنا نبالغ إذا اعتبرنا أن 23 أكتوبر كان موعدا استثنائيا مع تخمة في الخطب السياسية والنقاشات والحملات الانتخابية الدعائية السابقة لأوانها، والأمر لا يتوقف عند فئة أولى محدودة لا ترى في انتخابات 23 أكتوبر سوى فرصة للانقضاض على السلطة ثم قبر الديموقراطية نهائيا، ولا فئة ثانية لا ترى في نتيجة أول انتخابات ديموقراطية في البلاد سوى صكا على بياض لفرض خياراتها دون مساءلة أو محاسبة، بل ودون انتقادات أو رأي مخالف، ولا فئة ثالثة لا تزال تتحسس طريقها كمعارضة لم تنجح بعد في الاستفادة من كل الدروس التي مرت بها البلاد حتى الان... انتخابات 23 أكتوبر التي تركت بصماتها بقوة في ذاكرة كل التونسيين، الذين خرجوا قبل عام ليمارسوا حقهم الانتخابي بكل حرية ومسؤولية أمانة في أعناق كل الذين اشتركوا في انجاح الموعد وتلبية كل الاستحقاقات والتطلعات والاحلام التي رسموها على وقع ذلك اليوم. وفي انتظار أن تتضح الرؤية لدى صناع القرار، لا نملك الا أن نقول عسى ان يكون عيد الاضحى المبارك مناسبة لتجاوز الاختلافات والترفع على كل انواع الخطابات التحريضية البائسة والارتقاء بالخطاب السياسي الى ما ينفع البلاد والعباد ويحيي الأمل لدى كل التونسيين بمختلف انتماءاتهم السياسية والايديولوجية بأن تونس لكل ابنائها وأنها مستقبل وأمل الأجيال القادمة...