بقلم: الدكتور محمّد الحدّاد - من المسائل التي أثارت الجدل خلال النقاش الأخير المنعقد في رحاب المجلس الوطني التأسيسي، حضور كلمة "التدافع السياسي" في مسودة مشروع الدستور التونسي، فقد بدا للبعض أنها تعبّر عن وجهة نظر إسلامية، وهذا أمر يتطلب المراجعة والتصحيح، لإنّنا إذا أمعنّا النظروجدناها كلمة فاقدة لكل معنى ولا محلّ لها في هذا السياق لا من ناحية اللغة ولا من ناحية القانون، والأهم أنه لا يوجد ما يبرّر وجودها من ناحية الشرع أيضا. فأما لغة، فلأنّ التدافع يحمل معنى القوة والعنف، وادفعوا أي أزيلوا، يرد في "لسان العرب" لابن منظور، وهوأهمّ معجم في اللغة العربية والمعتمد في تدقيق مفرداتها وتراكيبها: "الدفع الإزالة بقوّة... وتدافع وتدافعوا الشيء دفعه كلّ واحد منهم عن صاحبه، وتدافع القوم أي دفع بعضهم بعضا". وفي الاستعمالات اللغوية الحديثة يقال مثلا في المباريات الرياضية: "تدافع الجمهورأمام الملعب". والتدافع في العربية يعني بالضبط ما يقال له بالدارجة التونسية "الدزّان". فلا يليق في الدستورأن نحيل على صورة فيها العنف والتعدّي على الآخر وقلّة النظام والانضباط، لا سيما أن أصل الدستور هو إقامة النظام العادل والمنضبط للممارسة السياسية السليمة. وأمّا قانونا، فإن الدساتير تكتب في لغة واصطلاحات معلومة عند أهل الاختصاص، ولا نجد كلمة تدافع في دساتيرالدول الديمقراطية، ولا في المعاجم والموسوعات المخصصة للمصطلحات القانونية والدستورية. ومن المعلوم أن لغة الدستور ليست لغة إنشائية أدبية بما أنه يترتّب عليها نتائج قانونية، فلا بدّ أن تكون لغة قانونية دقيقة. ويتأكّد الأمر إذا ما اعتبرت توطئة الدستور جزءا منه، فلا يصحّ أن يكتب إلا باللغة التي يعتمدها أهل القانون. وأما شرعا، فإنّ البعض يظنّ أنه يستمدّ الكلمة من القرآن الكريم، وهذا خطأ كبيرفي الفهم وتشويه لمعاني القرآن. فقد ورد في الآية 251 من سورة البقرة: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". وورد في الآية 40 من سورة الحج: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا". وقد أجمع المفسرون على أن الدفع (وفي قراءة: دفاع) يقصد به القتال بين الكفار والمسلمين، فقد وردت الآية في سورة البقرة مباشرة بعد قصة طالوت وجالوت التي قتل فيها داود المؤمن ملكا كافرا، فهي قصة ترمز لصراع الشرّ والخير والكفر والإيمان. يقول الطبري في تفسير كلمة "دفع" : "ولا شك أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده محاولين مغالبة حزب الله وجنده، وكان في محاولتهم ذلك محاولة مغالبة الله ودفاعه عمّا قد تضمن لهم من النصرة، وذلك هو معنى مدافعة الله عن الدين دافع الله عنهم بمن قاتل جالوت وجنوده من أوليائه". فالتدافع هو بين الكفّار والمؤمنين، وبين حزب الله وحزب الضلال، وهذا أمر يخرج بنا عن مضامين الدستور ومتطلباته. وهذا المعنى الذي قرّره الطبري قد ذهب إليه كلّ كبار المفسّرين، يقول الزمخشري: «ولولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ويكيّف بهم فسادهم لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطّلت مصالحها من القوت والنسل وسائر ما يعمرالأرض. وقيل: ولو لا أن الله ينصر المسلمين على الكفّار لفسدت الأرض...». ويقول فخرالدين الرازي:" الدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدي فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر". ويقول الشيخ الطاهر ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير": "إنّ دفاع الناس بعضهم بعضا يصدّ المفسد عن محاولة الفساد، ونعني شعور المفسد بتأهّب غيره لدفاعه يصدّ عن اقتحام مفاسد جمّة". فقد اتضح أنّ التدافع لدى المفسّرين الذين تعتمد أقوالهم إنما هو محاربة الكفر بالإيمان والفساد بالصلاح والشر بالخير، فلا علاقة له أصلا بالسياسة والمنافسة الحزبية والمسارالديمقراطي. فليس موضوع السياسة الكفر والإيمان، ولا تنقسم الأحزاب السياسية إلى حزب الله وأنبيائه وحزب الشيطان وأوليائه، وإنما الأحزاب جميعا تعبّر عن وجهات نظر مختلفة في تسيير البلد، وتتنافس بينها لضمان التسيير الأفضل. ولم يتحدّث القرآن في الآيتين المذكورتين عن العمل السياسي، وإنما تحدّث عن صراع الكفروالإيمان، فإذا طبّقنا المفهوم القرآني خارج سياقه الأصلي فسيترتّب على ذلك تقسيم الأحزاب السياسية بين كافر ومؤمن وخيّر ومفسد، وسنسلّم لأحدها بأنها "حزب الله" كما قال الطبري-، الذي يدفع أحزاب الشيطان، وسنجعل رئيس ذلك الحزب في مقام الأنبياء الذين نشروا التوحيد، فأيّة علاقة لهذه الصورة بدستور دولة ديمقراطية مدنية قائمة على التعددية الحزبية؟ ثم إن تحريف المعنى القرآني الأصلي لغاية سياسية حزبية إنما حصل مع سيّد قطب في تفسيره "الظلال"، فقد خرج على إجماع المفسرين وزعم أن الدفاع المذكور في الآية إنما يحصل "بقيام الجماعة الخيّرة المهتدية المتجرّدة، تعرف الحق الذي بيّنه الله لها، وتعرف طريقها إليه واضحا، وتعرف أنها مكلّفة بدفع الباطل وإقرارالحقّ في الأرض، وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلاّ بأن تنهض بهذا الدور النبيل وإلا أن تحتمل في سبيله من تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لمرضاته"، وهو يقصد بذلك "جماعة الإخوان المسلمين". ولا يخفى ما ترتّب على هذه الانحرافات بالمعنى القرآني من انتشار النظريات التكفيريّة، والخلط بين العمل السياسي القابل للاختلاف والتعدّد، والعمل الدعوي الذي يرتبط بثوابت العقيدة. فالخلاصة: إن كلمة تدافع لا محلّ لها في نصّ الدستور ونقترح استبدالها بعبارة:" المنافسة السياسية" أو"المنافسة السياسية المنضبطة بأحكام الدستور". جامعي ورئيس المرصد العربي للأديان والحريات