تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الذكرى الخمسين لوفاة العلامة التونسي محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق (1-2)
نشر في الصباح يوم 24 - 02 - 2008

مرت خلال الأسبوع الأول من فيفري 2008، الذكرى الخمسون لوفاة العلامة التونسي محمد الخضر حسين، شيخ جامع الأزهر السابق (2 فيفري 1958 2 فيفري 2008).
وفي هذا الإطار، تعتزم الجمعية التونسية للدراسات والبحوث حول التراث الفكري التونسي بإشراف رئيسها المثقف والجامعي المتميز الدكتور كمال عمران، تعتزم تنظيم ندوة علمية خلال هذه السنة بمشاركة باحثين تونسيين وجزائريين ومشارقة للتعريف بهذه الشخصية العلمية التي تجاوزت الحدود وبلغت أوج الشهرة والمجد العلمي والثقافي خلال النصف الأول من القرن الماضي.
ولا يحتاج إلى تأكيد أهمية منصب علمي مثل مشيخة جامع الأزهر الشريف، هذه المؤسسة الدينية والعلمية التي كان مجرد الدراسة فيها والتعلم بها يعتبر شهادة امتياز وتقدير.
ومما يستحق الإشادة في هذا المجال أن الشيخ محمد الخضر حسين لم يطلبها ويعمل من أجلها بل جاءته هذه الخطة ساعية إليه من خلال الوفد الوزاري الذي أرسله إليه الرئيس جمال عبد الناصر في سبتمبر 1952 بقيادة الوزير الشيخ الباقوري عارضا عليه تولي هذه الخطة، فاعتذر فألحّ عليه وهو صديقه القديم بما معناه : إن الثورة تهدف إلى بناء مجتمع جديد وهو أحد جنودها ولا يمكن له أن يعتذر عن المساهمة في هذا البناء...
فقبل عندئذ تولي مشيخة الأزهر وبقي يباشرها إلى سنة 1954، ثم استقال منها متعللا بكبر سنه... لكن السبب الحقيقي كان اختلافه مع مجلس قيادة الثورة في قضايا عديدة منها وضع المحاكم الشرعية. ومما يذكر عنه في هذه المرحلة من حياته، أن اللواء محمد نجيب قد زاره في بيته بحكم العلاقة القائمة بين الرجلين قبل الثورة ثم طلب منه بعض الأصدقاء القيام بزيارة اللواء نجيب في مقر مجلس قيادة الثورة، فكان جوابه : شيخ الأزهر لا ينتقل إلى مقر السلطة... بل على السلطة أن تنتقل إليه لأنها هي التي تحتاجه...
حياة ثرية ونشيطة
إن كل من تعرف على هذه الشخصية من خلال البحث والدراسة يتبين مدى غزارة حياتها وثرائها، إذ هو العالم في القضايا الشرعية وفي اللغة والأدب، وهو الشاعر... والمحاضر... والرحالة... وكاتب المقالة... والمناضل المغاربي السياسي...
فقد قال عنه أحد علماء الأزهر الكبار الشيخ اللبان عند إلقائه درسا في " القياس في اللغة العربية " وهو البحث الذي تأهل به للدخول إلى هيئة كبار العلماء... وهي أعلى هيئة علمية بالجامع الأزهر. قال الشيخ اللبان : " هذا بحر لا ساحل له فكيف نقف معه في حجاج ".
ونظرا إلى أن هذا العلامة هو كما قال عنه أحد زملائه " هو رجال في رجل "، فإننا في هذه المناسبة الذكرى الخمسين لوفاته سنكتفي بالإشارة بإيجاز إلى بعض الجوانب (1):
1) إن جذور هذه الشخصية وأصول عائلته هي أصول جزائرية من بلدة طولقة من منطقة الزاب على الحدود الجزائرية التونسية... وهي منطقة واحات النخيل المجاورة لمنطقة الجريد بالجنوب التونسي... وهو ما يجعل المتجول في إحدى هذه الواحات لا يستطيع التفريق بين هاتين المنطقتين : نخيلا، بشرا، عادات، أنواع الأطعمة والمأكولات... إلخ.
2) انتقل جده للأم الشيخ مصطفى بن عزوز إلى بلدة نفطة خلال النصف الأول من القرن 19م، واستقر بها، وبنى بها زاويته الشهيرة القائمة إلى اليوم... وانطلاقا منها قام بنشر الطريقة الرحمانية.
وقد أشار الشيخ إبراهيم خريف (والد الأديبين البارزين مصطفى خريف والبشير خريف) في كتابه " المنهج السديد في التعريف بقطر الجريد " (مخطوط) إلى الحظوة الكبيرة والعناية الفائقة التي استقبل بها علماء نفطة ورجالها الشيخ مصطفى بن عزوز.
وكان لهذا الشيخ مكانة خاصة ومتميزة لدى العلماء والشيوخ في مختلف أنحاء البلاد التونسية وكذلك لدى سلطة البايات وهو ما أهله للقيام بدور فاعل للوساطة بين باي تونس وعلي بن غذاهم أشار إليها بتفصيل ابن أبي الضياف في ج5 من كتاب الإتحاف.
3) كان أيضا جد محمد الخضر حسين للأب علي بن عمر من علماء طولقة وشيوخها، وله حاليا زاوية باسمه في هذه المدينة، هي من أكبر الزوايا التي زرتها أخيرا بمنطقة الزاب... وبها مكتبة ثرية جدا بالمخطوطات العلمية والأدبية النادرة... ويشرف على شؤونها عالم جليل هو الشيخ عبد الرحمان العثماني.
4) إذن كانت العائلة التي ينتسب إليها علامتنا من أعظم العائلات وأعرقها علما وورعا... إذ إضافة إلى ما ذكرنا، فإن الشيخ محمد بن عزوز والد الشيخ مصطفى بن عزوز... هو العالم والورع المتصوف المعروف ب " نور الصحراء " وزاويته الشهيرة قائمة إلى اليوم.
ومن أبرز أبناء هذه العائلة أيضا الشيخ المكي ابن عزوز (خال محمد الخضر) الذي كان من علماء جامع الزيتونة وأحد قضاة مدينة نفطة... والذي ارتحل فيما بعد إلى الأستانة واستقر بها للتدريس... وكان من أبرز وجهائها إلى أن توفي بها ودفن هناك.
5) ولد الشيخ محمد الخضر حسين بمدينة نفطة يوم 26 رجب سنة 1293 ه/21 جويلية سنة 1873م. واسمه الأصلي : محمد الأخضر بن حسين، وقد حدث تحوير في الاسم على مرحلتين :
- الأولى: منذ طفولته، عندما أبدل لفظ " الأخضر " ب"الخضر"، تيمنا ب"الخضر" الذي رفعه القران الكريم إلى درجة الأنبياء ويحظى عند رجال التصوف بمكانة خاصة.
- أما التحوير الثاني الذي حدث في صيغة الاسم فبحذف لفظ " الابن " وذلك عندما هاجر إلى المشرق العربي واستقر به (دمشق ثم القاهرة) مسايرة لأسلوب المشارقة في التسمية مثل: طه حسين...
6) تلقى تعلمه الابتدائي بنفطة على يد خاله خاصة الشيخ محمد المكي ابن عزوز، وعلى مؤدبين وشيوخ من أبرز مؤدبي وشيوخ نفطة في ذلك العهد.
وتجدر الإشارة إلى أن مدينة نفطة التي كانت تسمى بالكوفة الصغرى (في كتب الرحالة العرب)، ومنطقة الجريد عامة : توزر، دقاش، كانت كلها زاخرة بالعلماء والأدباء والشعراء.
7) عندما بلغ محمد الخضر سن 13 من عمره انتقلت العائلة سنة 1307ه/1886م إلى العاصمة تونس لتمكينه وإخوته من مواصلة الدراسة بجامعة الزيتونة... وكان خاله الشيخ محمد المكي ابن عزوز مدرسا متطوعا بالجامع الأعظم وصاحب منزلة وتقدير لدى أبرز شيوخ هذه المؤسسة العلمية.
8) تخرج محمد الخضر حسين من جامع الزيتونة بنجاحه في شهادة التطويع سنة 1316ه/1898م. وكان لهذه المرحلة الزيتونية من حياته شديد التأثير في مساره العلمي والفكري والأدبي أشاد به في عديد المناسبات (انظر كتابه " تونس وجامع الزيتونة ") وخاصة انبهاره وتعلقه بشيوخه الكبار:
- الشيخ سالم بوحاجب (ت: 1343ه/1925م).
- الشيخ عمر بن الشيخ (ت: 1329ه/1911م).
- الشيخ محمد النجار (ت: 1329ه/1911م).
المرحلة التونسية
أشار العلامة محمد الخضر حسين إلى مراحل حياته في مناسبات عديدة وهي ثلاثة :
I- المرحلة التونسية :
وقد امتدت طيلة 40 سنة، من ولادته بمدينة نفطة بالجريد سنة 1873م إلى هجرته النهائية إلى المشرق العربي سنة 1912م.
وقد قال العلامة محمد الفاضل بن عاشور عن هذه المرحلة التأسيسية لشخصية صاحبنا:
"تميزت هذه المرحلة الأولى من حياته التي قضاها بتونس بالتعلم والتثقف، فتكونت شخصيته ونضجت أفكاره، واشتهر في الأوساط العلمية باعتداله وهدوء طبعه وخلوص نيته وسعة علمه وبراعة قلمه".
ولئن باشر التدريس بالجامع الأعظم خلال هذه المرحلة، وكذلك بالمعهد الصادقي، وتقلد خطة القضاء بمدينة بنزرت تلبية لطلب صديقه الحميم العلامة محمد الطاهر ابن عاشور ثم استقال منها سريعا لعدم تلاؤم شخصيته وبيئته العائلية والعلمية مع ضوابط الوظائف الرسمية وحدودها، وانشغاله الأساسي بالعلم والأدب والثقافة درسا وتدريسا وتعلما وتعليما.
لئن قام بكل ذلك وبغيره خلال هذه المرحلة التونسية، فإننا نعتقد تأكيدا لما قاله العلامة محمد الفاضل بن عاشور أن من أهم ما يستحق الإشادة والذكر في هذه المناسبة الخمسينية :
أ) بداية بروزه في مجال الدعوة إلى إصلاح المجتمع الإسلامي من خلال المسامرات والمحاضرات والتي من أشهرها:
- "الحرية في الإسلام": التي ألقاها بنادي "جمعية قدماء الصادقية" سنة 1906م ونشرت سنة 1909م، ونالت اهتمام جميع الأوساط العلمية والثقافية في ذلك العهد.
- "حياة اللغة العربية": والتي ألقاها بنادي الجمعية نفسها خلال سنة 1909م.
ب) إصدار مجلة "السعادة العظمى" (2) والتي هي في نظرنا أهم إنجاز قام بتحقيقه في مرحلته التونسية والتي قال عنها العلامة محمد الفاضل ابن عاشور :
"... كان ظهورها في معمعة تلك الخلافات كطلوع الحكم العادل تنزهت به المجادلات عن الفحش، وتطهرت من الهمز واللمز وتسامت عن التشهير والأذى الشخصي".
ويقصد شيخنا ابن عاشور بهذا القول محاولة مجلة " السعادة العظمى " وبالتالي صاحبها الشيخ محمد الخضر حسين التعامل بهدوء ورصانة مع الخلاف الذي كان وقتها محتدما بين الإصلاحيين والمحافظين حول قضايا فكرية ودينية عديدة مما جعل أصحاب التيارين وأنصارهم " المتطرفين " يخاصمون المجلة وصاحبها (وهو موضوع يحتاج إلى بحث خاص)... باستثناء صديقه الوفي العلامة محمد الطاهر بان عاشور. وقد كانت بينهما مودة استمرت طيلة حياتهما... هذه المودة التي تبرز في الرسائل التي كان يوجهها إمام الجامع الأزهر إلى إمام الجامع الأعظم، جامع الزيتونة...
وأغتنم هذه المناسبة لأشير إلى أن هذه المودة والوفاء والتقدير قد لمستها شخصيا خلال إعداد كتابي عن الخضر حسين والجلسات العديدة التي خصصها لي المرحوم العلامة محمد الطاهر ابن عاشور ببيت ابن عاشور العامر بالمرسى... وتمكيني من معلومات وتدقيقات علمية وتاريخية نادرة لم تكن متوفرة لغيره من العلماء والشيوخ والمؤرخين... فله منا رحمه الله كامل الثناء والتقدير، ولهذه العائلة آل ابن عاشور التي مكنت تونس والعالم الإسلامي وما زالت من خيرة العلماء والباحثين في عديد المجالات العلمية والثقافية والفكرية والقانونية... إلخ.
ج) العناية البارزة بمجال الإصلاح الديني والاجتماعي والتربوي.
وقد تجلى ذلك بالدعوة إلى الإصلاح من خلال المحاضرات والمسامرات والمقالات...
أما في الميدان التربوي فقد كان منشغلا بإصلاح التعليم الزيتوني، منذ حياته الطالبية... وبعد تخرجه من الجامع الأعظم كان من بين شيوخ الزيتونة وعلمائها العاملين على تطوير التعليم مضمونا وأسلوبا ومنهجا.
وفي هذا الإطار، شارك في تكوين جمعية " تلاميذ جامع الزيتونة " سنة 1324ه/1906 م إضافة إلى نخبة من العلماء في مقدمتهم العلامة محمد الطاهر ابن عاشور... وخلال سنة 1325ه/1907م انحلت هذه الجمعية وتكونت جمعية جديدة باسم " الجمعية الزيتونية "، تولى رئاستها الشيخ ابن عاشور وعضويتها العلماء : الطاهر النيفر، محمد رضوان، محمد النخلي، محمد الخضر حسين، أبو حسن النجار...
وفي هذا الإطار الإصلاحي التربوي يتنزل كتاب " أليس الصبح بقريب " لشيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور.
IIالمرحلة السورية :
وهي المرحلة الثانية من حياة العلامة محمد الخضر حسين والتي امتدت طيلة 8 سنوات، من سنة 1912م إلى سنة 1920م.
وقد كانت حسب تعبير العلامة محمد الفاضل ابن عاشور مرحلة التنقل والترحال والاكتشاف... والنضال السياسي.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن أسبابا عديدة دفعت بالشيخ الخضر حسين إلى الهجرة إلى المشرق العربي منها انتقال عائلته إلى دمشق والاستقرار بها سنة 1911م، وهي حاليا من أشهر العائلات علما وورعا وقيمة ثقافية وفي مقدمة هذه الأسرة التونسية السورية الأستاذ الكبير والمحامي المتميز والأخ العزيز علي رضا الحسين التونسي الذي سخر جهوده العلمية والمعرفية وكل إمكانياته المادية لتحقيق وجمع ونشر آثار عمه العلامة الخضر حسين وكذلك آثار والده الشيخ زين العابدين بن الحسين وأعمال آل عزوز والحسين، وهي الجهود التي من أجلها قلده الرئيس زين العابدين بن علي وساما ثقافيا متميزا، ومن أجلها استحق كامل التقدير من أبرز الجامعيين والمثقفين العرب والمسلمين المعنيين بتراث هذه الأمة وبرجالها الأجلاء مثل علامتنا محمد الخضر حسين.
وقد كانت هذه المرحلة السورية مليئة بالنشاط العلمي والثقافي والتنقل والترحال وبالخصوص بالنضال السياسي.
ونظرا إلى ضيق المجال، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى أبرز ما تميزت به هذه المرحلة :
1) منذ حلوله بالعاصمة السورية دمشق واستقراره عند اخوته وعائلته، واصل نشاطه العلمي والثقافي بالتدريس بالمدرسة السلطانية، وهي من أبرز المعاهد العلمية ومن أشهر من درّس بها الإمام محمد عبده.
كما واصل إلقاء المحاضرات في الجامع الأموي، وكتابة المقالات بالصحف السورية.
ومن الجدير بالذكر أن قدومه إلى الشام وجد حظوة كبيرة لدى العلماء والمثقفين السوريين.
2) كان من أبرز الداعين إلى تمتين الروابط بين العرب والأتراك في إطار الأمة الإسلامية، وسخر جهده الإعلامي والثقافي في هذا الإطار، وهو ما عبر عنه في قصيدته الشهيرة " بكاء على مجد ضائع".
3) كان حاكم سوريا في تلك المرحلة التركي جمال باشا المعروف بتعسفه وجبروته. وقد أدخل العديد من العلماء والمفكرين السجن منهم الشيخ الخضر حسين.
وعند إطلاق سراحه بعد ثبوت براءته، عاد إلى التدريس والمحاضرات العلمية والثقافية.
4) سافر إلى عاصمة الخلافة العثمانية الأستانة حيث عمل منشئا عربيا بوزارة الحربية.
5) كان استقرار خاله وأستاذه الشيخ محمد المكي بن عزوز بالأستانة والمكانة التي كان يتمتع بها لدى الباب العالي ولدى أبرز العلماء والساسة بعاصمة الخلافة الإسلامية وقتئذ، كل ذلك ساعد الخضر حسين على حصوله على ثقة الباب العالي مما جعل السلطة التركية تعهد له بمهمة في ألمانيا التي كانت في الحرب العالمية الأولى حليفة لتركيا ضد فرنسا.
6) سافر الخضر حسين إلى ألمانيا واستقر ببرلين صحبة عدد من العلماء المسلمين منهم الشيخان صالح الشريف وإسماعيل الصفائحي. وكان الهدف من هذه البعثة العلمية تحقيق رغبة السلطة العثمانية في تكوين تنظيمات ثورية شعبية من المغاربة المقيمين بألمانيا ضد الاستعمار الفرنسي في بلدان شمال إفريقيا.
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى صلة الشيخ الخضر حسين بالأخوين المناضلين محمد وعلي باش حامبة واتفاقهم مع بقية المغاربة المقيمين وقتها بالأستانة وبرلين على ضرورة الدفاع عن الخلافة الإسلامية ومجابهة الاستعمار الفرنسي.
وفي هذا الإطار، يندرج تكوين " اللجنة التونسية الجزائرية " التي وجهت إلى مؤتمر الصلح المنعقد بباريس سنة 1917م تقريرا مفصلا تحت عنوان " مطالب الشعب الجزائري التونسي " وبإمضاء مجموعة من المناضلين المغاربيين منهم : محمد باش حامبة، محمد الخضر حسين ، صالح الشريف...
7) عندما سقطت تركيا في أيدي الحلفاء، عاد الشيخ الخضر صحبة عدد من زعماء الحركة الإسلامية من ألمانيا إلى الأستانة ومنها إلى دمشق. وقد أثر هذا الحدث في نفسه التأثير البالغ لما كان يعلقه من آمال عريضة على الباب العالي في مساعدة القضايا الوطنية التحريرية بالعالم العربي وخاصة بشمال إفريقيا، وكذلك لما كان يؤمن به من ضرورة تدعيم الخلافة الإسلامية وتقويتها لما في ذلك من دعم للدين الإسلامي وتقوية له.
8) عند عودته إلى دمشق واصل نشاطه العلمي والثقافي والإعلامي. كما وقع تعيينه عضوا مؤسسا للمجمع العلمي العربي بدمشق الذي عقد جلسته الأولى يوم 30 جويلية 1919م. وبقي عضوا عاملا بهذا المجمع مدة إقامته بالعاصمة السورية ثم أصبح عضوا مراسلا عند انتقاله إلى القاهرة واستقراره بها سنة 1920م.
9) عند احتلال الجيش الفرنسي لسوريا إثر معركة ميسلون يوم 24 جويلية 1920م، أصبحت إقامة الخضر حسين بدمشق معرضة للخطر، وهو المتابع من السلطات الفرنسية من تونس، ثم لنشاطه السياسي بالأستانة وبرلين. ولذلك رغم حنينه إلى وطنه تونس، فقد قرر الانتقال إلى مصر والاستقرار بها. فقد كانت القاهرة مقر الجامع الأزهر وكعبة العلماء والباحثين، ولذلك قال في مقدمة كتابه " نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم":
" وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وأخذت البلاد العربية والتركية هيأة غير هيأتها، هبطت مصر فلقيت على ضفاف وادي النيل علما زاخرا وأدبا جمّا ".
(يتبع)
(1) محمد مواعدة: "محمد الخضر حسين: حياته وآثاره" ط1 تونس 1974، قريبا طبعة جديدة مفصلة في جزئين.
(2) نجاة الحامي بوملالة: مجلة "السعادة العظمى"، بحث جامعي متميز عن هذه المجلة وظروف صدورها وتوجهاتها الدينية والفكرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.