في جزأين،الأوّل بغلاف وردي والثاني بغلاف أزرق سماوي أصدر المركز الوطني للإتصال الثقافي (التابع لوزارة الثقافة) وفي إطار السلسلة الثقافية الفصلية" ذاكرة وابداع" كتابا جديدا بعنوان "تونس في تراجم أعلامها" من تأليف محمد الصالح المهيدي إعداد ودراسة أنس الشابي. وإذ يعتبر الكتاب مرجعا مهما يمكن أن يستفيد منه الباحث المتأني وكذلك المتلقي المتعجّل خاصة من جيل يعوزه الصبر حتى يأتي على الكتب الطويلة ذات المئات من الصّفحات فيعود الفضل في ذلك لرجلين اثنين. أولا الكاتب والصحفي محمّد الصالح المهيدي الذي قدم تراجم مختزلة ولكنها هامة جدا لعدد كبير من أعلام تونس من مفكرين واعلاميين وأدباء وعلماء وفقهاء وغيرهم من رجالات العلم والثقافة في تونس الذين عاشوا فيما بين أواخر القرن التاسع عشر والمنتصف الأول للقرن العشرين. وثانيا الأستاذ أنس الشابي الباحث في العلوم الدينية والمهتم بتاريخ الصحافة العربية والتونسية منها بالخصوص إضافة إلى مساهمته بالكتابة حول عدد من الشعراء بالجنوب التونسي الذين خصهم بمعجم صادر عن مؤسسة البابطين للشعر العربي وهو بعنوان: "معجم الشعراء الراحلين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر"، وتكمن أهميّة العمل الذي قام به أنس الشّابي في أنه جمع النصوص التي تركها الكاتب والإعلامي الرّاحل محمد الصّالح المهيدي. وهي وثائق هامة وشهادات على العصر كتبت بأسلوب واضح وبرغبة جلية في حفظ الذاكرة وضعها أنس الشابي بين يدي القارئ وهي تجمع بين المخطوط والمنشور وقد قام المؤلف بانتقاء مجموعة من التراجم من بين ما يفوق مائة ترجمة تركها الراحل ذلك أنه استثنى مثلا تراجم الكتاب الأجانب. وكان محمد الصالح المهيدي وهو من أبناء الجنوب التونسي ومن مواليد نفطة تحديدا (يختلف الرّواة حول تاريخ ميلاده حسب ما أشار إليه أنس الشابي والمرجّح أنه ولد سنة 1905 وتوفّي سنة 1969 ) من أبرز الأقلام التّي نشطت بالسّاحة الإعلاميّة الوطنيّة حتّى أن الهادي العبيدي قال في أربعينية الكاتب وفق ما نقله أنس الشابي في مقدمة الكتاب: "إن نكبة الصحافة التونسية بفقده نكبة عظمى لأنها فقدت قلما رشيدا وعقلا مشحونا بالمعرفة الشاملة ". ونقرأ في مقدمة الجزء الأول من الكتاب كذلك أن الراحل كان صاحب حضور لافت في الساحة وأنه حول مثلا جريدة "الزمان" التي أدارها من 1932 إلى 1934 إلى جريدة أدبية اجتماعيّة صحبة نخبة من الصّحفيين والأدباء كالهادي العبيدي وعبد الرزاق كرباكة ومحمود بيرم التونسي وعبد العزيز العروي وغيرهم. وشدد الباحث على استقلالية الرجل عن الأحزاب السياسية وقال أنه باستثناء "الجبهة القوميّة الحرّة" التي انتمى إليها والتي تقول الوثائق بأنها ليست حزبا سياسيا وإنما حركة سياسية تطالب بالإستقلال التّام لم ينتم الكاتب إلى أي حزب سياسي. مساهمات غطت أغلب الصحف والمجلات وكان الرّاحل محمد الصّالح المهيدي قد تلقّى تعليما زيتونيّا وتتلمذ على يد مشايخ العلم الكبار بجامعة الزيتونة وتعرّض أنس الشابي إلى أغلبهم وهم من المشهود لهم بالعلم والمعرفة والكفاءة في التدريس. وشغل وظائف بالإدارة التونسيّة كما صدرت له مجموعة من المؤلفات لعل أبرزها كتاب "الجريد التونسي ماضيه وحاضره" وله مجموعة هامة من المحاضرات في شتى المواضيع الثقافية والإجتماعية ولم ينقطع طيلة أربعين سنة وفق ما أكّده أنس الشابي عن الكتابة والنّشر فقد غطت مساهماته أغلب الصّحف والمجلّات العربيّة التي صدرت قبل الإستقلال وبعده. وعدّد أنس الشابي المجلاّت والصحف والدوريات التي ساهم فيها الرّاحل فكانت القائمة طويلة ونذكر من بينها على سبيل الذكر "الصباح" و"العمل" و"الثريّا" و"المباحث" و"الزهرة" و"النهضة" و"العزة" و"مرآة الساحل" و"بلادي" وغيرها.. وقد أثنى أنس الشابي على جهد صاحب التراجم فقال أنه كان" متصديّا للمحافظة على ذاكرة الأمة من التّلاشي والإندثار وذلك بالترجمة لقادة العمل الفكري والعام والتعريف بهم". وفسر الباحث اهتمام الراحل المهيدي بتناول هذه الشخصيات بالترجمة والتعريف بها بقيمتها وبدورها في فترة مهمة من تاريخ تونس المعاصر فهي تنتمي إلى "تلك النخبة من المثقفين التي تكونت في النصف الأوّل من القرن العشرين ببلادنا الذي كان مفعما بالحيوية وشهد ميلاد نخبة من المثقفين كانت لهم الريادة كل في مجاله". انطلق الكتاب في قسم التراجم بشخصية الشيخ محمود قبادو الشريف تلتها شخصية محمد بيرم الخامس ثم حسن المزوغي فعمر ابن أبي بكر إلخ... وافتتح الجزء الثاني من الكتاب بتناول شخصية محسن زكريا محمد المقداد الورتتاني ثم الصادق التلاتلي فمحمد الأخضر البرقاوي وغيرها حيث تتالي التراجم وفي أغلبها أتت مرفوقة بصور لأصحابها والقائمة طويلة جدا ويمكن للقارئ المهتم أن يعثر فيها على ضالته فالكتاب يضم تراجم لعلماء ومشايخ ورجال الفكر من مختلف مناطق البلاد. طبعا يتعرّض كل نص إلى مسيرة صاحبه وتكون الإنطلاقة عادة بالتعريف بالأصل والموطن والعائلة ثم يقع التطرق لمراحل التكوين ثم التجربة العلمية أو الإبداعية والمواقف وبعض مما تركوا من آثار. كل ذلك بشكل مختزل أي ما يكفي لتتكوّن للمتلقي صورة واضحة حول شخصيات بلادنا التي وإن كانت لها اسهامات جليلة في خدمة الثقافة والتربية والمعرفة فإنها ليست بالضرورة معروفة لدى جيل اليوم إذا ما تركنا جانبا الباحثين المختصين بطبيعة الحال.