قانون تحصين الثورة ليس بدعة تونسية مستحدثة كما يحاول البعض الإيهام بذلك. فإثر الثورات أو الكوارث الكبرى كالهزائم في الحروب مثلا تحاول الشعوب استخلاص العبر من الماضي لبناء المستقبل على أسس سليمة. فقد وقع تجريم النازية والفاشية إثر سقوطهما ومحاكمة أبرز أتباعهما واستبعاد المتواطئين معهما من الحياة السياسية كما لحقت هؤلاء الأخيرين، مهما كانت درجة مسؤوليتهم الإدانة الأخلاقية والمعنوية وهو ما يسميها النائب السويسري زيغلار «قوّة العار» le pouvoir de la honte وهو ما كان سيحدث لدينا دون أدنى شك إثر الثورة مباشرة لو أنه كان لها «رأس» أي قيادة. فمن المسلّم به أن فترة حكم بن علي كانت وخصوصا خلال عقدها الأخير جريمة في حق البلاد والعباد وأن الدولة تحولت حينها إلى منظمة مافيوزية حقيقية ومؤسسة سلب ونهب لمقدرات البلاد وخيراتها ضاعت خلالها المصالح العليا للوطن والشعب لفائدة عصابة منظمة. وما كان لهذه العصابة المحدودة العدد أن تفسق بتلك الطريق وأن تعبث على هواها، لو لا اعتمادها على «فيلق» كبير من الانتهازيين في كل القطاعات في الأمن والإعلام والثقافة والإدارة والقضاء وغيرها من الميادين ممن باعوا ضمائرهم للشيطان من أجل مطامع دنيوية آنية تافهة فخلال العشرية الأولى من حكم بن علي كان يمكن للبعض أن يتعلل بأنه «لم يكن يعلم» أو أنه كان يعتبر بن علي «أهون الشرور» أي أن قراءة حسن النية في البعض منهم كانت ممكنة قبل نهاية الألفية على أقصى تقدير. أما بعدها فإن طبيعة النظام توضحت بصفة جلية لعموم الشعب، وأصبحت فضائح النظام و»العائلة» على كل لسان من أقصى البلاد إلى أقصاها وتيقن الشعب ومن كانوا في خدمة الطاغية قبل غيرهم طبعا بطريقة لا لبس فيها من لا وطنية النظام والماسكين بمقاليده وأن مصالح البلد وشعبها تأتي في آخر اهتماماتهم، هذا إذا كانت موجودة أصلا في قائمة هذه الاهتمامات، كما أصبحت بلادنا أضحوكة في العالم الخارجي، إذ أن إبتزاز «العائلة» شمل حتى الشركات الأجنبية المنتصبة بها. وشيئا فشيئا اهترأت صورة النظام لدى عموم الشعب وسقطت ورقة التوت نهائيا عن عوراته وسوآته وهو ما مثل «مهدا» لطوفان الثورة الجارف لذا فإن المحاسبة تبقى هي أيضا من أوكد أولويات الثورة. محاسبة قانونية فردية، ولكن أيضا محاسبة أخلاقية فردية وجماعية هدفها ليس الانتقام والتشفي كما يدعي البعض عن سوء نية واضحة بل أولا لتحصين الثورة من هؤلاء الذين تعوّدوا العيش في القذارة والعفن والذين يهدد كل إصلاح حقيقي وجذري يهدد مصالحهم الضخمة التي تحصلوا عليها بالفساد والمحسوبية وثانيا لبناء سلّم قيم جديدة في المجتمع تقوم على مبدإ المسؤولية la responsabilisation. فقد قامت الثورة أساسا ضد بن علي وحزبه وآلة قمعه و»مرتزقته» في ميادين القضاء والإعلام والأمن وما يلاحظ اليوم أمام تأخر قطار المحاسبة، والأخذ والردّ والتجاذبات حول هذا الموضوع، أن أزلام النظام في هذه القطاعات وغيرها «رجعت فيهم الروح» وهم حاليا بصدد محاولة اكتساح نفس المواقع التي كانوا يحتلونها من قبل وأن أصواتهم بدأت ترتفع أكثر فأكثر كل يوم مشوشة على المسار الطبيعي للثورة... المتمثل أساسا في تشريح أخطاء الماضي لتحديد المسؤوليات والإتعاظ منها حتى لا تتكرر إلى ما لا نهاية له. وما يلاحظ أيضا اليوم هو أن من كانوا يعتبرون لدى عموم الشعب، ولدى مناهضي نظام بن علي الرموز الحقيقيين للظلم والفساد أي من كانوا «يبسّسون» أي يمهدون الطريق للمافيا الحقيقية الفعلية للنظام أصبحوا وهو ما كان لا يمكن حتى تصوره وتخيله إثر الثورة يجدون اليوم من يدافع عنهم وعلى هذه الوتيرة وإن غدا لناظره لقريب سنشاهد قريبا وقريبا جدا من سيدافع عن المافيا نفسها ومن سيحاول إيجاد الأعذار !! وإن عدم نشر «القائمات السوداء» لمن تعاملوا مع المخابرات ل»بيع» مواطنيهم وتعريضهم للإيقاف والتعذيب ولمن قبضوا من النظام لتلميع صورته من الإعلاميين ولمن «ترفكوا» القضايا من القضاة ولمن عذبوا بأيديهم مواطنيهم له دور كبير في عودة الشجاعة إلى هذا «الطابور الخامس» إلا أنه لا يجب أن تقف وراء قانون تحصين الثورة أي حسابات سياسية وأي تفصيل على المقاس وأي ألاعيب حزبية أو شخصية. فانحرافات النظام السابق، تجلت كما أسلفنا بطريقة واضحة لا لبس فيها خصوصا في عشريته الأخيرة ولا وطنيته تأكدت بصفة مطلقة حينها ولم يعد ممكنا تبرير أي تعامل معه... وقانون التحصين يجب أن ينطلق تبعا لذلك منذ انتخابات سنة 1999 على أقصى تقدير حتى لا يُظْلَمَ أحد، ويكون منصفا إلى أبعد الحدود.