هناك نظريّة قانونيّة يتبنّاها بعض رجال القضاء، و هي أنّه كلّما تعارض القانون مع الحقّ، فإنّ للحقّ العلويّة على القانون. وفي قضية الفاسدين الذين تمعشوا من نظام بن علي وارتكبوا جرائم في حق الشعب، سواء أكانوا سياسيين أو رجال أعمال أو غيرهم، فإنه لا لبس اطلاقا في أن الحق يوجد في جانب الشعب الذي أذلوه وسلبوه وأفقروه وهمشوه، وذلك فإنه لا مجال لسجن القانون في ثوب جامد متكلس متحجر، بينما أعطى قضاتنا خلال فترة الدكتاتورية أمثلة بهلوانية في «الاجتهاد» الفضفاض من أجل ارضاء نزوات «عرفهم» رئيس المجلس الأعلى للقضاء إننا نعيش اليوم لحظة تاريخية فارقة، وقد يكون من السذاجة بمكان توقع الشيء الكثير من جهاز قضائي كان الى جانب الإعلام من أكثر الأجهزة التي نخرها الفساد وعشش فيها، ولكن لا يجب أن نتجند جميعا حتى لا يتم اجهاض أحد الاستحقاقات الرئيسية للثورة عبره. إن تتابع غلق ملفات الفاسدين واطلاق سراحهم الواحد تلو الآخر، بمقتضى قرارات قضائية، بدعوى أنه لا توجد ضدهم أدلة وقرائن واضحة، يشير بطريقة لا لبس فيها الى أننا نسير تدريجيا نحو اغلاق جميع الملفات، سواء تلك التي تتعلق بحفنة من «الطرابلسية»، وكأن الأمر ملهاة لذر الرماد على العيون و«تخدير» الغضب الشعبي شيئا فشيئا، مع اعتبار عامل «تهرئة الوقت» (l'usure du temps). فهل أن الأمر يتعلق بجهاز عاجز أم متواطئ، أم هما الأمران معا؟ إن كل من عملوا مع بن علي الى آخر يوم، لا يمكن أن يكونوا إلا «منحرفين» بأتم معنى الكلمة، وسأقدم اليوم الدليل على ذلك في مثال واحد يدخل في باب التمويل اللاقانوني للتجمع المنحل، هذا الذي برئ منه عبد الوهاب بن عبد الله ومرجان.. والبقية تأتي، بينما الأمثلة في هذا المجال لا حصر لها، ويمكن للقضاء تتبعها لو توفرت حسن النية والرغبة في ذلك. فمن لا يعرف من مسؤولي نظام «الزين بابا» أن جريدتي الحزب الحاكم «الحرية» و«لورونوفو» لا تبيعان في الجمهورية التونسية بكاملها ولو مائة نسخة، حتى أنها كانت توزع نسخها على الباعة ثم لا تتولى اجراء المحاسبة معهم.. أبدا! لأن رقم المبيعات بالنسبة لحوالي 100% منهم.. هو صفر! ورغم ذلك فإن التعليمات كانت تصدر لجميع ر.م.ع. المؤسسات العمومية للاشتراك فيها ولنشر اعلانات فيها. أليس هذا تمويلا غير قانوني للتجمع المنحل؟ كم من مليارات ابتلعتها الجريدتان.. دون أي مقابل.. فهي لم تكن تقدم أية خدمة مقابل هذا السيل الهائل من الأموال.. كان الأمر عبارة عن إلقاء المال العمومي من النافذة! مال كان الأولى به أو يوجه للمدارس والمعاهد والمستشفيات والبنية التحتية.. الخ.. ألا يمثل الأمر استيلاء على أموال عمومية، وسوء تصرف فيها.. ألا يمثل موضوعا للمؤاخذة الجزائية لكل من أشرف على التجمع والى كل «مصدري الأوامر»؟ أفهل هناك من لا يعرف خلال زمن «الزين بابا» أن ملف الإعلام كان حصرا (la chasse - gardée) على عبد الوهاب عبد الله وكل خيوطه بين يديه؟ وهل لم يكن من واجب بقية «خدم» النظام الإعلام على مثل هذه الجريمة؟ وعلى الأقل التدخل لوقفها، والأمر في هذا الميدان، أي مجال الاعلام، لم يكن يقتصر على التجمع. فقد كانت الدولة تموّل ومن أموال الشعب عددا لا يحصى من الصحف والمجلات الأخرى التي تخرج من المطابع، لتلقى في القمامة مباشرة، أو لتباع لمعامل عجين الورق ب«الكيلو»، كمجلة «العهد» وعشرات العناوين «السياحية» واحداها أو بعضها كانت على ملك أحد رؤساء جمعية مديري الصحف في العهد السابق، فحتى عماد وبلحسن الطرابلسي انفتحت شهيتهما لهذا المال الموزع يمنة ويسرة، فأصبحوا صحفيين ولهم صحف ومجلات، وهي كلها صحف ومجلات يجهل حتى وجودها عموم الشعب التونسي، وكان الهدف الوحيد من بعثها هو «حلْبُ» المال العام لا غير. فمن كان يصدر الأوامر لجميع المؤسسات العمومية والوزارات للاشتراك فيها ولتمتيعها بالاعلانات الحكومية؟ وماذا كان الغرض من وجودها على الساحة؟ إننا نلقي هذا السؤال رغم أن الجواب معروف، لقد كان هناك عبث مهول لا يصدق حجمه بالمال العام، لتمويل التجمع ولتمويل بعض «المافيات».. اذ أنه يبلغ عشرات المليارات، فمتى تفتح السلطة العدلية هذا الملف؟ إن من واجبها أن تثير التتبع من تلقاء نفسها عندما تكون هناك جريمة، وهل هناك جرائم أكبر من هذه؟ إنها ملفات كبرى لا تنتظر إلا الإرادة الفعلية وحسن النوايا. لقد بدأ يتبين من يوم لآخر، وكأن القضاء عاجز عن فتح الملفات الكبرى، وخصوصا عن متابعتها المتابعة الجدية التي «تستجيب لاستحقاقات الثورة». ولا يتعلق الأمر بتاتا بعمليات تشفّ أو انتقام وهي فزاعة كاذبة يثيرها المتواطئون وأصحاب المصالح كلما تعلق الأمر بالمحاسبة فاستحقاقات الثورة هي إنفاذ العدل وتحقيق علوية القانون ومساءلة من أجرم والتموقع داخل منظومة بن علي، هو في حد ذاته جريمة، بما أن هذه المنظومة كانت قائمة على خدمة حفنة «مافيوزية» على حساب عموم الشعب، فما يحدث حاليا هو أمر سريالي لا يصدقه العقل، ف«هناك جريمة، ولكن ليس هناك مجرمون»! إن تحقيق استحقاقات الثورة قد يفرض بعث محكمة ثورية ولا يجب أن نخاف من الكلمة تضم قضاة أكفاء. فعملية تحطيم القضاء الممنهجة سلم منها عدد لا يستهان به من القضاة الشرفاء، فتلك حكمة الله، ففي أحلك فترات الفساد يحافظ بعض من اصطفاهم الله على شرفهم وعزتهم ويصمدون أمام المغريات وهذا ينطبق على كل ميدان وتونس الجديدة، يجب أن تبنى على ضمائر هؤلاء. إذن على المجلس التأسيسي إن كان يضم رجالا ثوريين حقا أن يدرس هذا الاقتراح بجدية، فللثورة مقتضياتها، وعليه أن يكون في مستواها.