ارتفع ضجيج كبير هذه الأيام حول ما سمي مشروع إقصاء التجمعيين من الحياة السياسية المقترح من قبل نواب حزب المؤتمر، وثار حوله لغط شديد يرتقي الى مرتبة اللغو، لأنه يحتوي على مغالطات كبيرة. أولا: لأن الأمر يقدم وكأنه بدعة، بينما هو ليس ببدعة إطلاقا، وسبق أن توخت مثله عديد الدول في محاولاتها، إثر ثورات أو هزائم عسكرية، القطع مع الماضي وبناء أسس جديدة سليمة، يقصى منها من كان متسببا بطريقة مباشرة في المآسي والمصائب التي عرفتها هذه الشعوب. ثانيا: لأن الأمر يقدم وكأنه سيشمل شريحة كبيرة من التونسيين، وأنه قد يحدث فتنة في البلاد، بينما واقع الأمر هو غير ذلك، إذ سيمس بضع مئات أو بضعة آلاف على أقصى تقدير، ولأن الدستوريين شيء، اذ كانوا حاملين لمشروع مجتمعي، بينما لم يكن التجمعيون يرتكزون على شيء سوى خدمة مافيا حقيقية. ثالثا: لأن الحزب الذي يتحدثون عنه هو ميّت من زمان، وقبل رحيل بن علي عن الحكم بسنوات طويلة، بعد أن حوله هذا الأخير إلى هيكل مخابراتي لا غير، وافتكت من يده أي سلطة قرار، وغادره إثر فضائح النظام المدوية كل من كان يتمتع بالحد الأدنى من الأخلاق والحس الوطني. ٭ ٭ ٭ ٭ فلا يختلف اثنان في أن نظام بن علي تحول، ومنذ مطلع التسعينات إلى نظام، جمع إلى جانب المافيوزية على غرار نظام نورييغا في باناما «الفضائحية» أيضا على غرار نظام الامبراطور بوكاسا في دولة افريقيا الوسطى ونظرا لحجم تجاوزاته وفضائحه، فإن صداها وصل إلى عموم الشعب التونسي، من أقصى البلاد إلى أقصاها، ولذلك فإنه لا أحد من المتواطئين في مواقع المسؤولية في الدولة أو التجمع يمكنه التعلل اليوم بأنه كان لا يعلم. فمن لا يعلم أن بن علي مثلا، ومنذ التسعينات وضع مصلحة شقيقه المتهم في قضية مخدرات بفرنسا فوق مصلحة البلاد والعباد، فلما فشلت تدخلاته لغلق ملف القضية من قبل حاكم التحقيق الفرنسي، افتعل أزمة كبيرة مع فرنسا، مُقرا سياسة «تعريب» مرتجلة وسخيفة، من ذلك مثلا أن مرتزقته قاموا في غياهب الليل بنزع اللافتات والعلامات المحررة باللغة الفرنسية من المؤسسات العمومية، كما دعا أيضا الى الاتجاه الى تعليم اللغة الانقليزية منذ السنوات الأولى للتعليم الأساسي، وغير ذلك من الاجراءات التي كان يظن لغبائه أنه بتهديده بها لمكانة اللغة الفرنسية في بلادنا، سيدفع فرنسا الى استبعاد شقيقه من القضية. ومن لم يعلم بقضية اليختين المسروقين من قبل عماد الطرابلسي وشقيقه، وكيف أن دولة بتمامها وكمالها تجندت لمحاولة تبرئتهما، وغيرهما من الفضائح «البوكاسية» المدوية، التي جعلت بلادنا وشعبنا أضحوكة الدنيا. وهل أن كبار مسؤوليه يمكن أن يتعللوا اليوم بأنهم يجهلون ما مارسه وعائلته من ابتزاز أجهض انطلاق عديد المشاريع المشغلة والمدرة للخيرات على الشعب، كمشروع مصفاة الصخيرة وغيره. إن كل من قبل خدمة هذا النظام المافيوزي الفضائحي لآخر لحظة بإخلاص وتفان، لا مكان له اليوم في مرحلة البناء، بناء تونسالجديدة في ممارسة السياسة، فجرائمهم في حق بلادهم وشعبها لا تقل عن جرائم النازيين في حق الشعب الألماني، فهؤلاء قادوه الى الموت بعشرات الآلاف، بينما خدَمُ بن علي قادوا عشرات الآلاف من أبناء شعبنا الى الجهل والفقر والتهميش، وهو ما يمثل جرما لا يقل شأنا عن الأول. إن من شاركوا في مهزلة الاعتداء على الدستور، بمهزلة الاستفتاء والتحوير، أليسوا مجرمين بأتم معنى الكلمة؟ وهل أن النائب في برلمان بن علي الصوري، أو المستشار في مجلسه الكارتوني، الذي قبل أن يقبض مرتبا من الخزينة العامة، اضافة الى الامتيازات على حساب قوت الشعب، وخبزه وحقه في التعليم والصحة طوال خمس أو عشر سنوات أو أكثر، لكي لا يفعل شيئا لفائدة هذا الشعب ويصادق على كل نزوات سيده، أليس مجرما ارتكب «سرقة موصوفة» ولا يستحق أن يُشرك اليوم في الحياة العامة وتصور مستقبل البلاد؟ فليحمد هؤلاء الله على أن سيف المحاسبة لم يطلهم، ولن يطالهم قطعا، رغم أن ما أقدموا عليه يمكن أن يدخل تحت طائلة الاستيلاء على الأموال العمومية، وحتى بقليل من الاجتهاد القانوني تحت طائلة الخيانة أو السرقة الموصوفة. فمن يسمون ب«الدستوريين»، أي من عملوا تحت إمرة بورقيبة، يمكن أن نجد لهم بعض العذر فبورقيبة كان على الأقل حاملا لمشروع مجتمعي قد نتفق معه وقد لا نتفق ومعاونوه يمكن أن تنطبق عليهم صفة المناضلين، والمناضل يخطئ ويصيب. أما «الزين بابا» فقد كان حاملا لمشروع «حوفة» لا غير، ومعاونوه خصوصا من بقوا معه الى النهاية ليسوا إلا شركاء في جريمة ضحيتها عشرة ملايين تونسي، وقد حسم فيهم الشعب لما قال لهم «ارحل» (dégage)، فليرحلوا اذن غير مأسوف عليهم.