منذ "14 جانفي" كانت ترتفع بين الفينة والأخرى أصوات منبّهة ومحذّرة من شبح الثورة المضادة ومن قوى الردّة. فكنت لا أعيرها بالا، معتقدا أن خطر الردة مستبعد جدا، إن لم يكن مستحيلا، بعد أن اكتوينا بنار الدكتاتورية جميعا، وبعد أن سامتنا جميعا، بدرجة أو بأخرى، العذاب والمذلة والهوان. فخلال حماسة الأسابيع، ثم الأشهر الأولى للثورة، ونشوتها المُسكرة، كان الملوّحون بخطر الردة المحتمل وبالثورة المضادة الوشيكة، يبدون لي كنذيري شؤم في محفل زاهٍ بهيج، أو على الأقل كالثقلاء الذين لا هَمّ لهم سوى افساد حفل عظيم (des troubles - fête)، ثم تدعّمت قناعتي أكثر لما نجحت انتخابات يوم 23 أكتوبر الماضي. إلا أنني اليوم، وبعد مرور عام تقريبا على رحيل «الزين بابا» وسقوط نظامه، تزحزحت عن قناعتي تلك. فها هي عديد الصحف التي يقال إنها رأت النور، بفضل أموال «الطرابلسية» تستقر في المشهد الصحفي. وها هي عديد وسائل الاعلام التي رأت النور، واشتد عودها بفضل أموال المجموعة الوطنية التي نهبها «الزين بابا»، فأجرمت في حق البلاد والعباد، ها هي تتقوّى أكثر بعد الثورة، بل وتُفرّخ صحفا جديدة، وها هي ترضع الى اليوم من ثدي «الحاكم» ومن الإعلانات الحكومية، وكأنه «لا ثورة ولا هم يحزنون». وها إن أحزابا ولدت من رحم التجمع «المنحرف»، رأت النور وأخرى في الطريق، بمَدَدٍ وعُدّة لا يعرف أحد مصدرها، وها أن «خلايق» عديدة ممن انتموا الى هذه الآلة الجهنمية التي قادت البلاد للخراب، يحاولون البحث لهم عن موقع قدم في الخريطة السياسية الجديدة، واستعدادا للمواعيد الانتخابية القادمة، بل إن بعضهم نجح في العودة الى الواجهة مرفوع الرأس. وعلى «هذه الدزّة» قد نقول قريبا ما أشبه الغد بالبارحة. فمن المُسلّم به أن عدو الحرية في يوم واحد، هو عدوها على الدوام، وأن الخفافيش المجبولين على حب الظلام، لا يطيقون العيش في ضوء النهار. وإنه من الثابت والمُسَلّم أن أعداء الحرية، لا هَمّ لهم سوى انتظار الفرصة السانحة للانقضاض على الحرية، فالخوف من المحاسبة يحول دونهم والانخراط الحقيقي في المدّ الثوري، وفي عمليات بناء الآليات الكفيلة بدعم الحرية الجديدة وتحصينها ضد الأخطار المحدقة بها. فالاعتصامات وعمليات قطع الطرق ومختلف أشكال تحدي السلطة، هي في ازدياد واضح لا ريب فيه، كما أن من يصبّون النار على الزيت كثيرون، ولذلك فإنني أعتقد أن الوقت قد حان للتفكير في آليات لتحصين الثورة ومكاسبها، آليات على السلطة والمعارضة ومكونات المجتمع المدني استنباطها. فإثر حقبة العهد النازي المظلمة، تم تجريم الفكر النازي ومنع تكوين الأحزاب التي قد تستلهم منه مبادءها، كما تم استبعاد كل من انتموا اليه من الحياة العامة ومحاكمة رموزهم، لتحصين عملية بناء نظام ديمقراطي جديد في ألمانيا. أما نحن اليوم، وبعد عام من الثورة فالعدالة الانتقالية لم تر النور بعدُ، كما لم تبرز أية آلية ملموسة لتحصين البلاد ضد مخاطر العودة الى الوراء، الى الدكتاتورية والتعسّف. فلئن كان هتلر قد قاد الشعب الألماني الى الكارثة فقد كان ذلك على الأقل وهو ما لا يمثل أي تبرير تحت مظلة بناء عظمة ومجد الشعب الألماني، فإن بن علي وانطلاقا من سنة 1991، بنى دكتاتوريته على النهب والسلب، ورغم تكبيل الصحافة وجو الإرهاب الذي أرساه، فإن طبيعة نظامه «المافيوزي» تجلت لجميع أفراد الشعب، في أي شبر من الجمهورية، واثر اقترانه بليلى، تعاظمت هذه الفضائح وبان جليا للجميع بلا استثناء تهاونه بالمصالح العليا للوطن، بل دوْسه عليها، ولذلك فإنه لا بد من ايجاد آليات لعزل هؤلاء الذين كانوا عن طمع، اذ لم يبق من مبرّر للمحيطين به سوى الطمع، يصفقون لعصابة لصوص ويخططون لتأبيد نظامها. إن الوقت قد حان للتفكير في آليات لحماية المكاسب الهشة للثورة وتحصينها ضد كل أشكال الثورة المضادة.