لئن كانت المقارنة التي تجرى من حين لآخر من هذا الطرف أو ذاك، بين العهد البائد وممارساته وبين العهد الذي نعيشه بعد الثورة تحتوي غالبا على الكثير من الظلم والتجني وتكتسي صبغة تعسفية غير مبررة ولا مستساغة، فإن «القضية» المثارة ضد وزير الخارجية أتت في الوقت المناسب لتمثل محكا ومقياسا جديا لمدى تكيف السلطة الجديدة في البلاد ذهنيا وقانونيا وأخلاقيا مع مقتنيات الواقع الذي تفرضه الديمقراطية وصندوق الاقتراع، حيث عوضت الإدارة الشعبية بفضل الثورة «الشرعية التاريخية» التي كان يرتكز عليها حكامنا في ما مضى ليطلقوا أيديهم في مصائر البلاد والعباد دون حسيب أو رقيب واضعين أنفسهم بحكم ارهاب الدولة فوق النقد والمحاسبة. فالحكومة الحالية، والأحزاب التي تقف وراءها وصلت فعلا إلى سدة الحكم عن طريق انتخابات نزيهة وشفافة، وبالتالي فإن شرعيتها ليست «محل نظر» إلا أن ممارسة الحكم في ظل نظام ديمقراطي مفتوح لا تمنح للماسك به بمقتضى الإرادة الشعبية صكا على بياض أو «توكيلا مفوضا» للتصرف على هواه في شؤون المجموعة الوطنية ولا حصانة تجعله فوق المراقبة والمحاسبة بل على العكس من ذلك فإن التقدم لخدمة المجموعة وقبول تحمل «أعباء» أي منصب عام يعرض لا محالة صاحبه إلى مجهر المحاسبة الدقيقة والصارمة ويجعل أيضا جزءا لا يستهان به من حياته الشخصية في بعض أبعادها «ملكا عموميا مشتركا» وذلك كلما تعلق الأمر بالمال العام أو بما هو أوسع نطاقا ويمكن أن يسمى ب»الذمة» الأخلاقية. ففي المجتمعات الغربية التي يعتبرها قسم من مواطنينا ومن سياسيينا وأحزابنا أيضا ومن بينهم الحركة التي ينتمي إليها وزير الخارجية «منحلّة» كم من سياسي سقط بالضربة القاضية لعلاقة غرامية غير شرعية أو حتى بشبهة علاقة من هذا النوع، فما بالهم اليوم يسارعون بالتنديد قبل أن يتبين «الخيط الأبيض من الخيط الأسود» وتتجلى الحقائق القاطعة؟! إن ردود الفعل لدى قسم من «الصف الحاكم» هي دون أدنى شك مخيبة للآمال ولا ترتقي إلى مستوى اللحظة التاريخية الفارقة التي نعيشها لحظة الخروج من العتمة الى ضوء النهار، اذ يبدو ان هناك قصورا مفضوحا على فهم حقيقة بديهية بسيطة وهي أحقية المجموعة في النظام الديمقراطي الحقيقي في وضع مسؤوليها تحت مجهر المراقبة اللصيقة ومحاسبتهم الحساب العسير، عندما يقتضي الأمر ذلك، وواسطتها إلى ذلك تبقى الصحافة الحرة، وأكثر أبوابها نبلا ونفعا للمجموعة ألا وهو الصحافة الاستقصائية. والا فكيف نفسر ان يقول سليم بسباس كاتب الدولة لدى وزير المالية حول المليار الصيني ان «مراسلات وطلبات تحصل بين الوزارات ولكن لا يجوز نشرها في وسائل الإعلام» ويضيف «من المفروض ان يبقى الموضوع داخليا وليس من حق أي جهة غريبة ان تتحدث عنه».. بعض الاداريين اظهروا عدم حفاظ على السرية وسنتخذ الاجراءات القانونية ضد هؤلاء»؟ (1). وأين الشفافية من كل هذا؟ وأين وجوبية اطلاع الرأي العام على كل ما يهم سير حياته وشؤون دولته وهل ان الهبة الخارجية هي اسرار دولة في نشرها اضرار «بالامن القومي»؟ وان مقارنة ليالي «الشيراتون قايت» ب»واقعة الافك» التي أقدم عليها رئيس «النهضة» هي دون أدنى شك في غير محلها اطلاقا اذ يجدر النأي بالمقدس عن «السياسي» خصوصا في جانبه غير المشرق فالغنوشي ليس رسولا ولا رفيق عبد السلام «اما للمؤمنين» كما ان مقاضاة النزل هي في حد ذاتها نوع من التأكيد على ضعف الحجة وعلى صحة ما نشر ان لم يكن في كله، فعلى الأقل في جزء هام منه. ◗ جمال الدين بوريقة
(1) علما ان المرسوم عدد 43 الذي فعّلته الحكومة يفرض وجوبا مد العموم باي معلومات او وثائق في حوزة الادارة ولا يضع الا استثناءات محدودة من بينها تلك المتعلقة بالامن القومي.