بقلم : عزالدين مبارك - ليس هناك من شك بعد عامين من اندلاع الانتفاضة الشعبية العارمة في تونس أن نتمكن من توصيف ذلك الحراك الاجتماعي وإعطائه صبغته النهائية وقد طفت على السطح بعض الحقائق والمعطيات رغم الغموض الذي مازال يكتنف عملية سقوط النظام بتلك الكيفية وسيبقى الأمر كذلك إلى حين الإصداح بالحقيقة كاملة من جانب الأطراف الفاعلة والتي بقيت في الظل. أما الحقيقة الواضحة هي أن الانتفاضة كانت صادقة ونابعة من إرادة شعبية أصيلة انطلقت في الوقت المناسب وفي المكان الصحيح حيث الفقروالتهميش والبطالة والبؤس وكانت ديناميكيتها القمع الشديد والاستشهاد والدماء حيث انتقلت الشرارة من حي إلى حي ومن قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة بحكم الترابط الأسري والعشائري في تلك الربوع التي مازالت تعيش نقاوة العرق والتلاحم الاجتماعي. وهروب بن علي فجأة لم يكن في حقيقة الأمر صدفة بل بفعل فاعل وضمن مخطط محكم وذلك لتوجيه مصير الأحداث نحو صيرورة يمكن التحكم فيها وتعديلها نحو الوجهة المعلومة حسب مصالح الأطراف المتنفذة خارجية كانت أم داخلية. فالأطراف الداخلية ليس من مصلحتها أن تحترق البلاد وتزهق الأرواح من أجل عيون نظام فاسد ومستبد وحاشيته تغولت إلى حد أن مصالحهم الذاتية أصبحت مهددة بالزوال زد على ذلك الاحتقارمع العلم بوجود صراع عائلي على السلطة ومسألة حسمه باتت وشيكة بعد أن فقد الرئيس نفوذه ولم يعد يتحكم إلا في القليل من الصلاحيات. أما العامل الخارجي الذي يرى في تونس بوابة إفريقيا لأوروبا والقابعة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط بما يعطيها بعدا استراتيجيا هاما على مستوى الصراعات الدولية إضافة إلى وجودها بين ليبيا والجزائربما يملكانه من ثروة نفطية هائلة، لا يمكن أن يكون محايدا أو متفرجا دون التدخل ولو بطريقة ناعمة ولوجستية. كل هذه العوامل أجهضت الثورة حسب المفهوم المعرفي للكلمة وهو التغيير الجذري للنظام ووصول الثوار للحكم وبذلك يمكن توصيف الأمر بنصف ثورة أو بالانتفاضة الثورية أو بالثورة المغدورة والدليل على ذلك أن من قاموا بالثورة مازالوا يعانون التهميش والفقر والحاجة ويستجدون التعويضات وينظمون الاعتصامات لتحقيق مطالبهم المشروعة ومن أتوا بعد ذلك للسلطة ينعمون بالرواتب والامتيازات رغم عدم صلتهم لا من قريب أو بعيد بالانتفاضة المباركة. كما إنه إلى حد الآن لم نر توجها ثوريا نحو تحقيق الأهداف التي نادت بها الانتفاضة الثورية وبقيت أسباب اندلاعها قائمة وما تعدد الاعتصامات والاحتجاجات إلا مظهر من مظاهر السخط الاجتماعي على البطء في انجاز المشاريع التنموية في تلك الربوع المهمشة والبائسة. وبدل ذلك اتجه الساسة الجدد إلى تقاسم الكعكة والمناصب والأدوار وذهب جل اهتمامهم إلى السيطرة على دواليب الدولة في انتظار استحقاقات الانتخابات القادمة بحيث لم يتم الاهتمام بالمناطق المحرومة والثائرة بما فيه الكفاية ولم ينل الثوار وعائلاتهم ما يستحقونه من تبجيل وعناية. والشيء الوحيد الذي تحقق هو حرية الإعلام والرأي مما مكن المواطنين من تبليغ صوتهم والصحفيين من إنارة الرأي العام وكشف الحقائق رغم أن المادة المعروضة فيها الغث والسمين والكثير من الدجل السياسي والتلاعب بالعقول وبيع الأوهام. وأغلب الظن أن هذه الفترة الذهبية من الحرية لن تدوم طويلا وقد بدأت منذ الآن محاولة تكميم الأفواه والسيطرة على القطاع بشتى الطرق فالسلطة إن لم تكن تؤمن بالديمقراطية الحقيقة لا يمكنها ترك السلطات الأخرى دون رقابة واحتواء لأنها لا تعطي قيمة للرأي الآخر ولا يهمها شأن المواطن. ويمكن القول إن هذه الطفرة من الحرية الاعلامية تدخل في باب تلهية المواطن وتشتيت اهتمامه وتسليته فيعيش في أوهام كأحلام اليقظة فينسى واقعه المرير وكوابيس الحياة اليومية إلى حين التمكن من الحكم والسيطرة على المجتمع والدولة. فليس هناك من ضمان لديمومة حرية الصحافة والرأي خاصة بعد التلكؤ في تفعيل القوانين ودسترتها كما أنه ليست كل الثورات أنجزت شعاراتها وأهدافها وحققت الديمقراطية بل الكثير منها تحول إلى كارثة وخراب واستبداد لأن الأمر متعلق بعقول الناس وأفكارهم وتوجهاتهم ومذاهبهم.