- إن علاقة الحكام بشعوبهم كانت خلال فترات طويلة من تاريخ البشرية على غير وجهها الصحيح. فعوض أن يكون الحكام في خدمة الشعوب فإن العكس هو الذي كان يحدث؛ فنجد أن الشعوب هي التي صارت في خدمة الحكام الذين يستبدون بالحكم فيورثونه عائلاتهم، ويتصرفون في العباد والبلاد وكأنهم ملكهم الخاص، ولا يُسألون عما يفعلون، أما المحكومين فهم وحدهم يُسألون عن طاعتهم وواجباتهم ولا يزال الوضع على هذه الحال في كثير من دول عالمنا المعاصر. وفي هذا المجال فإن الثورة التونسية تعتبر حدثا فارقا في التاريخ المعاصر من شأنه أن يفتح باب الأمل في الدول التي لم تستقم فيها بعد العلاقة بين الحكام وشعوبهم على وجهها الصحيح. ولكن ما هي المرجعية التي يجب أن يُستمد منها بناء علاقة جديدة على أسس صحيحة بين الحكام والشعوب؟ من المفترض بالنسبة لمجتمع مسلم كمجتمعنا أن الجواب عن هذا السؤال معروف؛ كما هي معروفة مرجعية المسلمين الذين إذا قضى الله ورسوله أمرا فليس لهم الخيرة من أمرهم. فمن له الخلق له الأمروالتصرف في خلقه بما يشاء. وإن كان العمل بأوامرالله ونواهيه اختياريا بالنسبة للبشروليس قهريا كما هوالحال بالنسبة لغيرهم من المخلوقات فلأنهم محل تكليف وابتلاء يترتب عنه الجزاء. إنها الأمانة التي حملها آدم بما فيها فإن أحسن جُوزي وإن أساء عُوقب كما جاء في الحديث النبوي. ومن المؤسف أن كثيرا من المسلمين يعيشون في شبه غربة عن دينهم من حيث العلم والعمل به. وقد يرجع ذلك إلى الجهل أوالغفلة أوأسباب أخرى ذات جذور تاريخية واجتماعية كما أنه من المؤسف أن كثيرا من غير المختصين الذين يتطرقون في كتاباتهم إلى نظام الحكم في الإسلام يتناولون الموضوع بطرق بعيدة عن النهج العلمي الصحيح؛ فتجدهم يخلطون في نفس الوقت بين الأحكام الشرعية والاجتهادات الفردية، أويخلطون بين الأحكام الشرعية والوقائع التاريخية، أو يتناولون الموضوع دون الإحاطة به من جميع جوانبه، أويطرقون إشكاليات فقهية لا يقدرعلى الفصل فيها سوى العلماء الراسخين في العلم. وهذا ما يجعل مسائل الفقه السياسي التي يتعرضون إليها تبدو لعامة الناس شبه معقدة، يستعصى فهمها أوالفصل فيها، بينما الأمر هو أبسط من ذلك بكثير. فمن المعروف أن مواضيع الشريعة الإسلامية تنقسم إلى ثلاثة وهي: العبادات والأخلاق والمعاملات. ويمثل الفقه السياسي أوالسياسة الشرعية بابا من أبواب المعاملات يشمل الأحكام والوسائل التي تُدبّربها شؤون الدولة وسلطاتها وتنظيماتها وعلاقتها بغيرها من الدول. والأحكام المتعلقة بهذا الباب وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية بشكل إجمالي، ويتطلب العمل بها في الواقع آليات ووسائل إجرائية قد تختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة. وهذه الآليات والوسائل يقع أغلبها إن لم يكن كلها في مجال الاجتهاد. إن اهتمام فقهاء المسلمين في الماضي بالفقه السياسي كان ضعيفا جدا مقارنة باهتمامهم بأبواب الفقه الأخرى. وعدد من اجتهدوا وألّفوا في هذا الباب محدود من أشهرهم الماوردي والفراء وابن تيمية. ولقد اُعتبرذلك تقصيرا من فقهاء المسلمين جعل الفقه السياسي من أقل أبواب الفقه تطورا ونماء، وأدخل الفكرالسياسي الإسلامي في حالة ركود غيرمسبوقة، وهذا الركود كان وراء استبداد الحكام بشعوبهم حينا وصراعهم العسكري على السلطة حينا آخرعلى نحو هدّد مقدرات الأمة ومقومات الدولة. يقول الدكتورفؤاد عبد المطلب في تقديمه لكتاب قام بترجمته وصدرفي سلسلة "عالم المعرفة" في نوفمبر 2012 عنوانه "الغرب والإسلام الدين والفكرالسياسي في التاريخ العالمي" ما يلي: «لم يكن ازدهار المسلمين وتقدمهم في ميادين كثيرة ينفي أو يسوغ تقصيرهم في حقل الفكرالسياسي، والموضوع الأساسي في هذا النقاش: هوالنظر في المشكلة السياسية التي يمكن أن تعد سببا رئيسا وخطيرا في ضياع أمجاد الماضي، ووضع إنجازاته العلمية الرائعة على رفوف المكتبات من جهة، وفي خلق مشكلاتنا في العصر الحديث: من فقروتجزئة وتخلف، ومن ظلم وقهرواستبداد، وضعف وفقدان للهوية واعتماد على الآخر، ومن طمع وهيمنة أجنبية استمرت منذ أيام الغزوالاستعماري العسكري حتى أيامنا هذه». ومنذ أواخر القرن الماضي تزايد الاهتمام بالفقه السياسي، وظهرعدد كبيرمن المؤلفات الهامة منها عدد من الرسائل والبحوث الجامعية. كما أن الثورة التونسية قد استنهضت علماء المسلمين للاهتمام بالموضوع، فنظمت الجامعة الزيتونية بالاشتراك مع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مؤتمرا دوليا بعنوان: «نحو تجديد في الفقه السياسي الإسلامي» انعقد خلال شهر ماي 2012 بتونس؛ وألقيت فيه محاضرات علمية تطرقت إلى مواضيع هامة كالتطبيقات المعاصرة للشورى والتمثيل الشعبي وآليات الاختيار. إن تغافلنا عن أحكام الفقه السياسي في الإسلام كان من نتائجه ارتكاب عديد الأخطاء في المسارالسياسي للثورة التونسية، مما أدى بهذه الثورة إلى ما يشبه الفشل في تحقيق أهدافها إلى يومنا الحاضر. وحسب رأيي فإن أكبر خطإ اُرتكب يتعلق بالطريقة التي وقع بها اختياروتعيين من تولوا مهام إدارة شؤون البلاد. فهذه الطريقة ارتكزت على الانتماء الحزبي والفوزفي الانتخابات دون شروط أخرى؛ بينما نجد أن أحكام الشريعة في باب الفقه السياسي تنصّص على أن إسناد مناصب الولاية لا يكفي فيه الحصول على رضا الشعب من خلال تصويتهم في الانتخابات، بل يجب أن يتوفرفيمن تسند لهم هذه المناصب شرطا: الكفاءة والأمانة، ويجب أن يكونوا أفضل الأكفاء الموجودين. وهذه الشروط وردت في نصوص عديدة من القرآن الكريم والسنة النبوية وقد بلورها الفقهاء في القاعدة الفقهية التي نصّها: «يُقدّم في كل موطن وكل ولاية من هوأقوم بمصالحها» ويعني هذا أنه يجب أن يقدّم في كل موطن وكل ولاية أو وظيفة أوعمل يتصل بالناس من هو أقوم وأقدروأعرف بمصالح هذا العمل. والأمور يجب أن تسند إلى أهلها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي التخصّص في الولايات والمسؤوليات التي يسندها إلى أصحابه ولذلك اُعتبرأنه من الضررإسناد الأمور إلى غيرأهلها. وإسناد الأمر إلى غيرأهله من أسباب فساد الناس، ومن علامات الساعة المذكورة في الحديث النبوي. إن الفقه السياسي هو من أكثر أبواب الفقه مرونة وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالواقع، وهوفي حاجة إلى تجديد يقطع مع دعاة الجمود والمغالين في الدين والمسيئين لصورته الناصعة. هذا التجديد لا يتعلق بالأحكام الكلية أوالمبادئ العامة كمبدإ السلطة للأمة ومبدإ الشورى والمشاركة في صنع القرارولكن بآليات تطبيقها في الواقع. وليس علماء الدين وحدهم معنيين بهذا التجديد بل يجب أن يشارك فيه العلماء بمختلف تخصصاتهم. ويبقى كل تجديد واجتهاد بعد ذلك عديم الجدوى إن لم يعمل به في الواقع. باحث