تعتبر المعاينة من أهم وسائل الإثبات في المادتين المدنية والتجارية،ولقد فرضت المعاينة نفسها في مجال العمل القضائي لتتصدر وسائل الإثبات المادية، وتتأكد فوائد هذه الوسيلة الإثباتية إذا علمنا أن المشرع قد حرّم على المحاكم تكوين أو إتمام أو إحضار حجج الخصوم (الفصل 12 من م.م.م.ت)، وقد اجتمعت جميع الشرائع السماوية والوضعية حول مبدأ تحميل عبء الإثبات على المدعي عدى استثناءات طفيفة، لذلك تراه حريصا على جمع الوسائل المثبتة للوقائع والملابسات سواء لدفع ادعاء مضرة أو لإثبات وجود مضرة أو لإبراز تخلف معاقديه عن تنفيذ التزاماتهم أو لإظهار ضعف ادعاءات خصومه، وتأتي المعاينة في المقام الأول اعتبارا وأن الخصومات في جل أطوارها ترتكز على ماديات ملموسة وهو ما يقابله معاينة مادية سواء للتأكيد أو للنفي. لقد استفادت مؤسسة المعاينة من الضعف الذي أصبحت عليه وسائل الإثبات الأخرى مما ساعد في انتشار المعاينات لتكتسح الفضاء القضائي، وقد تزايد إقبال المتقاضين عليها لتقوية حقهم في الدعاوى التي يرفعوها أو المرفوعة ضدهم. إن المعاينة التي يقدمها أحد أطراف النزاع لا يمكن للمحكمة أن تهمل شأنها بل عليها أن تناقشها وتتخذ موقفا بشأن محتواها وتستنتج منها ما يقيم الدليل على الحق المتنازع بشأنه خلافا للاختبارات التي تجرى من طرف الخبراء بإذن من المحكمة فهي لا تقيد المحكمة في شيء(الفصل 112 من م.م.م.ت)ومن هنا تزداد أهمية المعاينة في إجراءات التقاضي المدني والتجاري. وهو ما دفعني إلى البحث حول مكانة هذه المؤسسة القانونية في القانون التونسي (1) ومن هو الهيكل المهني المختص في إجراء المعاينات؟(2) ثم التعرض لاعتداء عدول الإشهاد بخصوص المعاينات والحال أنه لا حق لهم فيها باعتبارها اختصاص مطلق لعدول التنفيذ (3) وكذلك اقتداء الخبراء بعدول الإشهاد بخصوص إجراء المعاينات التي لا حق لهم فيها (4)وحول البعض من الظروف العديدة التي ساعدت عدول الإشهاد والخبراء في اعتدائهم ومن أهمها غض النظر من طرف النيابة العمومية (5) وغفلة القضاء الجالس (6). 1) المعاينة في التشريع التونسي لم يعرّف المشرع التونسي "المعاينة" ولم يحدد نطاقها ولم يضبط أحكامها ولم يفصّل إجراءاتها ولم يخصها بباب لا بمجلة الالتزامات والعقود ولا بمجلة الإجراءات المدنية والتجارية، وقد تعرض لها في مجالات متفرقة منها الصور التالية: 1) تعرض المشرع التونسي للمعاينة بالفصل 41 من الأمر العلي المنظم لأحكام من يكتشف أو يخترع أمرا جديدا من أي نوع من الصنائع المؤرخ في 26 ديسمبر 1888 (الرائد الرسمي التونسي عدد 17 لسنة 1306 هجري) ولحمايتها أجاز لمن له المصلحة في أن يستأذن من رئيس المحكمة الابتدائية بأن يجري بواسطة أعوان المحكمة معاينة الأشياء المفتعلة ، وقد أوجب النص إجراءات دقيقة منها وجوب الوصف بالتفصيل وإمكانية حجز عينة وإمكانية تعيين عارف لإعانة العون في الوصف والمعاينة. 2) تعرض المشرع للمعاينة بالفصل 22 من الأمر العلي المؤرخ في 25 فيفري 1911 المنظم لإجراءات التصوير ورسم الأمثلة (الرائد الرسمي عدد 18 لسنة 1329 هجري) وقد جاء بنفس الصيغة والإجراءات تقريبا كما بالنص الأول وذلك لإقامة الحجة على من يعتدي على حقوق غيره في مادة التصوير ورسم الأمثلة. 3) تعرض المشرع للمعاينة بالفصل 9 من الأمر العلي الخاص بتنظيم خطة العدالة وهيئة العدول المنفذين المؤرخ في 24 جوان 1957، إذ وفي نطاق تعداد للمهام التي أسندها للعدول والعدول المنفذين نص بالمطة الأولى على ما يلي: تحّري ومعاينة ما يروم أرباب السلط أو المتعاقدين إثباته أو يلزم تحريره. الجديد الذي يفهم من هذا النص أنه لا حاجة لاستئذان القضاء لإجراء المعاينات خلافا للنصوص السابقة وبذلك يحق لنا القول بأنه نص عام ، ولم يحدد هذا النص نطاق المعاينة ولم يقيدها بضوابط مخصوصة لا من حيث إجراءاتها ولا من حيث موضوعها ،ولم يؤكد على دقة الوصف ولعله عول على المفهوم اللغوي لعبارة المعاينة وعبارة التحري التي تعود على المعاينة، ولم يشر إلى إمكانية حجز عينة عند الاقتضاء، فهي تشمل كل ما يرغب أرباب السلط أو المتعاقدون اثباته وليس للعدول أو العدول المنفذين إلا أن يشبعوا نهم طالب المعاينة، ومهما كانت رغبة الطالب بخصوص موضوع المعاينة فلا يمكن للعدل (إشهادا أو تنفيذا) أن يحترز بشأن موضوع المعاينة، فكل المواضيع قابلة لإجراء المعاينة وأن رأي طالب المعاينة هو المعتبر ذلك أن "العدل (إشهادا أو تنفيذا) مجبور على القيام بما يطلب به من الأعمال ولا يمكنه رفض القيام بمأموريته إلا إذا كان هناك مانع"(الفصل 16 من نفس الأمر العلي المذكور)، فلا تحديد لموضوع المعاينة، الجديد في هذا النص أن المشرع قد تخلى عن تحديد أجل رفع الدعوى للقضاء ضد المعتدي وقد حدد الهيكل المختص في إجراء المعاينات وهو طبقة العدول بنوعيها في ذلك الزمن من عدول وعدول تنفيذ. 4) تعرض المشرع للمعاينة بالفصل 39 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية الصادرة بموجب القانون عدد 130 لسنة 1959 المؤرخ في 5 أكتوبر 1959 وذلك ليس من باب يهم المعاينة في حد ذاتها وإنما من باب تحديد مرجع النظر الحكمي فأسند لقاضي الناحية النظر استعجالا في "مطالب إجراء المعاينات المتأكدة" وصياغة النص توحي باحتمالين إما أن الاستئذان لا يصح إلا بالنسبة للمعاينات التي يتوفر فيها عنصر التأكد وما عداها فلا استئذان فيه، وإما أن الاستئذان إمكانية تشمل كذلك المعاينات الخالية من مظاهر التأكد وبموجب نظرية المفهوم المعاكس فإن طلب إجراءها قد تكون من أنظار قاضي الناحية ينظر فيه بصفة أصلية، وقد يكون كذلك من أنظار القضاء الابتدائي، وبالتالي فإن شرط التأكد ليس محددا لنطاق المعاينة وإنما جاء لتحديد مرجع النظر الحكمي، والجديد في هذا النص مقارنة بالذي سبقه هو موضوع استئذان القضاء والحال أنه لا حاجة له طالما أن طالب المعاينة يمكنه تحقيق رغبته بالتوجه رأسا للعدل المنفذ، وعلى كل فهو إمكانية لا وجوب فيها. 5) تعرض المشرع للمعاينة ب"دليل العدول المنفذين" الذي أصدرته كتابة الدولة للعدل على إثر دخول مجلة المرافعات المدنية والتجارية حيز التنفيذ وذلك لما احتلت إجراءات العدل المنفذ كمّا وكيفا بهذه المجلة، فتعرض الدليل لمؤسسة المعاينة بتوسع سواء بالنسبة للنص العام الوارد بالأمر العلي أو بالنسبة لمختلف النصوص المتفرقة التي أجازت بعض الصور الخاصة لإجراء المعاينات وقد تضمنت أحكاما أكثر دقة، وقد تعرض الدليل لمختلف جوانب الموضوع مثل حجية المعاينة ولم يستبعد إمكانية إتمام محتوى المعاينة بالأمثلة والصور. 6) تعرض المشرع للمعاينة بالقانون عدد 29 لسنة 1995 المؤرخ في 13 مارس 1995 المتعلق بتنظيم مهنة العدول المنفذين الذي جاء لينسخ ويعوض الأمر العلي المؤرخ في 24 جوان 1957 ، فنص الفصل 13 منه على المهام التي يتولاها العدل المنفذ وقد أفرد المعاينة بمطة مستقلة: إجراء المعاينات المادية. لقد أدخل المشرع عنصرا جديدا إذ قيد المعاينة في هذا المجال بشرط "المادية" وبذلك فقد حد من نطاق المعاينات التي يحق للعدول المنفذين القيام بها، وأبعد عنهم إجراء المعاينات التي لا يتوفر فيها شرط "المادية"، فمعاينة وجود شخص بمحل ما يمكن أن يستوعبه محضر معاينة ولكن معاينة عدم وجوده أصبح خارجا عن نطاق المعاينة ، وبذلك فإن ما يلح فيه أحد القرينين لمعاينة تغيب قرينه عن محل الزوجية لا يشكل معاينة رسمية تعطي أثرها القانوني في الموضوع. 7) تعرض المشرع للمعاينات ب"دليل إجراءات العدل المنفذ"الصادر عن وزارة العدل والمصادق عليه بمقتضى قرار وزير العدل المؤرخ في 24 نوفمبر 1998 ، الذي قد جعل المعاينة في صدارة الجزء الأول المتعلق بالمهام التي يقوم بها العدل المنفذ دون وساطة، فيكفي فيها مجرد الطلب من الناس، ولا حاجة لإذن القضاء، واستعمال عبارة"الناس" للإشارة وأن الطالب ليس بالضرورة متقاضي أي مدعي أو مدعى عليه، فقد يكون طلب المعاينة من باب الاحتياط لا غير ولم يقرر بعد طالب المعاينة الولوج لميدان التقاضي، وقد يكون طالب المعاينة في مرحلة التقاضي مهما كان موقعه منها في بدايتها أو في أوج مراحلها أو في أنفاسها الأخيرة فلا حاجة لشرط وجود نزاع ليبرر القيام بالمعاينة، فهو حق مطلق لا يقيده القانون وبالتالي لا يمكن أن يقيده العدل المنفذ ولا أطراف أخرى ولا مبرر للتشديد الذي يتوخاه بعض العدول المنفذين إذ ليس لهم إلا الإحجام عن المعاينات التي لا يتوفر فيه الشرط المادي أو التي تخرج عن اختصاصهم بموجب نص خاص، ولم يزد واضعو الدليل عن شرط توفر الجانب المادي في المعاينات ولئن لم يتم ذكر ذلك صراحة فإن الشرح ومجموع الأمثلة لم تخرج عن هذا الوصف.أن الدليل المذكور أبرز أهمية المعاينات وجاء متناغما مع قانون المهنة في هذا الباب غير أنه لم يتوسع بشأنها كما هو الشأن بالنسبة للدليل السابق وهو في رأيي عمل منقوص ، وواضعوه لم يتوسعوا ولم يتطرقوا لجوانب عديدة تعرض لها فقه القضاء وتعرضت لها القوانين المقارنة مثل تحذير العدل المنفذ من أن يحشر رٍأيه في ما عاينه وأن لا يمض لإبداء موقفه أو استخلاص النتائج القانونية أو الواقعية لأن ذلك من دور القاضي،وهو ما تبناه المشرع المغربي الذي توسع في التضييق فذكر بالمادة الثانية من الظهير الشريف رقم 1.80.440 المؤرخ في 25 ديسمبر 1980 " ... معاينات مادية محضة مجردة من كل رأي في النتائج الواقعية التي يمكن استخلاصها من تلك المعاينات". أما بخصوص مسألة حجية محضر المعاينة مثلا فإن ذلك أمر محسوم بمفعول القانون العام وهو ما أكده الأستاذ عمر الشتوي في كتابه " إجراءات التبليغ والتنفيذ في المادة المدنية والتجارية " فجعل المعاينات ومحتوى وشكل محاضرها فاتحة كتابه، وبعد أن دعا العدول المنفذين لعدم الدخول في الاستنتاجات أو الجوانب الفنية البحتة فقد أكد أن محضر المعاينة حجة رسمية على معنى أحكام الفصل 442 من مجلة الالتزامات والعقود. 8) تعرض المشرع للمعاينات بالفصل 38 من القانون عدد 20 لسنة 2001 المؤرخ في 6 فيفري 2001 المتعلق بحماية التصميمات الشكلية للدوائر المتكاملة فوفر للمتضرر إمكانية القيام بوصف دقيق للأشياء المتنازع في شأنها مع جواز حجزها بواسطة عدل منفذ بعد إستئذان القضاء وهو ما يمثل معاينة لها شروطها الخاصة. 9) تعرض المشرع للمعاينات بالفصل 28 من القانون عدد 21 لسنة 2001 المؤرخ في 6 فيفري 2001 المتعلق بحماية الرسوم والنماذج الصناعية فأجاز لكل من استهدف للمتضرر "إجراء وصف دقيق" عن طريق عدل تنفيذ مع إمكانية حجز الأشياء والوسائل محل النزاع وعلق ذلك على شرط استئذان القضاء. 2) الجهة المختصة في إجراء المعاينات التقت جميع التشاريع الوضعية حول أهمية المعاينة لأنها تستمد قوتها من أهمية المشاهدة وذلك في جميع المجالات وخاصة بالنسبة للإجراءات المدنية والتجارية لكن الاختلاف يبرز في مستوى الجهة التي تسند إليها مهمة القيام بالمعاينة، فالمشرع (اللبناني جعلها بيد القضاء يقوم بها بنفسه فقد نصت المادة 308 من مجلة المحاكمات المدنية أنه "يجوز للمحكمة أن تقرر من تلقاء نفسها أو بناء على طلب أحد الخصوم الانتقال لمعاينة الشيء المتنازع عليه"، أما بالنسبة للمشرع التونسي فقد أقر مشروعية المعاينة كإجراء من إجراءات العمل القضائي في شكلها العام وأوكل مهمة إجرائها للعدول والعدول المنفذين معا بموجب أحكام الفصلين 9 و10 من الأمر العلي المؤرخ في 24 جوان 1957 وأوجد نصوصا خاصة خص بها عدول التنفيذ وظل هيكلي العدول والعدول المنفذين يتقاسمون إجراء المعاينات إما في شكل حجة عادلة بالنسبة لعدول الإشهاد أو في شكل محضر أو حجة عادلة بالنسبة للعدول المنفذين نظرا لازدواجية الصفة التي كانت ممنوحة إليهم بالقانون وذلك طيلة مدة تزيد عن أربعين سنة إلى أن قرر المشرع الفصل بين التوأمين، وفي نطاق القسمة بينهما أسند مهمة المعاينات لعدول التنفيذ كما يتجلى ذلك من القانونين المنظمين للمهنتين، فانتزعها من مهام عدول الإشهاد وأكدها بالنسبة لمهام عدول التنفيذ: ففي مرحلة أولى حدد مهام عدول الإشهاد بالفصل 12 من القانون ع 60 دد لسنة 1994 المؤرخ في 23 ماي 1994 المنظم لمهنة عدول الإشهاد، والذي نصه: تحرير كل ما ترغب السلط أو الأشخاص في إثباته بحجة رسمية من اتفاقات وتصريحات. إجراء الاستجوابات المنشئة للالتزامات. تحرير الفرائض باعتماد حجج الوفيات. كما يتولى المهام التي توكلها له قوانين خاصة. وهكذا انتزع المشرع من عدول الإشهاد الحق في إجراء المعاينات إذ لم يسندها إليهم لا بالذكر الصريح ولا بالإشارة والتلميح وهو ما يفسح المجال لعدول التنفيذ لينفردوا في إجراء المعاينات باعتبار أنه لا شيء قد تغير بالنسبة إليهم فواصلوا تقديم خدماتهم للمتقاضين في مجال إجراء المعاينات وسندهم في ذلك أحكام الأمر العلي السابق ذكره إلى أن صدر القانون المنظم لمهنتهم عدد 29 لسنة 1995 المؤرخ في 13 مارس 1995 الذي جاء ليؤكد أن المعاينات هي من اختصاص عدول التنفيذ، فقد ضبط بالفصل 13 المهام التي أسندها للعدول المنفذين ونجد من بينها "إجراء المعاينات المادية". هكذا يتجلى أن مهمة إجراء المعاينات قد أصبحت منذ 23 مارس 1995 حق مطلق لعدول التنفيذ ولا حق لعدول الإشهاد أو غيرهم فيها. من المفروض أن يسدل الستار عن هذه المرحلة التاريخية التي كان ينظمها الأمر العلي المذكور وترفع مظاهر الاشتراكية بين طبقتي عدول الإشهاد والتنفيذ لينفرد كل هيكل ويستقل عن الآخر، وذلك بموجب نسخ النص القديم بمفعول القانونين المذكورين، ولتنتهي بذلك مسألة الجمع بين مصطلحي المعاينة والاستجواب، وليستقر الأمر على حقيقة واحدة وهي أن المعاينات هي اختصاص مطلق لعدول التنفيذ ولا حق لغيرهم فيها إلا أن الواقع المعاش يبرز أن عدول الإشهاد قد خالفوا القانون واستولوا على ما ليس لهم الحق فيه.