إن المعاينة هي حبل يوصل للحقيقة، ومنارة تزيل الغموض، وتصوّر المشهد صافيا في ذهن القاضي حتى يعيش مراحل الموضوع من كل جوانبه، ويأتيه الوصف بلسان صادق محايد ومسؤول صادر عن مأمور عمومي، إذ أسند المشرع مهمة إجراء المعاينات المادية لعدول التنفيذ وذلك بالفصل 13 من قانون مهنتهم بموجب القانون عدد 29 المؤرخ في 13 مارس 1995، ولا يخفى على أحد الأهمية القصوى للمعاينات المادية باعتبارها وسيلة قوية من وسائل الإثبات، (أنظر مقال المعاينات المادية اختصاص مطلق لعدول التنفيذ ولا حق لغيرهم فيها، الصباح بتاريخ 6 و8 مارس 2008)، كما لا ننسى كذلك أهمية الإعلام بالمعاينة حتى يتحقق العلم بها للطرف المقابل تماما كما تتحقق المنفعة منها لطلبها، والمتتبع لفقه القضاء من هذه الزاوية يلاحظ أن التعرض لمسألة الإعلام بالمعاينة أخذ في الازدياد. يمثل عدم حصول العلم للطرف المقابل بوقوع المعاينة في تاريخها من أكثر أسباب الخلافات، ومدخلا للقضايا المدنية لإبطال محاضر المعاينات، ومفتاحا لبوابة النزاعات الجزائية، إذ يشكك هؤلاء في دور العدل المنفذ السلبي عندما يتوقف عند إتمام المعاينة، ويحملوه بضرورة الإعلام بكل معاينة يقوم بها إلا في صور قليلة يظل فيها الطرف المسؤول مجهولا، ذلك أن عديد المعاينات تتم في غياب الطرف المدعى عليه، وقد يكون غيابه بصفة طبيعية وقد يكون بتنظيم محكم من طرف طالب المعاينة، خاصة في مادة الأحوال الشخصية كمعاينة غياب الأزواج أو معاينة إهمال محل الزوجية أو خلوه من المواد الغذائية، أو افتقاده لأسباب العيش، وبالرغم من أن الواقع يبرز أن نصيبا منها هو مسرحية مفتعلة، فإن المعاينة تتم واقعا وقانونا إلا أن ذلك لا يكفي لمن يناشد التطبيق المتبصر للقانون، إذ وعلى العدل المنفذ أن لا يكتفي بالتنصيص على غياب أو حضور الطرف المعرض للمعاينة(1) بل عليه أن يسعى إلى إعلام الطرف المعرض للمعاينة بمحضر رسمي وذلك إما أثناء إجراء المعاينة (2)، وإما لاحقا بمحضر مستقل(3)، ولئن غاب النص القانوني المنظم لهذا الجانب صراحة(4) فإن النصوص الترتيبية تأكد على واجب الإعلام بالمعاينة وتساعد على حسن التنظيم(5). 1) حضور الضد أثناء إجراء المعاينة لا يعتبر إعلاما بها: قد يكون الطرف المعرض للمعاينة حاضرا أثناء إجراء المعاينة التي يكتفي فيها العدل المنفذ بتدوين ما عاينه ولا يتمكن ماديا من إتمام المحضر حالا في شكله الرسمي وبذلك لا يمكّن الضد من نسخة منه، غير أن ذلك لا يكفي للقول بأن الطرف المقابل حصل له العلم بالمعاينة، إذ كثيرا ما ينكر الضد وقوع المعاينة ويدخل في نزاع مع العدل المنفذ، وأن الإمضاء على ظهر الملف أو على وجهه لا يتعدى القرينة عن الحضور، ولكن لا ينهض حجة للقول بأن الضد على علم بالمعاينة، إذ أن المهم في الأمر هو تسليمه النظير من المعاينة حتى يقف على نصها الحرفي، وأن ما يتم مشافهة لا يعادل ما هو ثابت بالكتابة. 2) الإعلام بالمعاينة أثناء القيام بها: إن العدل المنفذ بإمكانه إعداد محضر المعاينة بصفة مسبقة من حيث الديباجة وهوية الطالب وتقديم مختصر لموضوع المعاينة وعدد التضمين وإكساؤه بالأختام حتى يستغله أثناء إجراء المعاينة، فيتمّه من حيث تدوين ما عاينه ويسلم في الحين نظيرا منه للضد مع الهوية والإمضاء وبذلك يوصد باب النزاع، وعندها يمكن الجزم بحصول العلم للضد، لكن قد يفاجأ العدل المنفذ بطلب المعاينة، وضيق الوقت لا يسمح له بإعداد المحضر خاصة إذا لم تكن له برمجة إعلامية تمكنه من إعداد المحضر في وقت قصير، وقد لا يتمكن العدل المنفذ من إتمام المحضر بمكان المعاينة لأسباب تتعلق بتصرفات الضد الذي قد يرفض تسلم النظير أو لأسباب يخير معها العدل المنفذ الرجوع للمكتب حتى يتولى تحرير المحضر في صياغة دقيقة تعطي فكرة واضحة عما عاينه ودقق فيه وتولى القيس والعدّ، أو ليرفق المحضر بالصور التي تجسم موضوع المعاينة، كل ذلك ليعطي محضر المعاينة فكرة صافية عن الموضوع لكل من يطلع عليه، والأسباب التي قد تحول دون تسليم النظير للضد كثيرة ولكنها لا تعفي العدل المنفذ من القيام بالإعلام لاحقا موضوع محضر مستقل. 3) الإعلام بالمعاينة بمحضر مستقل: قد ينجز العدل المنفذ المعاينة بحضور الضد ولكنه يرفض قبول النظير بصفة قانونية، وقد يكون المحضر غير تام في شكله الرسمي مما يتعذر معه تسليم نظير منه للضد، وقد تتم المعاينة في مغيب الضد بصفة طبيعية أو بمساعدة القوة العامة (القانونية عدد 64/65 مارس 2009)، ففي هذه الحالات لابد للعدل المنفذ أن يعلم الضد بمحضر مستقل عن محضر المعاينة، يأتي فيه على ملخص لمطلب الطالب ويبرز مواضع الضرر ثم يمر للإعلان عن قيامه هو بصفته مأمورا عموميا بإتمام المعاينة، والتنصيص على طلبات الطالب التي تصب في خانة إرجاع الحالة لما كانت عليه أو جعل حد للأسباب المضرة وغير ذلك من المطالب، هذا المحضر يتم تبليغه للضد مع نظير من محضر المعاينة حسب إجراءات التبليغ التي حددها القانون، وقد أظهرت الممارسة أن واقعة الإعلام لها فوائد عديدة بالنسبة لكل طرف. 4) هل الإعلام بالمعاينة واجب بالقانون؟: إن المشرع لم ينظم مادة المعاينات المادية فلا تنظيم لها في مستوى الإثبات بمجلة الالتزامات والعقود، ولا تنظيم لها في مستوى إجراءات التقاضي بمجلة المرافعات ولم تتم الإشارة إليها إلا في مواضع متفرقة، وبذلك شملت الضبابية كذلك واقعة الإعلام بها، ولا نجد أثرا لموضوع الإعلام بالمعاينات إلا في باب الآراء الفقهية والتنظيمية. 5) الآراء الفقهية والنصوص الترتيبية: لا خلاف في أن الإعلام بالمعاينة ليس واجبا يحمّله القانون على العدل المنفذ بنص صريح ولكنه محمول عليه بأعراف مهنية ونصوص ترتيبية حتى لا يخرج عن إطار واجباته المهنية من باب تحقيق مبادئ العدل والإنصاف ومن خلال احترام المبادئ العامة كتحقيق المواجهة بين الخصوم وهي من الضروريات التي تدخل في نطاق الذوق القانوني السليم، صحيح أن العدل المنفذ لا يآخذه أحد عند القيام بالإعلام بالمعاينة من الناحية القانونية، ولكن يآخذ معنويا على عدم القيام به بوصفه الحرفي المختص بهذا الإجراء، حتى لا يساهم في سلبيات التكتم على إجراء قانوني يستحب فيه الإعلام للمعني بالأمر. أ) فقه القضاء: ان المحاكم لا تتردد في الحكم بتحميل الضد أجرة محضر الإعلام بالمعاينة عندما يطلب منها ذلك، ونذكر على سبيل المثال الحكم المدني الصادر عن ناحية أريانة تحت عدد 1001 بتاريخ 9/10/2001، وهو ما ينهض حجة على الاعتراف بحجية هذا المحضر، وقد نوقش هذا الأمر في إطار القضية المدنية عدد 696 16 بتاريخ 3/11/2008 فأكدت المحكمة الإبتدائية بأريانة أن مصاريف محضر الإعلام بالمعاينة في طريقه وهو إقرار بحجية واقعة الإعلام بالمعاينة، ومن ثم ألزمت الضد بدفع أجرة ذلك العمل. ب) المذكرات التوجيهية للهيئة: من خلال المراسلة الموجهة للعدول المنفذين بتاريخ 10 ماي 1994 وبعد أن بين الأستاذ عمر الشتوي عميد العدول المنفذين في ذلك التاريخ الطبيعة القانونية لمحضر المعاينة، أكد على لزوم الإعلام بها: "المعاينات تجرى بطلب من الخصوم ولا لزوم فيها لاستئذان القاضي، وهي أيضا تخضع لمبدإ المواجهة بين الخصوم، حيث لا بد أن يسلم العدل المنفذ نظيرا من المعاينة للشخص الذي أجريت ضده ولو بمحضر مستقل عن طريق الإعلام بالمعاينة" ( أنظر أرشيف الهيئة الوطنية للعدول المنفذين أو الصفحة 9 من كتاب المذكرات التوجيهية لعميد الهيئة الوطنية للعدول المنفذين 1993 2001، طبعة 18/11/2001)، والحقيقة أن العديد من عدول التنفيذ لم يلتزم بتحقيق مبدإ المواجهة بين طالب المعاينة والطرف المقابل، وهو إهمال لا مبرر له، ذلك أن إجراء المعاينات كثيرا ما يتم في غياب تام للطرف المقابل وأن القيام بالإعلام بالمعاينة يمثل الفرصة الحقيقية لحصول العلم، وحصول العلم للطرف المقابل قد يدفعه إلى تلافي الأسباب الضارة في إبانها قبل أن تستفحل أثارها، وقد تدفع واقعة الإعلام إلى الصلح، وقد تكشف واقعة الإعلام سوء نية طالب المعاينة، وهي كلها من الأسباب التي تزيد في مكانة المعاينة بين المتقاضين، فضلا عما يحققه من فائدة معنوية ومادية للعدل المنفذ. إن المتقاضي كثيرا ما يتذمر من سرية المعاينة التي يفاجأ بها بعد مدة طويلة فيتعذر عليه إثبات حقائق مغايرة مثل ما يحدث في المعاينات الرامية لإثبات غياب الزوجة عن محل الزوجية والحال أن غيابها كان بتدبير محكم من الزوج الطالب للمعاينة، وحصول العلم في إبانه قد يكشف حقائق عديدة، وبعيدا عن الطرف المعرض للمعاينة فإنه لا تقبل سرية المعاينة، ثم استغلالها بعد تفويت الفرصة عن الطرف المقابل ليناقش موضوع المعاينة شكلا ومضمونا، ولعل الإعلام بالمعاينة يكون مناسبة لإعلان الضد عن الاستجابة لطلبات طالب المعاينة وينتهي النزاع، وأسوق مثال التاجر الذي فوجئ بمعاينة يعود تاريخها إلى ستة أشهر تفيد أنه وفي ذلك التاريخ عرض بضاعته في مساحات تتجاوز واجهة محله، ولو قام العدل المنفذ بالإعلام بالمعاينة في تاريخ إتمامها للتاجر ليضعه أمام واقعة عدم رضا أجواره، فقد تكون مناسبة ليتوقف الضد عن استغلال أجزاء مشتركة من العقار وهو ما يجنب طالب المعاينة الدخول في مرحلة التقاضي، (الحكم الاستعجالي الصادر عن ابتدائية أريانة تحت عدد 077 22 بتاريخ 21 فيفري 2003). ت) الآراء الفقهية: في 10 ديسمبر 1996 وبمناسبة إصدار كتابه "إجراءات التبليغ والتنفيذ في المادة المدنية والتجارية" جعل الأستاذ عمر الشتوي موضوع المعاينات أول عمل استهل به الكتاب، واعتبر محضر المعاينة في طليعة المحاضر التحضيرية للتقاضي، وقد أكد في طرحه للموضوع على ضرورة الإعلام بالمعاينة" يجب أن تبلغ نسخة من محضر المعاينة للشخص الموجه ضده طبقا لإجراءات التبليغ سواء كان ذلك مباشرة أو بواسطة محضر إعلام بمعاينة، كل ذلك تطبيقا لمبدإ المواجهة بين الخصوم وللفصلين 4 و 6 من م.م.م.ت...." ث) دليل إجراءات العدل المنفذ: إن دليل إجراءات العدل المنفذ الصادر عن وزارة العدل والمصادق عليه بقرار من وزير العدل بتاريخ 24/11/1998 (الرائد الرسمي بتاريخ 4/12/1998) قد جعل محضر المعاينة على رأس قائمة محاضر الأعمال التحضيرية (الصفحة 26)، ولم يهمل مسألة الإعلام بالمعاينة، إذ وبصيغة الوجوب أكد على ما يلي: "على العدل المنفذ في جميع اعماله أن يبلغ نسخة من كل محضر للمطلوب ولو كان معاينة..." (الصفحة 30 من الدليل المذكور). أعتقد أن العدل المنفذ الملتزم بالتوصيات الصادرة عن الهياكل المهنية التي ينتمي إليها والماسك بالدليل المنظم لجوانب عديدة لإجراءات مهنته يفضل النص الترتيبي عن رغبات طالب المعاينة الذي ومن زاويته الخاصة لا يرى موجبا للإعلام بالمعاينة، ولا يقبل من عدل التنفيذ مجاراة طالب المعاينة في التكتم وعدم إعلام الخصم بها (القانونية عدد 62/63 السطور الأخيرة من الصفحة 21 من مقال المعاينة بواسطة عدل التنفيذ). لا شيء يجعل العدل المنفذ يقبل شروط طالب المعاينة" أريد معاينة فقط " ومن واجب عدل التنفيذ أن لا يتخلى عن التعهد بالإعلام بالمعاينة ولو أدى به الأمر لتبليغ المحضر بواسطة غيره من عدول التنفيذ خارج الدائرة الترابية لمرجع نظره، ولا يقبل التخلي عن واقعة الإعلام بالمعاينة إلا إذا تعذر فعلا تحديد الطرف المتسبب في موضوع المعاينة. إن المعاينات المادية لم تنل حظها من طرف الهياكل المهنية بالقدر الذي يزيل الشك ويرسّخ المنهجية الصحيحة في إجراءاتها، ولئن نظمت المجالس المتتالية التي تولت الإشراف على الهيئة الوطنية للعدول المنفذين والغرف عديد الملتقيات العلمية، وتناولت عديد المواضيع القانونية ومنها ما تم التعرض إليه أكثر من مناسبة وقارب درجة التكرار المبتذل، وفي المقابل لا وجود لموضوع " المعاينات المادية بواسطة عدل التنفيذ"، مما جعل العدل المنفذ الأستاذ نجيب بسباس يترجم "LE CONSTAT" من تأليف الأستاذ ميشال دولاتر العدل المنفذ بباريس، وقد تولى توزيعه على هامش الملتقى العلمي المنعقد بصفاقس" التنفيذ يواكب التأهيل " بتاريخ 9 ماي 1997.