اضطلعت المدرسة الخلدونية بدور كبير في غرس قيم الحداثة في تونس وقد قدمت هذه المدرسة التي يعود تاريخ بعثها إلى أواخر القرن التاسع عشر جليل الخدمات لتونس ويعود لها الفضل في جانب مما حققته بلادنا من تقدم ومن انفتاح على العصر. ولكن الخلدونية تجد نفسها اليوم وبعد أن فقدت بريقها ودورها البارز في المجتمع ( منذ الإستقلال) وكأنها تترنّح بعد تلقيها للكمات قاسية قد تقضي على وجود هذا الصرح التربوي والعلمي أو على آخر ما بقي منه. فلا يكفي أن تتحول الخلدونية إلى مجرد رسم قديم بعد أن فقدت دورها فهذا الصرح مهدد بأن يهوى بالكامل وأن يفسخ من الذاكرة الوطنية إذا ما لم تقع المسارعة بإنقاذه لأن انقاذ الخلدونية واسترجاعها ولو لجانب من بريقها يصب في مصلحة تونس والتونسيين. لماذا إذن هانت الخلدونية على التونسيين ولماذا هي اليوم مصدرا لكل الأطماع وتجد نفسها في قلب المشاحنات والصراعات الإيديولوجية وفي قلب التجاذبات التي وصلت إلى حد تدخل القوة العامة التي حاولت اخراج إمام جامع الزيتونة حسين العبيدي بالقوة من مقر المدرسة الخلدونية التي يصر على أنها تابعة لجامع الزيتونة وبالتالي يعتبر أنه من حق مشايخ الزيتونة التصرف فيها وفق ما تم نقله عنه وعن مسانديه من تصريحات ووفق ما بغلنا من أخبار حول استنجاده بعدة وزارات من أجل تحقيق هدفه. وللتذكير فقد وجهت لإمام جامع الزيتونة ومساندين له تهمة اقتحام المدرسة الخلدونية وتغيير أقفاله وهو ما رفضته الجمعية والتجأت للقضاء. ومع أن القوة العامة حلّت على عين المكان فإن القضية لم تحلّ بل على العكس تحولت لحظة تنفيذ حكم قضائي إلى مناسبة للإعلان عن الإحتجاجات وعن الغضب ذلك أن مجموعات تتكون بالأساس من الطلبة تجمهرت أمام مقر الخلدونية بالمدينة العتيقة بتونس ورفعت شعارات تسيّس القضية وتناهض الجمعيّات المدنية التي استقرت بها وتعتبر أن في ذلك محاولة للمس من التعليم الإسلامي إلخ... وبعيدا عن تأييد موقف هذا على حساب ذلك لان كل من جامع الزيتونة والمدرسة الخلدونية من المؤسسات التي يفخر بها التونسيون ويتوقون إلى لحظة تسترجع فيها المؤسستين مكانتهما الحقيقية فإن اختزال المدرسة الخلدونية في مجرد ملحق لجامع الزيتونة فيه اجحاف في حق الخلدونية. فهذه المدرسة يقول الدارسون ورجالات التاريخ أنها أسست من أجل توفير فرصة للتونسيين للأخذ بأسباب العصر. فالخلدونية وإن بعثها ودعم وجودها فيما بعد تونسيون متأصّلون وقد نهلوا من العلوم الدينية فإنها وجدت من أجل توفير امكانية أخرى للتعليم غير التعليم الديني وكان ذلك ضروريا حتى يتمكن التونسيون من المنافسة واقتحام سوق الشغل الذي كان حكرا على المعمرين الذين يحظون بتعليم عصري. وقد تمكنت الخلدونية بمرور الوقت من أن تكتسب سمعة طيبة باعتبار أنها تقدم للطالب تعليما عصريا وبرنامجا متنوعا يضم مختلف العلوم. ومن الطبيعي أن يساهم وجود الخلدونية في حركة التنوير وفي حركة الإصلاح في البلاد بل إن وجود الخلدونية يدخل أصلا في خانة الإصلاحات التي غامر بها المصلحون التونسيون وقد ساهمت في تكوين أجيال بشروا بعقلية جديدة وبروح جديدة دون القطع مع الهوية. بل على العكس فإن الخلدونية كانت تقوم بعمل يتكامل مع عمل الزيتونة. تحتاج الخلدونية اليوم إلى ردّ اعتبار ومن الضروري أن لا تقتصر المعركة على الجمعيات التي تتصدر للدفاع عن المدرسة وعلى كامل أقسامها على غرار جمعية الدراسات الدولية وإنما من الضروري أن يكون هناك قرارا وطنيّا يحسم المسألة ويحفظ استقلالية المؤسسة ولم لا يسعى لإعادة الروح إلى الخلدونية وإلى عهد كانت فيه المدرسة مفخرة لتلاميذها وطلبتها وللتونسيين.