- في الثامن من فيفري عام 1958 دكّ الطيران الحربي الفرنسي بلدة "ساقية سيدي يوسف" الصغيرة بالقرب من الحدود الجزائريّة ، وذلك عقابا لتونس على دعمها لكفاح الثوّار الجزائريّين من أجل تخليص بلدهم من الإستعمار . ورغم سقوط مئات الضحايا الأبرياء وما لحق القرية من تخريب ودمار ، فإن تونس واصلت بإمكانيّاتها المحدودة والبسيطة مساندتها للجزائر حتّى نيل إستقلالها سنوات قليلة عقب ذلك العدوان. وتشاء الأقدار أن تتعرّض البلاد بعد خمسة وخمسين عاما على تلك المجزرة المريعة ، إلى جريمة أخرى لا تقلّ بشاعة وفظاعة وهي إغتيال وجه سياسي بارز في ظرف دقيق وحسّاس من مسار إنتقالها الديمقراطي الصّعب . ولعلّ ما يلفت الإنتباه في كلا الجريمتين ، رغم الفارق الزمني الكبير بينهما ، هو أنّ الموقف الفرنسي من تونس ظلّ محافظا على نفس الخطّ العام في النظر إلى "مستعمرته السّابقة " والحرص على أن لا تخرج أبدا من دائرة نفوذه السّياسي والثّقافي فضلا عن الإرتباطات الإقتصاديّة المعروفة. وضمن هذا السّياق يمكن النّظر إلى تصريحات وزير الدّاخليّة الفرنسي "مانويل فالس" إلى إذاعة أوروبا 1 تعقيبا على إغتيال شكري بلعيد بأنّه "يتعيّن على فرنسا دعم الدّيموقراطيّين في تونس لضمان عدم خيانة القيم التي قامت من أجلها ثورة الياسمين ...." على أنّه إمتداد لنفس ذلك الخطّ العام دون مراعاة للتحولات العميقة التي طرأت على المستوى الإقليمي أو الدّولي ودون إدراك لما قد تسبّبه مثل تلك التّصريحات وغيرها من التّدخّلات الفرنسيّة المتعدّدة على تجربة ديمقراطيّة ما تزال هشّة وطريّة العود . إنّ خروج الإستعمار الفرنسي من تونس في 1956 لم يضع حدّا لهيمنة باريس وسيطرتها المطلقة على كافّة المفاصل الحيويّة في البلاد سواء في السّنوات الأولى للإستقلال أو في الأعوام التي تلتها .فالنخبة السياسية التي قادت مرحلة بناء الدولة كانت متجذرة إلى حد كبير في الثقافة الفرنسية ولم يسمح مطلقا في تاريخ تونس الحديث ببروز جيل من السياسيين والمثقفين ممن يملكون سلطة القرار خارج تلك الدائرة الثقافية المغلقة . ومن هروب بن علي قبل عامين من الن حلم جزء هام من التونسيين بكسر تلك القاعدة والتحرر من السيطرة الفرنسية التي باتت معالمها واضحة للجميع في حالة "الإغتراب اللغوي" الذي يعيشه هذا البلد العربي وفي الإزدواجية الثقافية المقيتة التي باتت تهدد بمظاهر الإنفصام الحضاري الشامل والتي يمكن معاينتها بسهولة في الشارع التونسي وفي معظم وسائل الإعلام على وجه الخصوص . ولم يكن من الصعب على الملاحظ أن يدرك حالة البرود والجفاء التي طغت على موقف الفرنسي عقب الإعلان عن نتائج أول إنتخابات نزيهة وشفافة في تاريخ البلاد والتي سمحت للإسلاميين بتصدر المشهد السياسي . لقد كان لافتا أن الإنتقاد الأول الذي وجهته معظم وسائل الإعلام التونسية لوزير الخارجية لدى إستقباله في تونس لنظيره الفرنسي هو أن المحادثة لم تتم كما جرت عليه العادة باللغة الفرنسية مما دفع البعض للتشكيك في قدرة وجدارة الوزير بمنصبه ! ورغم الترحيب الأوروبي والأمريكي الذي لقيته فكرة الائتلاف الحكومي بين إسلاميين علمانيين لإدارة المرحلة الإنتقالية إلا أن هذه التجربة نظر إليها في باريس بكثير من الريبة والتشكيك المتواصل في النوايا وحتى بعد وصول الإشتراكين إلى السلطة عقب هزيمة ساركوزي فإن نفس تلك الريبة بقيت على حالها مما دفع الرئيس الجديد هولند إلى تأجيل زيارته المرتقبة إلى تونس لأكثر من مرة . ولعل مخاوف فرنسا تستمد جذورها من توجسها المستمر من فقدان ما تعتبره هي وجزء كبير من النخبة التونسية مكاسب لا يمكن التفريط فيها أو حتى مجرد التشكيك والنقاش حولها . والإشكال الكبير هنا هو أن الفرنسيين لا يتصورون أنه بالإمكان جسر الهوة التي حاولوا طوال السنوات السابقة تعميقها بين الحداثة والإسلام . و من الواضح أن باريس التي لم تقدم دعمها الكافي والضروري لإنجاح التجربة الحالية في تونس تنظر إلى مستقبل هذا البلد ضمن بعدين: الأول سياسي ويهم الإنتخابات المقبلة التي لا يعرف حتى الن موعدها وهنا أصبح موقفها لا يحتمل التأويل بخصوص دعمها "للديمقراطين" على حساب من تعتبرهم "قوى ظلامية" و"رجعية "مما يطرح عدة تساؤلات حول شكل وطبيعة ذلك الدّعم المترقّب ومدى تأثيره على نزاهة ومصداقيّة تلك الإنتخابات . أمّا البعد الثّاني فهو حضاري وثقافي بالأساس ويهمّ صياغة الدّستور المقبل للبلاد ، ولا تخفي الأطراف المقرّبة من الفرنسيّين حرصها على أن لا تتعدّى الإشارة فيه إلى الإسلام واللّغة العربيّة حد الفصل الأوّل أي دون أن يطال تأثيرها بقيّة الفصول المنظّمة لسير مؤسّسات الدولة . لقد أخطأت فرنسا قبل خمسة وخمسين عاما عندما فهمت أنّها تستطيع بعدوانها على "ساقية سيدي يوسف" أن تقطع صلة التّونسيّين بأشقّائهم في الجزائر ويبدو الآن أنّها تكرّر نفس أخطائها القديمة عندما تعتقد أنّ تدخّلاتها المتكرّرة في شؤون التّونسيّين في هذه المرحلة الدّقيقة من تاريخهم سوف تسمح لها بالتّحكّم من جديد لا في حاضرهم فقط بل وفي مستقبلهم أيضا. كاتب صحفي