من هم أولئك الذين ثاروا؟ الفقراء والمهمّشون، في الوسط الغربيّ. لماذا؟ لأنّهم ملّوا من الفقر، والأكاذيب، والتّمييز، والفساد، والإستبداد، والظّلم، ويئسوا من تحقيق مطامحهم، تحت النّظام الّذي يتجاهل مطالبهم وطموحاتهم، ولا يحسن غير لغة التّهديد، والتّعذيب، والإقصاء، والقمع. أدركوا، عكس أغلبيّة المرَفَّهين، أنّ النّظام فاسد، لا يُرجى صَلاحُه، وأنّ الخيار الوحيدَ هو إزالته. أحسنوا التّحليل والفهم، ونفّذوا ما قرّروه. ماذا يريدون؟ الشّغل وتحسين الأجور، لعيش كريم. في أيّ أجل؟ فورا. وبأيّ طريقة؟ لا يدرون؛ لكنّهم موقنون أنّ ذلك ممكن، وأنّ الدّولة قادرة على توفير ذلك. الحكومة الإنتقاليّة الأولى، بعد الثّورة، لم تنكر ترقّباتهم؛ بل سايرتها. واصَل الأحزاب والسّياسيّون، بما فيهم أولئك الّذين كسبوا الإنتخابات، في نفس المنطق، وقدّموا نفس الوعود. ثمّ أيّدت الحكومة الإنتقاليّة الثّانية تلك التّرقّبات بترفيع نفقات الدّولة، راصدة لذلك ميزانيّة تكميليّة، سخيّة، خاصّة لتمويل المشاريع التّنمويّة. طبعا، لم تُحقِّق الحكومة الوعودَ كلّها؛ والقليلُ الّذي أوْفت به لم يأت بالنّتائج المترقَّبة؛ وبقي الوضع على ما كان عليه، بل تأزّم أكثر. الإستنتاج هو، من ناحية، أنّ الدّولة غير قادرة على توفير الشّغل، وإزالة البطالة، ورفع الأجور ومستوى العيش؛ ومن ناحية أخرى، أنّ التّوجّه المتّبع ليس الأصلح لتحقيق المطالب. لكن، هل للحكومة النّزاهة والتّواضع لتعترف بخطئها، وتغيّر سياستها؟ الجواب، حسب ما نرى :لا. الحلّ هو الإخلاص والصّراحة، لوضع التّرقّبات في مكانها، حسب الممكن؛ أي اتّباع منهج الواقعيّة. التّرقّبات فوق الممكن هو خداع: إمّا عند صياغة الوعد؛ أو عند عدم الوفاء به. لقائل أن يقول: لكنّ عدم الوفاء بالوعد كان نتيجة السّذاجة وقلّة الخبرة. قلّة الخبرة والدّراية، مع ادّعاء عكس ذلك في الإنتخابات وعدمِ التّحرّي في تحديد الوعود، هو أيضا خداع. علينا أن ندرك، كما أدرك الّذين ثاروا، أنّ النّظام الّذي فشل وأدّى إلى ثورة لن ينجح ولن يحقّق المطلوب. أيّ زعيم على رأس هذا النّظام، مهما تكن كفاءته، وشعبيّته، وعزيمته، سيفشل، لإنّ النّظام فاسد، لا من كان عليه فقط، ولأنّ النّظام سيعرقل الإصلاحات، ويشلّ الحلول، ويبطل أيّ تغيير. لا محالة من تغيير النّظام. على أيّ حال، هذا هو معنى ومغزى الثّورة: تغيير النّظام، لا القائمين عليه فحسب. السّؤال: كيف؟ كيف نخرج من المأزق والدّوامة؟ بالإتّفاق على ضرورة تحقيق الثّورة وتغيير النّظام. ما هو النّظام؟ هي القوانين، الإجراءات، والأشخاص الّذين يُصدرونها ويطبّقونها، والهياكل والمؤسّسات المسخَّرة لذلك. هذا ما يجب أن نغيّره. بدون وعي جماعيّ بضرورة تغيير النّظام، وتفويض سياسيّ لإنجاز الإصلاحات الجذريّة، الثّوريّة، بالفعل، لن نحقّق الأهداف والمطالب، والطّموحات المعقولة والمشروعة. هناك سؤال يتبادر إلى الأذهان: هل تتطلّب الإجراءات لفائدة المحتاجين إجراءات ضدّ الميسَّرين، كما يتصوّر أو يدعو إلى ذلك البعض؟ أي أنّ مصلحة المحتاجين تأتي على حساب الميسَّرين. الجواب لا، كما سنرى، في ما يلي، إذ الحلّ هو زيادة الإنتاج، والاستثمار، والثّروة، لا عقاب فئة، أو تعطيلُها، أو مجرّد توزيع الثّروة – إذ الثّروة الموجودة قليلة ولا تفي بالحاجة، لا على المدى الطّويل ولا حتّى القصير. الحلّ ليس: من أين نأخذ؟ بل هو: كيف ننتج؟ التّوجّه الصّحيح، الّذي يحقّق الطّموحات، ويفتح الآفاق، ويخرجنا من الأزمة، هو، إذا: إصلاحات هيكليّة، جذريّة، تُغيِّر النّظام، وتحرّر، وتحرّك، وتنمّي القطاع الخاصّ؛ دولة متفتّحة، مسؤولة، متجاوبة ومنسجمة مع الشّعب، ومصالحه وطموحاتِه، لا منغلقةٌ على نفسها، ومصالحِها ومصالح موظَّفيها؛ تحرير مجال العمل والمبادرة، والأسواق، لزيادة الفرص، والإستثمار وحشد رؤوس الأموال. ما هي الإجراءات العاجلة الّتي يمكن اتخاذها، خاصّة للمحتاجين؟ تحويل قدر أكبر من الدّعم إلى المحتاجين، في شكل إعانة إجتماعيّة؛ إعفاء المداخيل الدُّنيا من الضّريبة على الدّخل؛ إلغاء الإمتيازات والتّشجيعات الّتي يتمتّع بها أصحاب الدّخل المرتفع، وتحويلها إلى تخفيضات في الأداء على القيمة المضافة يستفيد منه المحتاجون وغيرُهم؛ إلغاء التّسعير على المواد الفلاحيّة وإنهاء التّوريد الّذي يخفّض أسعار هذه الموادّ، بتعلّة "تعديل السّوق"، والكفّ عن التّدخّل في هذه الأسواق، وذلك لرفع مداخيل الفلاّحين والمشتغلين في القطاع الفلاحيّ، الّذين غالبيّتهم من أصحاب المداخيل الدّنيا؛ إلغاء الإعانات والتّشجيعات للفلاحة، وتحويلها إلى إعانة إجتماعيّة للمحتاجين، وتخفيضات في الأداء على الدّخل الفرديّ وفى الأداء على القيمة المضافة؛ الكفّ عن توريد الموادّ الأساسيّة بغاية تخفيض أسعارها في السّوق المحلّي، "لتعديل السّوق"، وتحويل الخسائر الّتي تتكبّدها الحكومة من جرّاء هذه الصّفقات إلى إعانة إجتماعيّة وتخفيض ضرائب. الهدف من وراء الإعانات للفلاحة وتوريدِ الموادّ الأساسيّة هو تخفيض الأسعار "للمحافظة على الطّاقة الشّرائيّة للمستهلك." يمكن الوصول إلى نفس الهدف بالإعانة الإجتماعيّة للمحتاجين، وترفيعِ حصّتهم من الإعانات والتّعويضات، وتخفيض الضّرائب (على المداخيل وعلى الإستهلاك) على كلّ الشّرائح، بدون تدخّل الدّولة. بعبارة أخرى، عوض تجميعِ ضرائب، تخفّض الطّاقة الشّرائيّة للمستهلك، وإعادتِها، في شكل إعانات للفلاّح وخسائرِ تجارة "تعديل السّوق"، لإلغاء تخفيض الطّاقة الشّرائيّة النّاتج عن تلك الضّرائب، تكفّ الدّولة عن تخفيض الطّاقة الشّرائيّة، ثمّ ترفيعها، وذلك بتخفيض الضّرائب الّتي تضرّ بالطّاقة الشّرائيّة والّتي تموّل ترفيعها، بصفة ملتوية، من بعد. لا جدوى من الأخذ بيد لنعيد بأخرى، مع الزّيادة في تدخّل الدّولة، وترفيع تكاليفها وسوء تصرّفها. تحرير أسعار المواد الفلاحيّة، والإقلاع عن التّدخّل في أسواقها من أجل تخفيض أسعارها، يرفع، كما قلت أعلاه، مداخيل الفلاّحين والمشتغلين في الفلاحة. كما ترفع مداخيل المناطق المحرومة والمهمّشة، الّتي هي بالأساس فلاحيّة، لا تتوفّر فيها الظّروف ولا البنية التّحتيّة لإنشاء مشاريع صناعيّة أو خدماتيّة، في أجل قصير. بعبارة أخرى، الضّغط على أسعار الموادّ الفلاحيّة، وعلى دخل الفلاّح، وربحيّة الفلاحة، هو ضغط على المناطق الفقيرة، وحرمانُها من ثمرة مجهودها وعملها، لفائدة المناطق الأخرى – أي هو تصعيد للفوارق وزيادةٌ في الجَوْر. لن نقدر على إنشاء مشاريع بسرعة كافية لتحسين ظروف الولايات الغربيّة، لكن يكمن أن نحسّن ربحيّة ونشاط ونموّ الفلاحة، الموجودة هناك، بسرعة وسهولة. من المرجّح أنّ تحسين ربحيّة الفلاحة سيؤدّي إلى تحسين المردود والجودة، نتيجة توفّر الإمكانيّات لذلك وزيادة المداخيل والمرابيح من جرّائه، وإلى رفع الإستثمار الفلاحيّ، وما يؤدّي إليه من تشغيل، ومداخيل وتنشيط للإقتصاد. الخلاصة: أحسَن المحرومون، المهمّشون فَهْمَ الوضع والخلاصَ منه، عن طريق الثّورة؛ طلباتهم ومطامحهم مشروعة ويجب السّعي على تحقيقها؛ لا تقدر الدّولة، خاصّة لوحدها، على تحقيق الشّغل والعيش الكريم؛ كما لا توفّر ذلك الإجراءات المناوئة للميسَّرين وتوزيعُ الثّروات؛ الحلّ هو تحقيق الثّورة، عن طريق الإصلاحات الهيكليّة، وتحرير الإقتصاد، وتحويل الدّولة لخدمة المواطن والإقتصاد؛ لكنّ النّتائج تتطلّب وقتا؛ في الأثناء، يجب إلغاء الامتيازات والإعانات للميسَّرين؛ تحويل الدّعم والإعانات للمحتاجين؛ تخفيض الضّرائب لتحسين الطّاقة الشّرائيّة للجميع، وخاصّة المحتاجين؛ تحرير أسعار وأسواق الموادّ الفلاحيّة، لرفع مداخيل الفلاّحين والمناطق الفلاحيّة، والنّهوض بهذا القطاع الهامّ والحسّاس. السّؤال: هل نحن نقبل تصوّرات جديدة ومنطقا بديلا لإنجاز الثّورة؟