- تحادثت مع أحد الزملاء حول الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد هذه الأيام، وأدلى كل منا بدلوه حول الموضوع إلى أن خلصنا إلى الحديث عن مجلس الحكماء الذي شكله رئيس الحكومة من شخصيات وطنية مشهود لها بالكفاءة، و الخبرة، والحيادية. قال: حقا إنها فكرة حسنة، تكرس مبدأ التشاور وتفتح على آراء وتجارب شخصيات وطنية أثبتت على مدى الوقت قدرتها على تقديم النصح، والترفع فوق الحسابات السياسية والحزبية الضيقة، وجعل مصالح البلاد العليا فوق كل اعتبار. قلت: وما هو دور المجلس الوطني التأسيسي صاحب الشرعية الذي كلفنا ملايين الدينارات لانتخابه؟ وهاهو اليوم يكلفنا ملايين أخرى. قال : لم يسجل المجلس تقدما ملحوظا في مهمته الأساسية المتعلقة بكتابة الدستور، فضلا عن عجزه إلى حد الآن على إرساء الهيئات التعديلية، مثل هيئة الانتخابات، وهيئة الإشراف على القضاء، وهيئة الإعلام، وسن قانون الانتخاب، وتعديل بعض القوانين الأخرى ذات الصلة بإرساء دعائم الدولة، فهو لا يتوفر على الكفاءات اللازمة لانجاز هذه المهام، فجل أعضائه لا يملكون الخبرة والكفاءة التي يتمتع بها أعضاء مجلس الحكماء، وطفق يعدد لي الأسماء من هذا الفريق وذاك، ويقارن ضاحكا بينها. قلت: تمهل قليلا كأنك تهزأ أو لا تعترف بما أفرزته صناديق الاقتراع؟ أليس المجلس الوطني التأسيسي نتاج انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، صفق لها العالم الحر، ونوه بها كتجربة متفردة بعد الثورة التي أطاحت بدكتاتورية عاتية؟ قال: دعك من هذا الكلام، لعبة الديمقراطية هذه هي أسوا ما أنتجه العقل البشري، فبواسطة الديمقراطية صعد هتلر إلى الحكم، ودفع العالم بأسره إلى محرقة الحرب العالمية الثانية، وباسم الديمقراطية استحل بوش الابن دماء ما يفوق المليون عراقي، ثم زعم انه يقود حربا مقدسة بتعليمات من الرب، هذا حال الديمقراطية في مهدها الأول، عند شعوب تدربت على العيش المشترك فيما بينها، رغم اختلاف المشارب والرؤى. أما الديمقراطية الناشئة في بلادنا، فقد أوصلت أناسا غير أكفاء إلى المجلس التأسيسي، هم عبارة عن خليط غير متجانس تعوزهم الخبرة والنزاهة، لم نر منهم إلا خصام لا ينقطع من أجل منافع مادية ضيقة، وتنابز بالألقاب، فكأننا اخترنا أراذلنا ليؤسسوا لنا. ماذا ننتظر من نواب لا يتورعون على الكذب، ولا يحترمون بعضهم البعض، ويشنفون آذاننا بمواقف ومداخلات صارت أضاحيك الناس، يتندر بها الصغار قبل الكبار؟ فحتى القلة القليلة من الكفاءات من بينهم قد تاهت وسط غوغاء المجلس ودهمائه، فهم مغلوبون على أمرهم، لا حول ولا قوة لهم، فمبدأ التصويت والأخذ بقرار الأغلبية، جعلهم في كل مرة يذعنون على مضض، ألا ترى أن المنابر الإعلامية تزدحم بهم صباحا مساء، وأن مقاعدهم في المجلس خاوية على عروشها، فنسبة التغيب أدت في العديد من المرات إلى عدم اكتمال النصاب، مما ينجر عنه تأجيل الجلسات أو إلغائها، كل هذا على حساب مصالح الشعب الذي انتخبهم، وكلفهم بمهمة كتابة الدستور في غضون سنة، تعهدوا بها أمامنا في شكل عقد أخلاقي، ثم خلفوا وعدهم. قلت: هذه مبالغة منك، فقد أفحشت القول إلى القوم، فعلى كل حال هم نواب الشعب المنتخبون، ولا يجوز الاستهانة بما أفرزته صناديق الاقتراع، فهذا تأسيس سيء من قبلك، و انقلاب على الشرعية الانتخابية، وإبدالها بشرعية مسقطة، في شكل مجلس حكماء، لعل الكثير منهم لم يحرك ساكنا زمن دكتاتورية الرئيس السابق. قال: إن العديد من النواب المحترمين غيروا مواقعهم، وانشقوا عن الأحزاب التي أوصلتهم إلى قبة المجلس، ألا تُعد هذه خيانة مؤتمن؟، فأنا أشعر اليوم أنني مغدور ومغرر بي، فقد انتخبت قائمة حزبية لأنني أثق في أحد أعضائها، و هاهو اليوم يبدل و ينساق وراء حزب هجين، ظهر للحياة بعد موته مثل طائر الفينق، الذي يولد من رماد احتراق والده، فهو مرصود على العيش كما كان أبوه. الشعور بالخيانة الذي ينتابني هو إحساس قاتل ومرير، يدمر كل معاني الثقة في داخلي، فمن الطبيعي أن تكون ردة فعلي عنيفة، على قدر حجم الخيانة، فأنا لا زلت تحت تأثير صدمة قوية، هزت كياني، وجعلتني افقد الثقة في هذا المبدأ الذي يسمونه "ديمقراطية"، ثم بالله عليك ماذا تنتظر من خائن متلون يتوفر على قدر من الكفاءة العلمية؟ وماذا تنتظر من أمين، ملتزم بقرارات حزبه، يصوت بأوامر تأتيه من خارج القبة، فهو ضعيف الوعي السياسي والاجتماعي، وبالتالي فهو ضعيف الإحساس بالمسؤولية تجاه النفس والمجتمع ؟ قلت: ما هو البديل للديمقراطية ، التي استبشر بها الشعب، وظن أنه سينعم بالعدل والحرية، واحترام حق الآخر في التعبير والمواطنة؟ قال : خلال فترة قصيرة ظهر ت بوادر فشل الديمقراطية في بيئتنا، التي عاشت دهرا، تحت سلطة راع يسوق القطعان بالعصا، فأغلبنا لا زال يتصرف ببدائية عمياء، تدفعنا غرائزنا القائمة على نفي الآخر، والتعصب الأعمى للفكرة والحزب، حتى ولو كان ذلك على حساب المصالح العليا للبلاد، وهنا لا أستثني أحدا، المجلس التأسيسي المنتخب، و الحكومة المنبثقة عنه، و المعارضة التي تتتبع السقطات ولا تبدي إلا المساوئ، والمنظمات الاجتماعية التي تساند الإضرابات والاعتصامات العشوائة، والمواطن العادي الذي أحال قيمة الحرية إلى فوضى عارمة، فلا قوانين تُطبق ولا أخلاق تُحترم، وحتى نخبتنا"التي فيها نكبتنا"، فهي مشوهة، هجينة، إذ يحملنا بعض أبناء جلدتنا على إتباع ثقافة جبال طورا بورا الأفغانية، أو متاهات أرض نجد و الحجاز في عمق صحراء العرب، في حين يحملنا البعض الآخر إلى تبني ثقافة غربية، دخيلة عن عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة، مسكونة بهاجس المادة والإباحية الفاضحة، في حين كان يجب على هذه النخب الحداثية أن تدفع إلى الاستفادة من علوم الغرب، وكل ما له صلة بالمناهج والنظريات العلمية والتجريبية من داخل منظومتنا التربوية، واللغوية، والأخلاقية، حتى لا نعيش هذا الانقسام الحاد الذي بدأ ينخر المجتمع التونسي فيزيد المشكل تعقيدا. قلت: نأتي إلى لب السؤال، ماهو البديل؟ قال: حيث ثبت للجميع أن إسقاط الديمقراطية بصيغتها الحالية، على مجتمع لم يألفها ولم يتهيأ لها، فقد فرضتها ثورة أسقطت النظام الاستبدادي، لكنها لم تلامس الفكر والوعي العميقين للمواطن التونسي، الذي لا زال يؤمن في أغلبه بنظرية الأب المنقذ، فلقد اتخذت بعض القوى العظمى بلادنا مخبر تجارب لإنشاء ديمقراطية على القياس، تفتقد إلى أبسط مقومات القرار الحر، الذي نمارس من خلاله سيادتنا فوق أرضنا ووفق مصالح شعبنا وبلادنا... فالبديل يكمن في استنباط مؤسسة جديدة، تكون ضامنا وراعيا لتركيز ديمقراطية حقيقية، تكون نتاج دربة وتمرس على إتقان آلياتها و متطلباتها، وهذه المؤسسة لا تعدو أن تكون"مجلس الحكماء" أو"مجلس أهل الحل والعقد" وهي مؤسسة نابعة من تاريخنا العربي الإسلامي، تتكون من"جماعة مخصوصة من الذين تختارهم الأمة, من وجوهها المطاعين(كبار السن) ذوي العدالة والعلم بالأمر العام, وبخاصة العلماء المشهورين ورؤساء الناس" ليقدموا النصح، ويُفزع إليهم عند الخطب الجلل، فهم أهل المشورة، وهم أهل الرأي والحزم. ويُشترط في أعضاء مجلس الحكماء:العدالة، والعلم، والكفاءة، والرأي، والحكمة، والأمانة، ولا يُلتجأ إليهم إلا عند الحاجة، فدورهم استشاري غير ملزم بالقانون، ويستمدون قيمتهم من ذواتهم، إذ لا يجب أن يُعرف من ضمنهم متهم ولا كذاب ولا مجروح، بل هم أفاضل من خيار الناس. قلت: سوف يعترض البعض، ويقولون لا شرعية إلا شرعية الانتخاب، ولا حكمة تنبع من خارج المجلس المنتخب، حتى وإن كلفهم ذلك فتنة لا تبقي ولا تذر. قال: قلد ذكرتني بمقولة جليلة للإمام الحسن البصري:"الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، فإذا أدبرتْ عرفها كل جاهل" أي أن الفتنة يحذر منها العقلاء، الذين يقدرون العاقبة، فهم يستبصرون حقيقتها، ويستجلون عواقبها،"فالعلماء سفينة نوح, من تخلف عنها لاسيما في زمان الفتن كان من المغرقين" ويدفع إليها الحمقى والجهلة، فهم لا يدركون حقائق الأمور وعواقبها، حتى إذا شبت نار الفتنة، وأريقت الدماء استوى في معرفتها العلماء والسفهاء، وربما ندم الجميع حيث لا يفيد الندم.. قلت: وقانا الله شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن، فأنا على يقين أن تونس ستتعافى، وستعرف طريق النجاح، فما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، ولعل دم الفقيد شكري بالعيد الذي نحسبه عند الله شهيدا، هو آخر الدماء مهما تفرقت الأهواء وتاهت السبل. *خبير محاسب