لا ندري إن كان من حسن حظ المسرحيين أو من سوء حظهم أن يقع المسرح البلدي بالعاصمة في قلب الشارع الرئيسي بها. فقد أصبح المسرح البلدي وبدون أن يأخذ برأي المسرحيين جزءا من الديكور في الحركات الاحتجاجية وفي المظاهرات وفي التحركات السياسية التي تتخذ من الشارع مسرحا لها. بالأمس غطّى علم حزب حركة النهضة خلال مسيرة نادى بها قياديون من هذا الحزب رسميا لإعلان مساندتهم للشرعية وشارك فيها رئيس الحركة وعدد من رموزها ووزراء وعدد من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي وغيرهم، غطّى الواجهة الرئيسية للمسرح البلدي مما أغضب المسرحيين والمثقفين الرافضين لتسييس المؤسسات الثقافية الوطنية. فعلم حزب حركة النهضة وإن كان حزبا حاكما فإنه لا يمثل كل التونسيين ووضع علم آخر بخلاف علم تونس على المسرح هو عبارة عن اقتحام وحتى غزو سياسي لمعقل ثقافي وطني بامتياز. إن مشهد المسرح البلدي بالعاصمة وهو مكسوّ بعلم حزب سياسي أيّا كان لونه السياسي ومرجعيته لا يمكن أن يترك انطباعا طيبا لدى الملاحظين. فالمتظاهرون وربما وهم يقومون بهذه الحركة وحتى دون وعي بذلك يقدمون رسالة مفادها أن البلاد والدولة ومؤسساتها تابعة للحزب الحاكم وهو ما يحيلنا إلى وضع قديم كنا نعاني منه قبل الثورة. من قبل كان هناك تقريبا مزج كامل بين الحزب الحاكم والدولة واليوم نخشى أن يتواصل نفس المنطق بعد الثورة. فإن كان من واجب الدولة أن تسهر على المؤسسات الوطنية أو بلغة أخرى المؤسسات العمومية فإنه ليس من حق أي حزب أن يستبيح هذه المؤسسات وان يوظفها لغرض سياسي. ومشهد علم حزب حركة النهضة الذي يرفرف على المسرح البلدي يقدّم صورة سلبية جدا عن الوضع السياسي في تونس اليوم وعلى علاقة الدولة بالحزب الحاكم. كما أنه يمكن أن يؤذي مشاعر المثقفين والمسرحيين منهم بالخصوص، وخاصة أولئك الذين يغارون على استقلالية الفعل الثقافي عن التوظيف السياسي من طرف أيّة سلطة وأيّ حزب سياسي لأغراض حزبية ضيقة. فالمسرح البلدي وإن كان من واجب الدولة أن تتعهده بالعناية لأنها راعية المؤسسات الوطنية يبقى ملكا للمثقفين وللمسرحيين وللفعل الثقافي في إطار القانون والأعراف والتقاليد. ومشهد يوم أمس حيث يرفرف علم حزب حركة النهضة على المسرح يفرض على الملاحظ أن يقرأه في بعده الرمزي على أنه يحمل رسالة مفادها عدم استعداد الحزب الحاكم البقاء على مسافة من الدولة وإلا كيف نفسر ما قام به أنصاره والمنظمون الذين لا يرون مانعا على ما يبدو في استخدام واجهة المسرح البلدي في تظاهرة حزبية. إن تونس تسع الجميع وعلينا أن لا نتعب من تكرار ذلك خاصة بعد أن أصبحت بلادنا تعددية بامتياز بفضل الثورة الشعبية فهي تسع جميع الألوان السياسية.. التونسيون مهما اختلفوا يجتمعون تحت لواء وطن واحد وعلم واحد، علم تونس. ما كان لنا بطبيعة الحال أن نعلق على الموضوع لو أن علم تونس ارتفع على واجهة المسرح البلدي بالعاصمة بدلا من علم حزب سياسي خلال مسيرة لأنصار حزب حركة النهضة أو ما يسمون بأنصار الشرعية في تونس. فالمسرح البلدي معقل للثقافة وهو بيت للمسرحيين وينبغي أن يكون مفتوحا لمختلف المقترحات والألوان المسرحية بعيدا عن التوظيف السياسي. لا ننسى أن مسرح مدينة تونس هو تحفة فنية ومن المهم أن لا يقع تشويه جمال هذه التحفة بالزج بها في الصراعات السياسية. المسرح البلدي قيمة ثقافية وهو ليس مجرّد واجهة لا معنى لها أو قطعة من الديكور في الشارع. المسرح البلدي له حرمته واستقلاليته وعلى الجميع أن يحترموا هذه الحرمة وأن يتركوه خارج السجالات والصراعات.. إنه معقل للفن وهكذا يجب أن يكون...