عاجل/ شخصية سياسية معروفة يكشف سبب رفضه المشاركة في "قافلة الصمود"    عاجل/ باكستان: المصادقة على مشروع قرار يدعم إيران ضد إسرائيل    بطولة برلين: أنس جابر تتأهل إلى الدور ثمن النهائي    فيليبي لويس: "أرقام الترجي الرياضي مبهرة حقا .. ولاعبوه يتميزون بروح قوية"    جندوبة: الادارة الجهوية للحماية المدنية تطلق برنامج العطلة الآمنة    "مذكّرات تُسهم في التعريف بتاريخ تونس منذ سنة 1684": إصدار جديد لمجمع بيت الحكمة    الدورة الأولى من مهرجان الأصالة والإبداع بالقلال من 18 الى 20 جوان    في قضية ارتشاء وتدليس: تأجيل محاكمة الطيب راشد    إجمالي رقم اعمال قطاع الاتصالات تراجع الى 325 مليون دينار في افريل 2025    الكأس الذهبية: المنتخب السعودي يتغلب على نظيره الهايتي    عاجل/ هذا ما قرره القضاء في حق الكاتب العام السابق لنقابة قوات الأمن..    عاجل/ هذا موقف وزارة العدل من مقترح توثيق الطلاق الرضائي لدى عدول الإشهاد..    منوبة: الاحتفاظ بمربيّي نحل بشبهة إضرام النار عمدا بغابة جبلية    الكاف: فتح مركزين فرعيين بساقية سيدي يوسف وقلعة سنان لتجميع صابة الحبوب    من هو الهولندي داني ماكيلي حكم مباراة الترجي وفلامينغو في كأس العالم للأندية؟    معرض باريس الجوي.. إغلاق مفاجئ للجناح الإسرائيلي وتغطيته بستار أسود    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    243 ألف وحدة دم أُنقذت بها الأرواح... وتونس مازالت بحاجة إلى المزيد!    كهل يحول وجهة طفلة 13 سنة ويغتصبها..وهذه التفاصيل..    كيف نختار الماء المعدني المناسب؟ خبيرة تونسية تكشف التفاصيل    منذ بداية السنة: تسجيل 187 حالة تسمّم غذائي جماعي في تونس    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    الحماية المدنية: 536 تدخلا منها 189 لإطفاء حرائق خلال ال 24 ساعة الماضية    تأجيل محاكمة المحامية سنية الدهماني    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    اليوم الإثنين موعد انطلاق الحملة الانتخابية الخاصة بالانتخابات التشريعية الجزئية بدائرة بنزرت الشمالية    قصف إيراني يصيب مبنى للبعثة الأمريكية في تل أبيب (فيديو)    وفد من وزارة التربية العُمانية في تونس لانتداب مدرسين ومشرفين    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    فجر الثلاثاء : الترجي يواجه فلامينغو وتشيلسي يصطدم بلوس أنجلوس: إليك المواعيد !    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    طقس اليوم..الحرارة تصل الى 42..    قتلى وجرحى بعد هجمات صاروخية إيرانية ضربت تل أبيب وحيفا..#خبر_عاجل    كأس المغرب 2023-2024: معين الشعباني يقود نهضة بركان الى الدور نصف النهائي    باريس سان جيرمان يقسو على أتليتيكو مدريد برباعية في كأس العالم للأندية    النادي الصفاقسي: الهيئة التسييرية تواصل المشوار .. والإدارة تعول على الجماهير    النفط يرتفع مع تصاعد المواجهة في الشرق الأوسط.. ومخاوف من إغلاق مضيق هرمز    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    إيران تعلن إعدام "جاسوس الموساد" الإسرائيلي إسماعيل فكري شنقا    بعد ترميمه فيلم "كاميرا عربية" لفريد بوغدير يُعرض عالميا لأوّل مرّة في مهرجان "السينما المستعادة" ببولونيا    بوادر مشجعة وسياح قادمون من وجهات جديدة .. تونس تراهن على استقبال 11 مليون سائح    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    زفاف الحلم: إطلالات شيرين بيوتي تخطف الأنظار وتثير الجدل    المبادلات التجارية بين تونس والجزائر لا تزال دون المأموال (دراسة)    الإعلامية ريهام بن علية عبر ستوري على إنستغرام:''خوفي من الموت موش على خاطري على خاطر ولدي''    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    إطلاق خط جوي مباشر جديد بين مولدافيا وتونس    باجة: سفرة تجارية ثانية تربط تونس بباجة بداية من الاثنين القادم    هل يمكن أكل المثلجات والملونات الصناعية يوميًا؟    موسم واعد في الشمال الغربي: مؤشرات إيجابية ونمو ملحوظ في عدد الزوار    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    المدير العام لمنظمة الصحة العالمية يؤكد دعم المنظمة لمقاربة الصحة الواحدة    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    خطبة الجمعة .. رأس الحكمة مخافة الله    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يَحْيىَ يَعِيش أمْ نَعِيشُ، نعيشُ ويَحْيَا الوَطَنْ؟
قراءة في مسرحية يحيى يعيش للفاضل الجعايبي :
نشر في الشعب يوم 26 - 06 - 2010

انتهت السنة السياسية والانتخابوية والنقابية والقضائية والحقوقية والدراسية أيضا وانسدل الستار على الموسم الثقافي.
ومع نهاية شهر ماي المنصرم انتهت عروض «يحيى يعيش» مسرحية الفاضل الجعايبي وجليلة بكّار .ولأنّ الموسم ينتهي بالحصاد والدِّرَاس فلا بدّ من السؤال عن الصّابة .ماذا بقي بالمحصلة من موسم 2010 في حقول الإبداع الثقافي عموما والمسرحي خصوصا؟
ثمّة عناوين جديدة أزهرت في الربيع الفائت وتقدّمت لمعرض الكتاب نذكر منها ارغم أنفكا لعبد الجبّار المدوري وبأبناء السحابب لمحمّد الجابلّي وبعمّ حمدة العتّالب لمحمّد صالح فليس وغيرُها غيرُ قليل ...
أمّا على خشبة المسرح فبعد «خمسون» (1)نذكر «وطن» (2)و«رحيل» (3)و«آخر ساعة» (4) و«الناس الأخري» (5)وهي من الأعمال التي شدّ لعبها على الركح الاهتمام .
أعمال أدبية ومسرحية وسينمائية وتشكيلية هي مرآة عاكسة لصورة البلد ولاهتمامات الناّس وأحلامهم وانتظاراتهم لذلك تستوجب الوقوف عندها بالتحليل والاستقراء لتتبع حركة الإبداع والسؤال عن مواكبتها لحراك المجتمع ومدى إنصاتها لنبض المخاض وتسجيلها لأنفاس الجنين واستشرافها للآتي.
إذا، بعد «خمسون»، طلعت علينا دار «فاميليا» ب«يحيى يعيش».
لستُ أدري لماذا شعرت بشيء من الارتياح لبرمجة العروض بقاعة المونديال) هاني جوهرية سابقا (بنهج ابن خلدون .ربّما لأنّي لازلتُ أذكر آخر عرض حضرته بالمسرح البلدي وكيف تسرّب البرد إلى جسمي صاعدا من قدميّ اللتين تجمّدتا .ثمّ إنّ المسرح البلدي بطرازه الذي يذكّر بالنهضة الإيطالية ينتمي إلى المسارح الكلاسيكية ويذكّر بالإرث المعماري الاستعماري ...كنت شغوفا به، مولعا بالدخول إلى فضائه الفخم، مبهورا بعلوّ سقفه واصطفاف شرفاته وإطلالة االميزانينب .نقوشه ومنحوتاته وتماثيله تُخْبركَ بأنّك في حضرة مِعمار يمثّل سلطةً هي سلطة الفنّ.
ولكنْ سلطة أيِّ فنٍّ؟ فنُّ من؟
سلطة الفنّ كانت في العشريات الأولى (الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات) بقبضة الدولة االوطنية الفتيّة ...واليوم، وتحت مظلة العولمة المتوحشة، تراجع دور القطاع العام واستحوذ عليها التجار الذين تقاسموا الفنون قطعا مرقّمة تشظتْ وانتشرت في سوق البلد على غرار السُّوق العالمية -سلعا باهتة خاوية لاهثة وراء الربح تتجاور وتتنافس مع الأكلات الخفيفة التي لا تُسْمِن ولا تُغْني من جوع .وهي ألوانٌ فاقعة قبيحة وروائحُ فوّاحةٌ مفضوحة وإيقاعات هزّازة شطّاحة وأصوات نافرة ناشزة وكلمات هابطة مائعة .
ولكنَّ الحركةَ الثقافية في بلادنا تحاول جاهدةً أن تقفَ، أن تفكَّ القيودَ، أن تدفعَ شمسَ الإبداع الفنّي من وراء الحُجُبِ، أن تُطلق الكلمةَ الصادقة، أنْ ترسمَ الصّورة الحيّة، أنْ تُنْشدَ اللّحنَ الخالد.
والفنّ المسرحي في بلادنا تأصّل وله جمعياته وناسه ورجاله ونساؤه أيضا بالتأكيد وإن انحنى منه العودُ الغضّ الطري في بعض الحالات فإنّه لم ينكسرْ ولن ينكسرَ وهو في غابة الفنون روض ما انفكّ يطرح ثماره المتنوعة ألوانا وأذواقا ...
و«المسرح الجديد» شجرة أصلها ثابت في الثرى وفرعها فارع في الثريا .وهو مدرسة على الخشبة ومذهب في المجال .ودار «فاميليا» اسم وحسب ونسب .والفاضل وجليلة وفاطمة أعلام على رؤوسهم نار.
لقد عوّدنا «المسرح الجديد» برصد حال المجتمع والغوص في الذات الإنسانية مهما تنوّعت واختلفت المواضيع المطروحة من مسرحية إلى أخرى منذ «التحقيق» (6)و «العرس» (7) ف «غسّالة النوادر» (8)التي نزلتْ قربا من سماء الغيم وانطلقت سيولا من الكلام فعرّت المدفون وبشّرت بالميلاد الجديد في خريف الموت .ثمّ «عرب» (9)وقد ولع العُرب بالحرب بلبنان وغير لبنان وتبعتها «فاميليا» (10)وعلى إثرها «عشّاق المقهى المهجور» (11)وصولا إلى «جنون» (12)وأخيرا ومع «خمسون» (13)وقف الشعب يحصي ما حصد بعد نصف قرن من التعمية والتكميم والتعذيب.
ولقد كان كلّ عمل مناسبة للبحث في وسائل التعبير الركحي الملائمة وتجريب أشكال اللعب المسرحي القادرة على التبليغ واستنباط خيوط تواصل جديدة بين قطبي الفعل المسرحي :الممثلون والجمهور.
لقد عوّدتنا الجماعة، في كلّ مرّة، على الجرأة في الطرح والقوّة في الطرق والفنيات في العرض.
واليوم، وبعد «خمسون» ها هو «يحيى يعيش» .
فما هي مسرحية «يحيى يعيش» «أمنيزيا»(14)؟ أهي مسرحية سياسية أم نفسيّة؟ هل هي فحص دقيق لشخصية الوزير الأوّل المخلوع أم هي تشريح لماكينة السلطة؟ من هو يحيى يعيش ؟ ومن هي الشخصيات المحيطة به وماذا تمثل؟ كيف تجلّتْ الساحة السياسية ومكوّناتها في هذه المسرحية السياسية؟
.1 الدخلة:
مدخل الفرجة مدخل القراءة.
لمّا ولجنا القاعة، قاعة السينما والمسرح، لم نر الشاشة البيضاء العملاقة، شاشة الأحلام.
تركتِ الشاشةُ المجال للركح.
على مثل هذا الركح بمسرح الألمب (15)تُنجَزُ الأعمالُ الجليلة والأفعالُ الخالدة والصراعات الكبرى، صراعات الأبطال ضدّ الآلهة والأقدار من أجل تحرير الإنسان وتقرير المصير .
كان الركح فارغا.
الركح فضاء خالٍ من أيّ عنصر من عناصر الديكور .ولا يوجد ستار .كلّ ما في الأمر :سواد .اللون الأسود يسود .تراه في أرضية الخشبة، في الجدار الخلفي، أي في ظهيرة الركح وفي جانبيه اللذين يجسدان عمقه، وفي جناحيه أي جانبيه على يسار ويمين عرض القاعة حيث بضع درجات في كلّ ناحية تسمح بالصعود إلى الخشبة.
شدّ انتباهي السواد والفراغ اللذان يؤثثان الركح.
ولكنْ ألهَتْني الحركةُ في القاعة وتوافُدُ الضُّيوف والتّطلعُ إلى الوافدين على حفل الافتتاح وتحيّة هذا وفرحة اللقاء بتلك وتهنئة قاصّ بمولوده الجديد ...ألهاني كلّ هذا بعض الوقتِ حتى حان الوقتُ .
لم نسمع تلك الطرقات على أرضية الركح إيذانا ببداية العرض.
تقدّم السيد الحبيب بن الهادي، مدير الإنتاج بدار «فاميليا»، ورحّب بالحضور وطلب بكلّ أدب أن يأخذ كلّ مكانه معلنا بداية العرض.
وتحرك كلٌّ في مقعده وعدّل من جِلْسته وبدأ الهدوءُ يعُمُّ القاعةَ والسُّكون يسود وشخَصَت العيون أمامها تنتظر ولمّا امتدّتْ اللحظات وطالتْ صارت العين تَبْحث عن شيء، عن علامة، عن إشارة في الفضاء الركحي الأسود .لا شيْءَ .البؤْرةُ السّوداء سوداءُ، ساكنةٌ، غامضة، مبهمة، مغلقة.
تمطّى الزمن .طال الانتظار .
هي لحظة واحدة وطالتْ.
هل هذا مندرِجٌ في المسرحية؟ هل تعطّل الجماعة وهذا مجرّد تأخير أم بدأ العرض وهذه لوحة الافتتاح؟
لا أظنّ الأمر تأخيرا أو تقصيرا من جماعة المسرح الجديد المدرسة العريقة، الجديّة، التي اكتسبت الاحتراف من زمان وربّانها مولَعٌ بالتوغّل في المجاهل وبالتجريب في بحور الفنون الركحية .
انتبهي أيّتها العين وانْظرِي .وتَيَقَّظْ يا راصد الجمال المنشود وتَهَجَّأْ يا طالبَ الفنّ المفقود.
ما المقصود؟ الركح، مسرح الأحداث وخشبة العرض بؤرة سوداء .ولماذا امتداد لحظة الانتظار، لحظة البداية، لحظة الهدوء هذه أمام هذه البؤرة السوداء؟
لعلّ الدخلة ستكون بالإنارة باللعب على أوتار فنّ الأضواء ...نظرتُ إلى سقف الركح فإذا الفوانيسُ العديدة المعلقة سوداءُ هي أيضا بعضها يرسل ضوء عاديا، عاديا جدّا، وأغلبها مغمض الأجفان .الضّوء لا يُوجَّهُ إلى عنصر من الديكور إذ لا ديكور في الفضاء الركحي .ولا يمسح منطقة .لا يحدّد بقعة .بل ظلّ الضوء المرسل بهرة معلقة في هذا الكهف المظلم يحاول الانتشار في المجال ولكنّ السَّواد يَصُدُّه .صراع معلّق بين النّور والعَمَى، بين ضوْء فجرٍ جديد وظلام ليل بهيم .لكأنّه السَّحَرُ ..هل هي لحظة الخلق الأولى في سفر التكوين؟ وامتدّتْ العينُ إلى فوانيس القاعة فوجدتْ القاعةَ مضاءة إضاءة عادية جدّا بل لعلّها أقلّ من العادي نورا وإشعاعا .لكأنّ إنارتيْ القاعة والركح إنارة واحدة لفضاء واحد.
هل هذا جزء من المسرحية؟ هل هو داخل في العرض؟
لعلّه مشهد البداية أو لوحة الافتتاح .
البداية .مشهد يلفّه الهدوء والسكون والصمت والسواد .لا حركة، لا صوْتَ، لا شخصية لا ديكور لا لعب بالأضواء .
ما المقصد؟
وأحسَسْتُ تململا خلفي وسمعتُ همسا هنا وهناك فحسِبْتُ المللَ غزا الحضورَ والحيرةَ تفشّتْ في القاعة .نظرتُ إلى جارتي، وما كنتُ أراها أو أشعر بوجودها، فقالت همسا بعيْنيْها :اانظرْب وأشارت بوجهها الذي امتدّ والتفتتْ إلى الخلف .
فالتفتُّ.
رأيتُ شخصا في كسوة سوداء في هيأةٍ غريبة، إنّه ليس متفرّجا .اتخذ وجهُه سحنةً ما ثابتة، يمشي ببطء وينظر في الفراغ .وإذا بثان يتبعه بنفس الكسوةِ السوداء والنظرةِ والمِشيَة .
ثمّ انتبهتُ إلى أنّ جانبا من الجمهور الذي قُبَالتي ينظر مشدوها إلى جانب القاعة الثاني، يسار القاعة، الذي صار خلفي .فالتفتّ وإذا بثلاث شخوص أخرى بنفس اللون الأسود والهيأة تتقدّم الهوينى خطوةً فخطوة .تخالُ أقدامهم لا تلمس الأرض .وكأنّهم يمشون على قطن السَّحاب .نظراتهم شاخصة .كلّ واحد تعلّقتْ نظرته بنقطة في الفضاء انشدّ إليها وقد اكتسى وجهه تعبيرة واحدة ثابتة لا تتغيّر، أوهو ينظر إلى الجمهور .يتفحّص الوجوه .يمسح القاعة بنظرته الغائمة السّاهمة .يتقدّم شبحا أسود وقسمات وجهه جامدة لستَ تدري عمّا تعبّر .شبح خارج من ليل، من حلم، من ذاكرة، من زمن ما، من عالم آخر ...
ولحق بهم رابع ثمّ خامس وامتدّ صفّ الشخوص وكل واحد قد اتخذّ هيئة وظلّ شاخصا إلى الجمهور يسبح واهما بين وجوه الجمهور .وسمعت حولي من يهمس :اجليلة في الناحية الأخرى.ب والتفت إلى يمين القاعة، فوجدت نفس الصفّ تقريبا :أربعة أو خمسة ممثلين يتقدّمون ونفس المسافة بينهم وقد بلغ أوّلهم الصفوف الأولى من المقاعد .كان أوّلهم يتقدّم في نفس الهيئة بنفس الخطوة وعينه المشدودة إلى نقطة وعلى وجهه قناعه الذي رسمه بتقاسيم وظهر به .
كان أوّلهم، وهو يقترب من المدرج، ملتفتا إلى الخلف، إلى الجمهور، في حين أنّ جسمه ظلّ متوجّها إلى الأمام، إلى الركح، وهو دوما يتقدّم بنفس الوتيرة وكأنه الماشي في النوم، كما ذاك المريض الذي يسير نائما.
وقُبَيْل بلوغ الدرجات التي يُصعد منها إلى الركح، استدار تدريجيا بكامل جسمه إلينا وواصل تقدّمه آليا إلى الركح وهو يمشي القهقرى ويتبعه من كان بعده بنفس الانشداد إلى الجمهور يتفحّص وجوهه ووجهُه بنفس التعبيرة .
وكذلك كان الصفّ الآخر في الطرف الآخر للقاعة والصفّ الثالث في وسط القاعة.
ثلاثة خطوط ارتسمتْ شيئا فشيئا .تتقدم في بطء ..بطيء .تطلَع من خلفية القاعة، من الجمهور، من خلفه من ضلعه الأيمن ومن ضلعه الأيسر ومن قلبه .والآن، من بين يديه، يبدأ صعود الدرجات عتبةً عتبة، شبحا فشبحا وتغزو هذه الأشباح الطالعة من رحم القاعة خشبة المسرح والصَّمْت دوما يسود والدهشة تتملكنا أكثر والحيرة تقتاتُ منّا.
هذا الجمهور قد صار مشدودا إلى الركح .بعد أن كان إلى الخلف ملتفتا وإلى جانبيه منتبها .
هذه الدخلة وما حفّ بها من إنارة وفراغ الركح واللون الأسود والصّمت وغياب الموسيقى ...الدخلة ومجموع العناصر الفنيّة تؤلف معنى.
ولا يمكن أن نفهم إلاّ كون هذا العرض طالع من الجمهور .وهذه الحكاية خارجة من ذاكرة الجمهور، من الذاكرة الجماعية.
وهمست جارتي: أليستْ هذه«فازة بريشتية» (16 )؟
.2 الذَّاكرة:
إنّمَا جَماعةٌ بلا ذاكرةٍ قطِيعٌ يُقَادُ إلى المَسْلَخ.
صرنا نتابع تحرُّك الشخوص على الفضاء الركحي، وهي تموج كما الأشباح التائهة كما الأفكار السابحة .
وراحت الجماعة تتحرّك في الفضاء الركحي فتشغله .صارت الجماعة تتحرّك كما الذرّات في معادلة كيميائية، وكأنّهم خلية نحل عند باب المنحل.
ثمّ بدأ الانسحاب من الركح عبر الجانبين، على اليمين واليسار بطريقة مثيرة للانتباه :يمضي الواحد منهم نحو الجدار الأسود، الأظلم وهو يسير إلى الوراء بنفس تلك الهيئة النائمة الحالمة ...تعاودك صورة أو فكرة الماشي في النوم وأنت تنظر إلى الشبح الأسود يمشي القهقرى ويقترب الهوينى من جدار الظلام فيغوص فيه تدريجيا .يبتلعه الظلام شيئا فشيئا حتى يغيب كلّيا.
ولمّا غاب آخرهم، بدا أوّلهم، من الناحية الأخرى وبيديه كرسي أبيض .يتقدّم والكرسي أمامه وكأنّه سيقدّمه لأحد .ويتبعه كلّ فريق الممثلات والممثّلين .يخرجون من طيّات الظلام، من هنا وهناك وكلّ واحد يرفع كرسيّه أمامه .وتصطف الكراسي بالعرض، في صدارة الركح، قبالة الجمهور، في صفّ مستقيم، منتظّم، ويجلس كلّ على كرسيّه .وسرعان ما يدخل كلّ واحد، أو واحدة، منهم في سِنَةٍ من النوم.
هيئات .آهات .أنّات .شخير.أجسام تتلوّى .أعضاء تتمطى .أياد تمتدّ في الفضاء كأنّها تحاول القبض على شيء معلّق .أحلام هاربة .كلماتٌ تفلتُ من عُقال عقْلٍ نائم فتخرج مبهمة مرّةً مُفصِحةً مرّة أُخرى عن أمنيةٍ، عن رغبة، عن كبتٍ، ممجوجةً بين أشداق فمٍ يتلذّذُ حلاوة النعاس .وقد تستحيل النعسة عند هذا أوتلك حالةَ توجّس وخوفٍ فترى الأعضاء تنكمشُ والرأسَ تنخفضُ واليديْن تمتدُّ دافعةً وترتدُّ مُدافِعة.
ثمّ قاموا تباعا .وراحوا يحلمون يتحرّكون .يتواصلون وهم نائمون.
وفجأة دويّ انفجار .
إنّه انفجار طلق ناري.
ويُحطم انفجارُ الطلقِ الناري جدارَ الصمت المطبق على المشهد .ويهتزّ كلّ واحد من الجمهور ويدكّه الدَّويُّ في مقعده دكّا .وعلى الركح تعمّ حالة فزع مرعب .ويجري كلٌّ في كلِّ اتجاه .ويتتالى دويّ زخّ الطلق الناري . وتتهاوى الأجساد وتتلوّى وتحاول النهوض وتسقط ثانية .والطلق يقتنص كلّ من يتحرّك وكلّ من يظلّ واقفا .ويلاحق كلّ من يحاول الهروب ولا مفرَّ .ويطول المشهد .ولا ينقطع الطلق بل تقلّ وتيرته بقدر ما تقلّ حركة الأجساد .ويسقط آخر من كان واقفا .ويتلوى جسد هناك فتأتيه طلقة منفردة .وتحاول رأس أن تنهض فترديها طلقة مصفرة مديدة .تتحركّ جثة فتجهز عليها طلقة خاصة.
وتهيّأ لنا، نحن الشهود، أنّ المقصود أحداث 26 جانفي .1978
وتعود الحركة .وتعود الحياة .وتنضاف الموسيقى.
وفجأة الفجيعة الثانية .ويُلعْلِع الرصاص ثانية .نفس المشهد يتكرّر .هل هي أحداث انتفاضة الخبز في الثالث من جانفي .1984 أم هي أحداث قفصة الأخيرة ذات الهدنة شبه المعلّقة؟
كانت أحلاما تتمطى بمعسول النعاس .وإذا بها أحلام مزعجة بل كابوس مرعب.
وكاد النسيان يَطْويها .وها هو الفنّ المسرحي يُجليها فَيُحْيِيها.
إنّ جماعةً بلا ذاكرة هي قطيع يُقاد إلى المسلخ .
فما الحكاية؟
.3 الحكاية:
حكاية يحيى يعيش.
يحيى يعيش هو وزير أوّل أُقيل من منصبه .ويعلم بإقالته عن طريق نشرة الأنباء المسائية .ثمّ يتعرّض لجملة من التضييقات :يمنع من السفر .تمنع عليه الزيارات .يتخلى عنه صهره . ثمّ تحرق مكتبته وقد أخذه النعاس أثناء المطالعة .يتخلّى عنه محاميه الذي هو صنيعته .ويعيش في المستشفى في عزلة تامة حيث البوليس متواجد ليلا نهارا دون انقطاع .وتتعاون الإدارة ويمنع على أيّ كان أن يكلّمه أو يتّصل به ما عدا محرز الممرض أو فريق الأطباء .ووُجِدَ من بينهم مَن نسِيَ قَسَمَ ...وقبِلَ أن يلعبَ الدورَ الذي طُلِبَ منه فيأخُذُ الفحص الطبي شكلَ وطابعَ الاستنطاق البوليسي ...والمسألة :هل كان حريق المكتبة محاولة انتحار أم محاولة اغتيال أم مجرد حادث؟
ثمّ إنّ الطبيب الخاص لسي يحي قَبِلَ أن يتعاون مع(هم) من أجل المصلحة العامة ولتجنيب الوطن القلاقل وبفضل تقديمه الشهائد الطبيّة المطلوبة فاز بحقيبة وزارة الصحة...
إذا تدور المسرحية حول الشخصية المحورية.
يحيى يعيش تجلى بمثابة الشمس .هو المركز والكلّ من حوله في مداره يدورون.
إذا من حوله؟ وماذا حوله؟ وكيف وقع بناء الحكاية ركحيا وعرضها على الخشبة؟
هوامش
* نعيش نعيش ويحيى الوطن، هي الصيغة المقترحة من الشاعر أولاد أحمد لتحوير مقطع من نشيد الثورة: نموت نموت ويحيا الوطن. وجاء الاقتراح بدار الاتحاد العام التونسي للشغل أثناء أزمة ,1985 لمّا حاصر البوليس والمليشيا دار الاتحاد. ورفع النقابيون النشيد، نشيد الثورة موقّعا بإرادة الحياة...
(1) خمسون هي المسرحية الأخيرة من إنتاج دار فاميليا، سنة ,2006 خمسون سنة بعد الاستقلال، عرضت خارج تونس ثمّ سمح لها بملاقاة الجمهور بتونس بعد حوالي سنتين.
(2) وطن: مسرحية أنجزت في إطار مشروع التخرج بالمعهد العالي للفنون الدرامية بتونس وقدّمت في جوان ,2009 وهي بإمضاء: سهام عقيل ومجموعة من الطلبة.
(3) رحيل: مسرحية من إخراج عبد الفتاح الكامل فرقة المزّونة عرضت بضع مرّات بتونس وفي بعض الجهات لاقت نجاحا، إذ فازت ببعض الجوئز، وقبولا حسنا في صفوف الجمهور.
(4) آخر ساعة: مسرحية عزالدين قنّون وليلى طوبال، إنتاج مسرح الحمراء، .2010
(5) الناس الأخرى: مسرحية توفيق الجبالي، إنتاج مسرح التياترو، .2010
(6) التحقيق : مسرحية للفاضل الجعايبي، إنتاج المسرح الجديد.
(7) العرس: مسرحية للفاضل الجعايبي، إنتاج المسرح الجديد.
(8) غسّالة النوادر : مسرحية للفاضل الجعايبي، إنتاج المسرح الجديد.
(9) عرب: مسرحية للفاضل الجعايبي، إنتاج المسرح الجديد.
(10) فاميليا: مسرحية للفاضل الجعايبي وجليلة بكّار، فاميليا للإنتاج
(11) عشّاق المقهى المهجور
(12) جنون : مسرحية للفاضل الجعايبي وجليلة بكّار، فاميليا للإنتاج
(13) خمسون: مسرحية للفاضل الجعايبي وجليلة بكّار، فاميليا للإنتاج
(14) أمنيزيا مسرحية للفاضل الجعايبي وجليلة بكّار، فاميليا للإنتاج
(15) الأولمب، جبل الأولمب ،
(16) بريشتية: نسبة لبريشت، برتولد بريشت أو بريخت، (1956 / 1898)، رجل مسرح ألماني، تأليفا وإخراجا ونقدا وتنظيرا وشاعر واجه النازية في الثلاثينات والأربعينات ، فرّ إلى فنلادة ولمّا غزتها القوات النازية لجأ إلى أمريكا حيث حوكم واعتبر غير مرغوب فيه. عاد إلى موطنه، بعد نهاية الحرب، وعاش بألمانيا الشرقية حيث واصل نضاله الفكري والثقافي .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.