- كل الذين تحدثوا تعاطفا أورثاءً عن مقتل شكري بالعيد، لم ينفكوا عن إلقاء الخطب الشاعرية والشعاراتية، واتهام قادة حركة النهضة بالتلميح أو بالتصريح بكونهم وراء جريمة الاغتيال. ولم أسمع أحدا وضع الجريمة في إطارها الحقيقي، وهم يعلمون جيّدا إطارها الحقيقي، ويعرفون ولو بالاحتمال من خطط لها...لإدخال البلاد في حالة من الفوضى والخوف وعدم الأمن، وليكون ذلك مبرّرا لوضع اليد على البلاد، وإلغاء العملية السياسية، وحل المجلس الوطني التأسيسي، والعودة الى العمل بدستور 1959 مع تنقيحات طفيفة، والوعد بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، بعد أن يتم حل الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية، سواء بدعوى عدم التزامها بمدنية الدولة، أو بدعوى تعاطيها للعنف ومخالفتها لقانون الأحزاب، سيناريوتعمل عليه جهات مخابراتية أجنبية وعملاء تنفيذيون ومأجورون في الميدان... فليس من أدبيات الحركة الإسلامية في تونس اغتيال معارضيها أو جلاديها قصد التصفية السياسية أوالإنتقام... وليس كذلك من قدرات اليسارأواليمين فعل ذلك... بل ليس ذلك مما تستسيغه طبيعة الشعب التونسي... الاغتيال حرفة تتعاطاها بامتيازالمخابرات الأجنبية لتحقيق أهداف آنية، وهذه المرة اغتيال المناضل اليساري كان مدروسا بعناية فائقة، فالمقصود ليس شكري بالعيد لشخصه، وإنما الهدف هوإنجاز السيناريوالذي تحدثنا عنه.وقد أفلتت منهم فرصة الإضراب العام الذي لم يتم يوم 13 ديسمبر 2012، فلا بد لهم من صنع فرص أخرى كلما أخطؤوا هدفهم الحقيقي... لقد اهتزأفراد الشعب التونسي لعملية الاغتيال، وشعرالجميع بالخوف، ونسي كلّ انتماءه السياسي من اليمين إلى اليسار، وخرجوا تلقائيا ينددون بالعملية ويستصرخون لإنقاذ البلاد والعباد من عواصف العنف والعنف المضاد، وشهدت تونس مهرجانات عديدة للعزاء والرثاء... ولم تسقط الدولة، ولم تعم الفوضى، وفي ذلك دليل على نجاعة وتطورالأداء الأمني للسلطة، والوعي الشعبي بحساسية المرحلة التي تعيشها البلاد، الأمرالذي حال دون الدخول في المراحل الأولى لسيناريوالانقلاب الذي تعمل عليه جهات عديدة في الداخل والخارج... غداة عملية الاغتيال كان المشهد السياسي في البلاد قد بدأت ملامحه تتضح، وتتراءى فيه موازين القوى الانتخابية مستقبلا، والألوان الحزبية قد بدأت في التجاذب لتكوّن كل حزمة منها طيفا له خصوصياته ومرجعياته وتوافقه، وتأكد ذلك بعد العملية، حين رأينا كيف استغل كل طرف سياسي الظرف، سواء لتقوية موقفه من مجمل القضايا الخلافية، بدءًا بالدستورفي مضمونه وآجال إعداده، إلى التحويرالوزاري الذي طال انتظاره، مرورا بقضايا الاقتصاد والتنمية، أولإنعاش شعبيته، ومحوآثار الفشل الذي لحقه في أول انتخابات حرة بعد الثورة، كما يفعل ذلك اليسار بكل فصائله في صفوف الشباب والمعطلين والمهمشين... ولذلك نستطيع القول اليوم، إن الساحة السياسية قد تبلورت في شكل قطبية ثلاثية، لكل قطب جاذبيته الإيديولوجية والعقائدية ومشروعه الاجتماعي، وهي على التوالي حسب الإشعاع والاتساع، حركة النهضة، ونداء تونس، والجبهة الشعبية، ولا أحد من هؤلاء له القدرة على حسم المعركة السياسية والانتخابية بالأغلبية المطلقة لصالحه... أما حركة النهضة، فإن قادتها لم يحسموا أمرهم بعد، إلى من سيولون وجهتهم هذه المرة بالتحالف ليضمنوا الغلبة في الانتخابات القادمة، خاصة بعد فشل تجربة تحالفهم مع العلمانيين ودعاة الحداثة، الأمرالذي كبّدهم خسائر جسيمة حين تنازلوا وضحّوا بشيء من ثوابتهم، واهترأت شعبيتهم، لما أرادوا إرضاء شركائهم في الحكم وغرمائهم في العقيدة والمذهب على حساب طموحات أنصارهم وأتباعهم، وتبقى مسألة تحالفهم مستقبلا مع باقي أحزاب الإسلام السياسي والتيارالسلفي وبقايا الاتجاه الإسلامي، مستبعدة في ظل الخشية من اتهامهم بالعمل على إرساء دولة دينية، والتبشيربنمط مجتمعي يعادي الحداثة، وتحالف الإسلاميين وتوحدهم سيشغل الماكينة الإعلامية في الداخل والخارج لتخويف الناس من المشروع الإسلامي، وتحريض الغرب للحفاظ على مصالحه والحيلولة دون تنامي هذا المد ووصوله إلى الحكم بالأغلبية المطلقة، والخوف من هذه الاتهامات سيشتت أصوات الإسلاميين ويضعف إمكانية توحّدهم.. وأما قادة نداء تونس فقد استطاعوا أن يُحيُوا من جديد رميم الدساترة البورقيبيين، ويضمّوا إليهم رجالات دولة سابقين تجمعيين ومستقلين، وكفاءات من الليبراليين، ورجال أعمال من النافذين، وأسّسوا برنامجهم على قناعات وأفكار بورقيبة ونظرته في مجمل القضايا المتعلقة بالدولة الحديثة، وتحريرالمرأة، وركب الحضارة، والتحالف مع الغرب في حلوه ومره... إلا أنهم تخلوا في خطابهم عن اللائكية، وزاوجوا مقابل ذلك بين الحداثة والإسلام، الإسلام ذات الخصوصية التونسية حسب اعتقادهم، فموقعوا أنفسهم كدعاة للحداثة والتجديد، مع الثبات على الهوية العربية والإسلامية، مناهضين بذلك وحسب رأيهم مشروع حركة النهضة القائم أساسا على السلطة الدينية، رغم تبني حركة النهضة قيم مدنية الدولة والتمازج بين الحداثة والإسلام... فاكتسحوا بهذا صفوف الساخطين على مشروع النهضة، وأقنعوا الكثير بالالتحاق بهم على خلفية أن النهضة تحمل في طياتها كل مقومات الفشل، وأن نداء تونس له كل مقومات النجاح للنهوض بالبلاد... ولا يزال قادة نداء تونس يعملون على إغراء الأحزاب ذات التوجه الليبرالي والديمقراطي بتشكيل تحالف ضخم تحت شعار "الاتحاد من أجل تونس" يتصدون به لمد الحركات الإسلامية التي يرونها متطرفة، ويتجهون به ككتلة متجانسة نحوالانتخابات... وأما الجبهة الشعبية، فقد جمعت شتات اليسارالشيوعي والاشتراكي، وحرص قادتها على تجاوزخلافاتهم الإيديولوجية واختلافهم المرجعي المشتت بين الماركسية والليلينية والنموذج الألباني والماوي، كمحاولة لإنعاش الحركة اليسارية بتطرفها واعتدالها، بعد الفشل الذي مُنيت به في صناديق الاقتراع، وهو فشل يعكس إفلاس الشيوعية العالمية التي لقيت حتفها بعد محاكمة عصابة الأربعة في الصين ثم انهيارالاتحاد السوفياتي ورحيل أنورخوجة وسقوط جدار برلين، ولم يعد للشيوعية في سوق السياسة العالمية إلا بضاعة مزجاة لا تسمن ولا تغني من جوع، مما حدا بحاملي الفكرالشيوعي في تونس إلى التخلي عن نظرية دكتاتورية البروليتاريا، وتبني العمل الديمقراطي شعارا، مع الحفاظ على إلحادية العقيدة واشتراكية النمط المجتمعي الذي يبشرون به... ومع شدة الاختلاف الذي يفرّق جماعات اليسارفي ما بينهم، إلا أنهم وحّدتهم عداوتهم الإيديولوجية والعقائدية ضد المد الإسلامي عموما وحركة النهضة خصوصا، لينجزوا من تحالفهم برنامجا سياسيا يتسم بالاشتراكية والمعاداة الحادة لمشروعي النهضة ونداء تونس، باعتبارهما على منوال أطروحتهم إفرازة غريبة للرأسمالية العالمية الجديدة... هكذا أرى الساحة السياسية في تونس، وأرى بقية الأحزاب والتيارات السياسة تسبح في فلك الاستقطاب الثلاثي، بين النهضة ونداء تونس والجبهة الشعبية... ولكن المعركة ليست بريئة بين الأطراف الثلاثة، فقد اتسمت أجواء هذا التجاذب السياسي بالتوتروالاحتقان والتصادم، نتيجة إرادة الإقصاء عند هذا وذاك، وسيادة لغة التخوين والتكفير والسب والشتم والقذف وهتك الأعراض والتلويح بالتصفية، والتقاضي واللجوء إلى المحاكم لإدانة الخصوم بالفساد أو بالعنف أو بتهديد السلم الاجتماعي. وقد استنزف هذا الصراع الوقت والطاقات والأموال... فأصبحت البلاد عل حافة الإفلاس، حين ساد الخوف بين رجال الأعمال والمستثمرين، وانكمش الاقتصاد، وتقاعس العامل قبل العاطل عن أداء ما عليه من واجبات، فتهاوت قيمة العمل أمام النهب والتخريب والكسب السريع ألا مشروع، ورأينا الاضطراب في الإنتاج والغلاء في المعيشة، وتفاقمت مديونية الدولة... والكل ينظرإلى مشاكل البلاد بعين المستثمرالسياسي الذي يتردد في مد يد الإنقاذ لوطنه إلا بالقدر الذي يخدم به حزبه وجماعته... تونس اليوم في حاجة إلى أن يحدث وفاق بين أبنائها، وإلى مال كثير يوفره رجالها لتنهض وتتعافى من الضربات الموجعة التي تتلقاها يوميا في دورة إنتاجها وفي اقتصادها. تونس في حاجة إلى كل رجال الأعمال، لنصالحهم ونيسّرلهم سبل بناء المصانع والمعامل، ونوفرلهم بيئة ضريبية تشجعهم على إحداث مواطن الشغل واستثمارالأموال في الجهات الداخلية المحرومة والمهمشة منذ عقود... تونس اليوم في حاجة إلى مصالحة شاملة بين السياسيين والسياسيين، ليتخلوا عن الإقصاء والتطاحن والاحتقان والتحريض والتصادم، حتى يعم الأمن ويتفرغ كل لعمله، وإلى مصالحة بين السياسيين ورجال الأعمال، بالتخلي عن لغة الأزلام والإقصاء لمجرد الشبهة بالعمل تحت غطاء النظام السابق... تونس اليوم في حاجة إلى رجال مفعمين بالمسؤولية الوطنية، يقدّرون المرحلة ومقتضياتها حق قدرها، فيقفون وقفة شجاعة، ويقولون لخصومهم وإلى رجال المال والأعمال، اذهبوا فأنتم الطلقاء، سيحوا في أرض تونس، واعملوا فيها خيرا، اعملوا واستثمروا ولكم الأمان، ازرعوا واحصدوا، فخراج ذلك كله عائد إلى تونس وإلى أبنائها... لأن هذه الأقطاب السياسية ومن دارفي فلكها، لن يكون منها غالب ولا مغلوب، صارت المصالحة الوطنية الشاملة ضرورة ثورية لإنقاذ البلاد، فالذي يروم الانتقام والتشفّي لن يجد أبدا فسحة من الوقت للبناء والإعمار، ولن يجد فرصة لبعث الأمل في نفوس الحيارى والمظلومين، ولن يقدرأبدا على إسكات بطون خاوية، ومسح دموع عيون باكية... تونس اليوم وقد خارت قواها تسأل أبناءها: أليس منكم رجل رشيد؟ *ناشط سياسي مستقل