يبدو ان المشهد السياسي في تونس ينزلق نحو مزيد من التعقيد غير المتوقع بعد استقالة رئيس الحكومة السيد حمادي الجبالي؛ والغريب ان هذه الاستقالة قوبلت بدم بارد من كل الأطياف السياسية بما فيها "الترويكا" وهو ما يطرح أكثر من سؤال. الشارع كان ينتظر شيئا ما حتى يريح أعصابه من هواجس المجهول بعد اكثر من خمسة او ستة اشهرمن تحوير وزاري لم يتم، وفي ظل اوضاع تتدهور يوما بعد يوم بالرغم من إصرار بعض الأطراف على تعداد الإنجازات. لكن في الواقع فإن هذا الأسبوع وحده شهد حدثين على غاية كبيرة من الخطورة. أولها تخفيض الترقيم السيادي لتونس من ""ب/ب" إلى" ب/ب سلبي" وثانيها هو تصريح المجموعة الأوروبية بان مديونية تونس أصبحت مقلقة وهي مطالبة بتحويل هذه الديون إلى استثمارات. وان بدا للبعض أن دعوة تحويل الديون الأوروبية إلى استثمارات إيجابية لكنها بلغة المال هي دعوة صريحة للامتناع عن إقراض الدولة التونسية في المستقبل لأنها تجاوزت السقف المسموح به للتداين وعليه فلن تكون قادرة على سداد ديونها. ومع ذلك تصرالنخبة السياسية على إهدارالوقت وتتفنّن في تشويه صورة الثورة ومستقبل البلاد. مسؤولية حركة النهضة ربما لا تدرك حركة النهضة الآن انها سواء حكمت او لم تحكم فإن الفترة الماضية قد وضعت في رصيدها وان الداخل والخارج لا يرى في وضع البلد إلا ترجمة لهيمنتها على المشهد السياسي سواء صح هذا بالنسبة إليها او لم يصح. وعليه، فرفضها لمقترح رئيس الحكومة، وهوامينها العام، لا يرى فيه الكثيرون غيرالإصرار على السلطة والتشبث بالمواقع التي دخلتها وترفض ان تخرج منها. هذا الرأي العام لن تغيره تصريحاتها التي تنفي ذلك بحجة ان الحكومة غيرالمسندة سياسيا لا يمكن ان تنجح. وبدورنا نسأل حركة النهضة وفي ماذا يجب ان تنجح هذه الحكومة إذا كانت الانتخابات على الأبواب؟ وهل كان مطلوبا منها بعد 23 أكتوبران تنجح أصلا على اعتباران المجلس التأسيسي انتخب لأجل صياغة دستورلا اكثر؟. ثم ما كانت فائدة الحكومة السياسية في الفترة الماضية إذا كنا الآن على ما نحن عليه وما لازمتها الآن؟ ثم ما يمكن ان ننتظره من حكومة مسيّسة في الوقت الذي فشلت فيه الحكومة المسيسة؟ حمادي الجبالي... فرصة النهضة الأخيرة ربما يكون السيد حمادي الجبالي احد عناصر فشل الحكومة في الفترة الماضية بحكم انه رئيسها وبسبب عجزه عن إجراء تحوير وزاري تحول إلى مؤشر فشل تجاوزالأداء الحكومي ليصبح مأزقا سياسيا عاما. ربما كان اغتيال شكري بلعيد سببا كافيا دفعه لينتفض على قواعد السمع والطاعة التي تحكم الداخل النهضوي ويتصرف بما يمليه عليه المنصب الحكومي لا بما يلزمه به موقعه في حركة النهضة. الغريب ان موقعه في الامانة العامة وهو اعلى هرم السلطة داخل الحزب، بحكم ان منصب الرئاسة استحدث للحفاظ على راشد الغنوشي في الهيكلة، لم يشفع له عند إخوانه حيث خرجت المواقف المعارضة والمتهمة في بعض الأحيان للعلن المباح وعلى غيرالعادة. لذلك، وضعت النهضة نقسها برغبتها او من دونها في وضع لا تحسد عليه وهي الآن أمام امتحان سياسي وتاريخي صعب؛ فإما ان تحافظ على حمادي الجبالي وتستعيد بعض ما خسرته من مصداقيتها عند عموم الشعب اوان تنفض يدها عنه وتستبدله بمرشح جديد يؤكد للناس ان ما يشغلها فعلا هي المناصب والوزارات وهدفها الوحيد هوالاحتفاظ بالحكم في لعبة ربح وقت أصبحت مكشوفة. عليها أن تتأكد كذلك ان المعارضة الشرسة التي تعرضت لها في السابق سوف تشتد وتتطرف ولن يكون هذا إلا على حساب المصالح الحيوية للبلاد. واعتقد أنها لن تجد ما تحكم في نهاية الأمرإذ هي ستضيف خرابا إلى الخراب. لذلك لا يمكن لها، إن ارادت استعادة ما خسرته من ثقة الشارع، ان تستغني عن حمادي الجبالي في الفترة القادمة وبشروطه التي كررها بعد الاستقالة، فهي حتما ستستفيد من الانطباع الذي أحدثه الجبالي عند العدو والصديق بوجود قيادات نهضوية قادرة على تجاوزانتمائها الحزبي لمصلحة البلاد. وفي نهاية الأمر، حكومة التكنوقراط ليست تهديدا لا للبلاد ولا للنهضة إذا ما وضعت ضمن سياق معين وزمن محدود. هذه الحكومة المفترضة سوف تسهرعلى تامين السيرالعادي للإدارة والمصالح العامة في الوقت الذي يلتزم فيه المجلس التأسيسي بكتابة الدستوروفي مهلة زمنية محددة بالاستعانة بكل خبراء القانون الدستوري وبصفة دائمة حتى يريح أعصابنا وتهدأ البلاد من كل التجاذبات. وإذا نجحنا في تحقيق الهدوء لفترة محدودة حتى تاريخ إجراء الانتخابات فإن تدارك ما فات يصبح أمرا سهلا ونستعيد قدرتنا على الحركة الفاعلة ونساهم في تحويل"الوحلة" الوطنية الحالية إلى وحدة وطنية تصلح ان تكون قاعدة لمشروع بناء دولة ما بعد الثورة على قاعدة ما تفرزه الانتخابات القادمة. ربما تكون حسابات النهضة عن حسن ظن وبدون خلفيات وهذا ما يدفعها لمراجعة مواقفها من دون عقد، وربما تكون كذلك مبنية على الريبة والخشية من ان تكون موضع مؤامرة هدفها إقصاؤها من الحكم وإرجاعها إلى العمل السري قسرا وبالقوة كما حدث مع نجم الدين أربكان في 1997 بعدما تولى رئاسة الحكومة التركية لسنة واحدة، لكن في كل الحالات الاحتماء بالشعب أفضل من الاحتماء بالقواعد. وإن وجدت تجربة قاسية في تركيا فتوجد كذلك تجربة مضيئة في فينيزويلا حيث لم ينصب إلى الآن الرئيس شافيزالمنتخب لولاية ثالثة (منذ 14 سنة) برغم مرورالمهلة الدستورية وبرغم حالته الصحية الخطرة وغيابه أصلا عن البلاد. هذا هوالشعب إن أحب أراد.