من الركائز الأساسية للديمقراطية، قطعا، حرية الصحافة والتنظم والاجتماع واحترام الحقوق الأساسية للمواطن. ومنذ أن قامت الثورة والنقاشات تتركز حول هذه المحاور مهملة ركيزتين أساسيتين أخريين لأي نظام ديمقراطي ودونهما تغدو كل الحقوق المذكورة آنفا لا معنى لها. فالديمقراطية هي أيضا سيادة القانون وعلويته على الجميع وثانيا أخذ تطلعات الرأي العام واتجاهاته بعين الاعتبار وتوخي التمشي اليومي والاستراتيجيات المستقبلية للدولة اعتمادا على هذه التطلعات والاتجاهات، وهذا ما لا نراه حاليا إطلاقا. إن ما حدث ويحدث حاليا في المجال الأول، سواء على يد السلطة أو المعارضة يكاد يلامس اللعب الصبياني والعبث الطفولي فالأولى تسامحت ودون أي مبرر وفي تهاون واضح بمصالح مواطنيها الذين أوكلوا إليها أمانة الحكم في البلاد، مع عديد مظاهر الانفلات والتعدي على قوانين البلاد من قبل أنصارها والمحسوبين عليها وحتى القريبين منها، فالدعوات للقتل والتكفير وانتهاك قوانين البلاد والتمرد على السلطة العامة بقيت دون أي مؤاخذة دون أن نتحدث عن مظاهر استغلال النفوذ وقد مثّل ذلك بقعة زيت اتسعت من يوم لآخر لنصل إلى الإرهاب والقتل الفعليين. أما الثانية فكل الدلائل تشير إلى أن هاجس المصلحة العامة احتل مكانا ثانويا جدا في خطابها وتمشيها واستراتيجيتها فتم تبرير عديد الاعتداءات الخطيرة على هيبة الدولة وأعوانها ومقراتها و»شرعنة» تعطيل وحدات الانتاج بل والاعتداء على أدوات العمل المقدسة نظريا وقد تكون عمليات التعطيل المتواترة للعمل لشركتي فسفاط قفصة والمجمع الكيمياوي وتخريب أدوات عملها أحسن بل أسوأ مثال في هذا الميدان مما شل أكثر جدوى وفاعلية الأجهزة التنفيذية للدولة وحيّد آلتها القهرية، المنبثقة عن الشعب والمسخرة لحماية مصالحه في دولة ديمقراطية حقا. والنتيجة لهذا وذاك هي ما نعيشه حاليا من إحساس باللاأمن الناتج أحيانا عن لاأمن حقيقي فعلي في بعض المجالات والمناطق وسيادة قانون الغاب، مما أثر على العجلة الاقتصادية مؤذنا بشلل حقيقي في مستقبل قريب فالأمر عبارة عن كرة ثلج تتعاظم وتكبر بتدحرجها دون حاجز. فوقود الثورة الرئيسي كان الفقر والتهميش للطبقات والجهات المحرومة، إلا أننا مقبلون لا محالة على تزايدهما وتوسع رقعتهما بنسق كبير، فارتفاع الأسعار الجنوني وأيضا الأجور لمن لهم عمل، يزيد في تفقير من لا عمل لهم كما أن «اللاأمن» الذي يعاني منه الريف أكثر من المدينة من نتيجته ارتفاع سرقات المواشي والأبقار التي هي أحيانا رأس المال وعنوان الدخل الوحيد لعشرات الآلاف من العائلات وضمانتها الوحيدة ضدّ الجوع والتشرّد فالنزوح مما يهدد قطاع تربية الماشية بالتلاشي. فالأمر تحول إلى ما يشبه ظاهرة عامة في البلاد قادت البعض إلى الانتحار أو الجنون ولا أحد اهتم بها وبانعكاساتها عن تغيير ملامح الريف تغييرا جذريا. أما النتيجة الإيجابية الوحيدة لمثل هذا الواقع فهو أن هناك نوعا من القرف والرفض يتوسع من يوم لآخر مما يكاد يشبه «السيرك» السياسي المعتمد على الاستعراضات البهلوانية القائمة على المزايدات والمبالغات وحتى الافتراءات بعيدا عن أي عقلنة أو برهنة والذي أدلت فيه النقابات المهنية هي أيضا بدلوها. ويمكن تلخيص ذلك في جملة واحدة: «خذوا السياسة واتركوا الأمن والاقتصاد في معزل عن حساباتكم السياسوية والشعبوية والإيديولوجية». إن عديد المؤشرات تشير إلى أن اتجاهات الرأي العام لما يمكن أن نعتبره «الأغلبية الصامتة» تسير في هذه الوجهة حاليا وعسى أن تصل الرسالة إلى من يهمه الأمر.