كعاداتها منذ نحو ثلاثة عقود حافظت واشنطن على موعد اصدار تقريرها السنوي حول اوضاع الحريات وحقوق الانسان في العالم الذي صدر في الحادي عشر من شهر مارس الجاري بشان 196 دولة وذلك بعد ان تم عرض التقرير في وقت سابق على لجنة العلاقات الخارجية المكلفة بالنظر في المساعدات التي تخصصها واشنطن للدول المستحقة والتي غالبا ما تتحول الى موضوع للمساومة والمقايضة مع الدول التي لا تنظر الخارجية الامريكية اليها بعين الرضا سواء تعلق الامر بسجلها في مجال الديموقراطية والحرية وحقوق الانسان او كذلك بتوجهاتها وخياراتها في علاقاتها مع دول او تنظيمات تطلق عليها واشنطن صفة المارقة وتسعى للضغط عليها وتطويقها وعزلها بكل الطرق الاقتصادية والسياسية الممكنة. ولعله من المهم قبل استعراض بعض ما جاء في التقرير الوقوف على بعض الملاحظات الاساسية واولها استعدادات العالم لاحياء الذكرى الستين هذا العام للاعلان العالمي لحقوق الانسان ودخول الميثاق العربي بالامس حيز التنفيذ كما جاء في مقال موسع للاستاذ توفيق بوعشبة في جريدة "الصباح" في عددها امس بالاضافة الى انشاء المؤسسة العربية الدولية للديموقراطية وهي احداث من شانها ان تؤكد على شمولية مسالة حقوق الانسان وعدم خضوعها لنموذج او مشروع تتولى القوى الكبرى تشكيله واسقاطه على الاخرين وهو ما يعني ايضا ان يكون للمرصد العربي لحقوق الانسان دور اساسي في هذا المجال يتجاوز مستوى النصوص والاتفاقيات الى ما يمكن ان يجعل هذا المجال امرا لا يخضع للتقييم الخارجي ولاينتظر مراجعة او دعما من خارج الحدود. ماذا في تقرير 2007؟ لقد كان تقرير واشنطن للحرية والديموقراطية في العالم وقبل بضع سنوات وربما قبل اعلان الحرب على الارهاب تحديدا في اعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر يحظى باهتمام شريحة واسعة من المثقفين والسياسيين والاعلاميين وغيرهم ممن كانوا يجدون فيه متنفسا لمجال لا يزال ضمن المحظورات في كثير من دول العالم الثالث ويرون فيه دعما لجهود النشطاء السياسيين ولحركات المجتمع المدني التي غالبا ما تتعرض للتهميش والتجاهل ان لم يكن للغبن والاقصاء من جانب الانظمة القائمة قبل ان يفقد الكثير من اهميته وبريقه دون ان يحمل في طياته باي حال من الاحوال ادنى احراج للدول المعنية او ان يتحول الى مصدر ضغط للاصلاحات المطلوبة. واذا كان مثل هذا التقرير ظل حتى وقت يحظى بكثير من المتابعة قبل ان تبلغ ثورة الاتصالات ما بلغته اليوم من امكانيات في التواصل بين مختلف انحاء العالم فانه اليوم لم يعد يثير ذلك الفضول الذي كان يثيره بين الطلبة او الباحثين او غيرهم من النخبة ممن كانوا يسعون للاطلاع عليه خلسة او علانية ذلك ان اغلب المعلومات الواردة فيه تكاد تكون معلومة ولا تقدم اضافة تذكر. والحقيقة ان تصريحات المسؤولين الامريكيين التي ظلت تصاحب صدور هذا التقرير تحولت في احيان كثيرة الى موضوع للسخرية امام افتقار التقرير للموضوعية والمصداقية في جوانب عديدة منه حيث تحولت مهمة واضعو التقرير الى تصنيف دول العالم الى مؤيد او معارض للولايات المتحدة وفق نظرة الرئيس بوش من ليس معنا فهو ضدنا وهو ما جعل التقرير يفقد الكثير من الميزات التي اختص بها في السابق. .. حقوق الانسان وسياسة المعايير المزدوجة وفي مجمله فقد اشار التقرير الى تراجع الحريات وحقوق الانسان في العالم سنة 2007 وقد قسم الى عدة اقسام تبدا بتوطئة يليها تقييم للدول 196 بدءا بقائمة الدول الافريقية فالشرق الاوسط والباسيفيك فاوروبا فالشرق الاوسط وشمال افريقيا فجنوب ووسط اسيا فامريكا اللاتينية مع استثناء محدود ولكنه مهم جدا فقد تجاهل التقريرحقوق الانسان في البلد الذي اصدرالتقرير فكانت اول اشارة في ذلك بانه فوق كل حساب او تقييم... واذا كان التقرير قد اشار الى حرمان الحكومة الصينية مواطنيها من ابسط حقوق الانسان والحريات الضرورية فان ذلك لم يمنع واشنطن من اسقاط الصين من قائمة الانظمة الاكثر قمعية في العالم. و قد حدد التقرير الحالي عشر دول ضمن الاكثر انتهاكا لحقوق الانسان حيث اضاف كل من سوريا والسودان واوزباكستان الى القائمة السابقة لتنضم الى كوريا الشمالية وميانمار وايران وكوباوبيلاروسيا وايريتريا وزمبابوي وهي قائمة الدول التي تقف لاسباب مختلفة على قائمة المواجهة مع الادارة الامريكية منذ سنوات بل ومنذ مرحلة الحرب الباردة فيما اضيف البعض الاخر الى القائمة بسبب ازمات سياسية عالقة. وكان اول تقرير اصدرته الخارجية الامريكية في 1977 يشمل 83 دولة قبل ان يمتد الاهتمام الى بقية دول العالم. اما عن المعلومات الواردة في التقرير عن كل بلد من البلدان الواردة فيه فهي معلومات وان لم يكن بالامكان تجاهلها والاستهانة بها فان الكثير منها لم يقدم جديدا يذكر وهي معلومات سوف تجد في كل الحالات من يؤكد صحتها ومن ينفي عنها ادنى علاقة بالواقع على ان الاكيد وان كان في بعض جوانب التقرير ما يمكن ان يساعد على القاء الاضواء على حقوق الانسان المنسية في اكثر من موقع في العالم فان فيه ايضا من الدروس والاستنتاجات الكثير واولها واهمها ان الرهان على الخارج من اجل مسيرة الاصلاح رهان لا يمكن التعويل عليه فقد ثبت فشله الذريع في العراق على مدى خمس سنوات من الاجتياح واكد ايضا انه لا مجال للاصلاح والتغيير بدون ارادة الشعوب نفسها بمختلف مكوناتها دون استثناء فاهل مكة ادرى بشعابها واقدر على فهم متطلبات واحتياجات مجتمعاتها وانتماءاتها وخصوصياتها وهي ايضا الاجدر بتحمل مسؤولياتها في مواجهة وتقرير مصيرها وفقا للمثل السائد ما حك جلدك غير ضفرك. .. لقد اشار التقرير الى ان مصادره تظل متعددة وتعتمد ما تقدمه مجموعات متعددة صلب مختلف سفاراتها في العالم على مدى سنة باكملها الى جانب تقارير امريكية واخرى تشرف عليها منظمات الدفاع عن حقوق الانسان وممثلو مكاتب الاممالمتحدة ومسؤولو الحكومات الاجنبية ومنظمات دولية واستخباراتية واقليمية وتقارير خبراء واكاديميين واعلاميين وحقوقيين قبل ان يتم جمعها في واشنطن. .. والحقيقة ان اثارة بعض نقاط الاستفهام او الشكوك حول التقرير لا يعني باي حال من الاحوال تجاهل التراجع الحاصل في مجال حقوق الانسان في العالم كما في العالم العربي ولايعني باي حال من الاحوال تاييد ما يمكن ان يحدث من انتهاكات او تجاوزات للحريات والديموقراطيات والاصلاحات المطلوبة فيها... وبعيدا عن العودة الى تفاصيل التقرير وهي تفاصيل مكشوفة ومتوفرة على الانترنت فان تقرير واشنطن عن الحريات في العالم لا يمكن ان يكون مراة تعكس حقيقة وضع حقوق الانسان في العالم وذلك ليس لافتقاره للموضوعية والمصداقية والتوازن واعتماده سياسة المكيالين وازدواجية المعايير في تحديد مفهوم حقوق الانسان وفي التعامل معها في اكثر من موقع وذلك ليس ازاء ما يحدث في فلسطين والعراق ولبنان وافغانستان فحسب ولكن ايضا بسبب الدور الامريكي في تراجع وفي تردي حقوق الانسان في العالم ولاشك ان فيما سجله العراق ويسجله من انتهاكات وخروقات منذ الاجتياح اللامشروع الى فضيحة غوانتانامو وابوغريب مرورا بعمليات القصف الخاطى واستهداف المدنيين من نساء وشيوخ واطفال الى الولاء اللامحدود لاسرائيل وتمويلها بمختلف انواع الاسلحة المحظورة التي تلجا لاستعمالها ضد المدنيين في لبنان والاراضي الفلسطينيةالمحتلة فضلا عن مشاهد الموت المتواترة من افغانستان واخبار السجون الجوية بكل ما تعنيه من تجاوز لحقوق الانسان واتفاقيات جنيف وغيرها ايضا من شانها ان تضع واشنطن في موقع المتهم بخرق حقوق الانسان وليس في وضع المدافع عنها ناهيك عن تولي رايتها في العالم. .. ولاشك ان واشنطن التي ارادت لنفسها اختيار ان تكون شرطي العالم ان تعيد حساباتها وتراجع اولوياتها قبل أي تقييم لوضع حقوق الانسان في العالم فواشنطن التي جعلت من مسالة الاصلاح الديموقراطي اولوية مطلقة لها وفق مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي اعلنته توشك ان تتحول الى اكبر معرقل للديموقراطية والحرية في علم بات يجد في سياسات واشنطن نفسها ما يشجعه ويدعوه الى عدم الاكتراث بتلك الاصوات المنتقدة لتراجع حقوق الانسان في أي مكان في العالم... ان صدور التقرير السنوي للخارجية الامريكية حول حقوق الانسان في العالم لم ينج هذه المرة من ردود فعل ومن انتقادات كثيرة من جانب اكثرمن دولة معنية بالتقريراختارت تجاوز خط الصمت والحظر والتجاهل الذي كانت تعتمده في السابق في تعاملها مع التقرير الى خط الهجوم بعد ادركت ان مثل هذا التقرير لم يعد يمثل مصدر احراج بالنسبة لها في الداخل كما في الخارج فردت على واشنطن بنفس السلاح الذي تسعى لاعتماده لادانة دول العالم الثالث فيما يتعلق بسجلها الخاص بحقوق الانسان فكان بذلك مراوحا بين الحقيقة والمبالغة والتهويل حينا وبين اثارة السخرية والاستهزاء احيانا اخرى. .. واذا كانت مصر وسوريا وايران وفنزويلا او كوبا وغيرها ايضا اختارت التنديد والسخرية من تقرير واشنطن فان روسيا بدورها لم تر ما يمنعها من توجيه انتقاداتها اللاذعة للادارة الامريكية حول سجلها في مجال حقوق الانسان فيما اختارت الصين وللسنة الثانية على التوالي اصدار تقريرها الخاص بحقوق الانسان في امريكا معتمدة في ذلك على تقارير امريكية بشان تنامي عدد ضحايا الفقر والجريمة والاعتداءات الجنسية والعنف والعنصرية في بلاد العم سام فضلا عن سياسة المكيالين التي تعتمدها في تعاملها مع قضايا حقوق الانسان ومختلف الحروب التي تتولى خوضها من بغداد الى كابول. ..