" هذا الشباب الذي يبيع السجائر وهذا ما تفعله البطالة "...كانت تلك صرخة أخيرة أطلقها شاب تونسي اخر يائس قبل أن يضرم النار في جسده صباح الامس على مرأى و مسمع من المارة ويتحول الى حديث العامة والخاصة فتتسابق في لحظات مختلف وسائل الاعلام في العالم في نقل أخبار بوعزيزي الجديد الذي يحرق نفسه بسبب الفقر والبطالة بعد سنتين على الثورة التي أسقطت الظلم والفساد والاستبداد في البلاد... مشهد مؤلم ومحبط كيفما قلبته , فقد كنا نتوقع ألا يقدم تونسي بعد 14 جانفي على الانتحار بسبب اليأس والفقر , تماما كما نتمنى أن يغيب مصطلح "الحرقان " من قاموس شبابنا سواء تعلق الامر "بالحرقان "في أعماق البحر هربا من الفقر والبؤس والبطالة الى الضفة الأخرى من المتوسط حيث يعتقد الكثيرون أن الجنة تنتظرهم, أو كذلك "الحرقان " في مفهومه الاخرعبر فتاوى بعض الدعاة المتسللين من حيث لا أحد يدري الى بلادنا لاستدراج الشباب من الذكور والاناث الى الجهاد في سوريا وتقديم المتعة للمقاتلين هناك, أو كذلك "الحرقان "عبر اضرام النار في الجسد لا بدافع الاغتراب واليأس من الحياة فحسب ولكن أيضا بدافع الحسرة والرغبة في الانتقام من كل الأطراف التي تتحمل المسؤولية بشكل مباشر أوغيرمباشر في تكرار هذه الماسي سواء تعلق الامر بالعائلة الضيقة والمجتمع الذي يعيش حالة لم تعد خفية من التطاحن والانهيار أو كذلك أصحاب القرار في السلطة الجديدة ممن صرفتهم سياسة التدافع على الغنيمة والصراعات على المناصب على استقراء المخاطر الاجتماعية و الأخلاقية والأمنية و الاقتصادية القائمة . قد لا تكون الصدفة وحدها شاءت أن يقدم الشاب الذي أضرم النار في جسده بالأمس بالتزامن في نفس اليوم الذي كان أعضاء المجلس الوطني التأسيسي يستعدون للتصويت على منح الثقة للحكومة الجديدة برئاسة وزير الداخلية السابق السيد علي العريض, وقد لا يكون اختيار الشاب للشارع الذي احتضن ثورة 14 جانفي لتنفيذ ما أقدم عليه خيارا اعتباطيا, بل الأرجح أن الشاب كان يريد لصرخته التي أطلقها أن تبلغ مسامع من يهمهم الامر وأن يذكر بذلك نواب الشعب أن خارج أروقة المجلس الفاخر شباب يموت ب بسبب الفقر و البطالة و تراجع الامال بعد أن ضاقت به الحياة و تلاشت شعارات الثورة التي رفع رايتها وغابت الاهداف التي حلم بها وانتظرها ... لقد أثارت مسألة نيل الحكومة ثقة أعضاء المجلس جدلا بين نواب المعارضة منذ اللحظات الأولى التي تلت الإعلان عن تركيبتها , والواقع أن لغة الأرقام كانت تفترض أن الامر محسوم لصالح الحكومة الجديدة منذ البداية, الا أن ما قد يمكن حسمه ببساطة مرتبط أولا وأخيرا باستعادة و كسب ثقة الرأي العام وهو أمر لن يتحقق بالوعود والكلمات التي لم يعد ينصت لها أحد ولكن بالافعال والإنجازات والمشاريع التي طال انتظارها بدءا بالبطالة والتنمية وصولا الى تحقيق العدالة المؤجلة وتحفيف الاحتقان الاجتماعي ووضع الدستور وتحديد موعد الانتخابات التي ستضمن مسار الانتقال الديموقراطي ... ان الرهان الأكبر اليوم مرتبط بالخروج من أزمة الثقة المتفاقمة بين التونسي و بين أصحاب القرار في السلطة القائمة بسبب الأداء الفاشل الذي هيمن على المشهد طوال الفترة الأخيرة ولكن أيضا وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها بسبب سلوكيات وتصريحات البعض من أعضاء المجلس التأسيسي و التي و الحق يقال يندى لها الجبين و هي تعد عار على ثورة الكرامة و الحرية التي منحتهم الفرصة للاستهانة بالشعب ...خلاصة القول أن الثقة لا تنشأ من الفراغ وعندما يطمئن المواطن الى نوايا وتصريحات ومواقف وسلوك قادته ويجد فيها ما يلهمه سينصرف عن حرق نفسه وحرق أحلامه الى استنزاف اخر نفس فيه لاحياء و بناء وإعمار الأرض التي ارتوت بدماء الشهداء منذ تحريرها من الاحتلال و حتى انقاذها من الظلم والاستبداد ...فهل يدرك أصحاب القرار في البلاد أبعاد صرخة شباب تونس الذي يحترق وهل يمكن- وهذا الأهم -أن يمنعوا تكرار المأساة ؟