تبدو نخبتنا السياسيّة الحاكمة في غفلة تامّة عن الخيط الرابط بين كارثة غرق المواطنين التونسيّين قبالة جزيرة لمبادوزا وكارثة الهجوم على السفارة الأمريكيّة. ولعلّنا لسنا أمام غفلة بل نحن أمام إصرار على عدم الاعتراف بأنّ كلاًّ من الكارثتين نوع من «الحرقان» وأنّ كُلاًّ من الكارثتين ناشئ عن سياسة تحرّض على «الحرقان»!
لم تستطع «أقوى حكومة عرفتها تونس» أن تجعل جانبًا من الشباب التونسيّ يفضّل الحياة على الموت ويفضّل البقاء على الهجرة وإن كان ثمنها الموت. ولو امتلكت هذه الحكومة الشجاعة الأدبيّة الكافية لاعترفت بأنّها لعبت دور المحرِّق في الحالتين.. إمّا عن خطإ في الحساب وإمّا عن حساب خاطئ! إنّ وراء كلّ حارقٍ مُحرِّقًا أو مُحرِقًا.. ومن معاني الإحراقِ الإهلاكُ.. وأَحْرَقَنا فلان بَرَّح بنا وآذانا. قال الشاعر: أَحْرَقَني الناسُ بتَكْلِيفِهمْ، ما لَقِيَ الناسُ من الناسِ؟ وسُمِّيَ الحرث بن عمرو ملِك الشام من آلِ جَفْنةَ بالمُحرِّق لأَنه أَوّل من حرَّق العرب في ديارهم. وقد ينتج عن هذا التحريق إحساس بالحرقة يجعل الموت والحياة سواء. لا نتيجة لهذه السياسة التيئيسيّة إلاّ تحويل اليأس إلى ثقافة عامّة تحلّق بجناحيها المألوفين: العنف الأعمى والهجرة العبثيّة نحو المجهول.
كان في وسع المجلس التأسيسيّ أن يتمخّض عن دستور في أقلّ من أشهر الحمل التسعة.. فالدستور كتبه الشعب من خلال شعاراته ولم يكن على المجلس التأسيسيّ إلاّ ترجمة تلك الشعارات إلى نصوص قانونيّة! لكنّ الأكثريّة الجالسة حوّلت الأمر إلى نوع من التحايُل على الشعب لتحويل وجهته إلى جهة غير معلومة تقع في كهفٍ ما بين الغزو والخلافة! وهذا هو سبب كلّ ما تفشّى في المواطنين من إحساس بأنّ ثورتهم تُسرق وتُغدَر.
لم يطلب الشعب من هذه الأكثريّة وحكومتها أيّ حلول سحريّة.. لكنّه طلب منها احترامه.. فإذا هي تتنكّر له وتستقوي عليه بما تسمّيه شرعيّتها وتستخفّ بعقله وتُعرّضه إلى نفس «الحقرة» التي جعلته يحرق أو يحترق.
الغريب أنّ بعض أنصار الحكومة يستكثر على الشعب حتى حقّه في استبطاء الفرح وفي الاحتجاج على كلّ تباطؤ في تحقيق أهداف ثورته، ملوّحًا في وجهه بعقوبة الإعدام إذا هو خرج عن الشرعيّة بعد 23 أكتوبر!
هؤلاء المواطنون الذين ثاروا من أجل كرامتهم وحريّتهم وحقوقهم هم الذين يحدّدون الشرعيّة. ومن حقّهم أن يحتجّوا على أيّ تلكّؤ في تحقيق أهداف ثورتهم ومن حقّهم أن يتظاهروا ضدّ أيّ تلاعبٍ بوقتهم ومصائرهم.
هؤلاء المواطنون جزء ممّن اندلعت الثورة على أيديهم وبسببهم ومن أجلهم.. هؤلاء هم الذين احترقوا كي يحكم من يحكمُ اليوم.. إنّهم الثوّار الحقيقيّون.. فلمن تبقى هذه البلاد إذا شُنِق بعضُ الثوّار وغرق البعضُ الآخر على قوارب الموت؟!
المُحَرِّق والمُحرِقُ هو من يؤذي الآخرين حتى يُلقوا بأنفُسِهم إلى الحرّاقات! قال ابن سيده: والحَرّاقاتُ سفُن فيها مَرامِي نِيران، وقيل: هي المَرامِي أنفُسها. هكذا إذنْ لم تأتِ عبارةُ الحرقان وحوافّها من عدم بل هي عبارة ذات جذور.. وهي تغطّي الهالك والُهلِك.. كما تغطّي الهلاك والإهلاك في الداخل والخارج. في هذه الدلالات ما يؤكّد على مسؤوليّة الاستبداد بالأمس وعلى مسؤوليّة ورثائه اليوم.. إذ لا شيء يدلّ على اختلاف الخلف عن السلف حتى الآن. والحصيلة: شباب يحرق الأخضر واليابس لأنّه مشحون بفتاوى حرق الآخر وقتله وتقطيعه من خلاف! وشباب يحرق على قوارب الموت دفاعًا عن حريّته أو يأسًا من أيّ تغيير!
الحُرْقُ الغضابَى من الناس، وحَرَقَ الرجلُ إذا ساء خُلقُه. والمُحَرّقةُ بلد. وعلى حُكّامنا الجُدد أن يعترفوا بأنّهم لا يقلّون عن النظام السابق إغضابًا للبعض وإفسادًا لأخلاق البعض ومسخًا لتونس من تونس الخضراء إلى تونس المحرِّقة. هذا الاعتراف يتطلّب قدرة على تحمُّل المسؤوليّة واستعدادًا لدفع ثمن الإخلال بها. وهما أمران يحتاجان إلى ذهنيّة مختلفة عن ذهنيّة الاستبداد، لا شيء يدلّ على أنّ هذه الحكومة تتمتّع بها حتى الآن.