لو أن الخبر لم يصدر خلال لقاء اعلامي موثق وعلى لسان مسؤول في حركة "حماس" في غزة ولو لم يقع تداوله عبر مختلف وكالات الانباء لخلنا ان الامر يتعلق بكذبة أفريل في أوج موسم الكذب أو أنه ناتج عن سوء فهم أو ترجمة أو قراءة خاطئة، ولكن الواقع أن ما حدث عكس ذلك... فقد اتضح أن قرار تأنيث المدارس في قطاع غزة والإقرار بفضل الذكور عن الاناث منذ سن التاسعة قرار نهائي من حكومة "حماس" وقد جاء هذا الإعلان على لسان وزير التربية في الحكومة المقالة في غزة أسامة المزيني بحضور أكاديميين وسياسيين وخبراء في القانون تحت عنوان "إقرار قانون التعليم الفلسطيني للعام2013 وإلغاء قانون المعارف رقم1 للعام1933 المطبق في غزة وإدخال المسار الشرعي وفرض العقوبات على مؤسسات التعليم الخاصة التي لا تلتزم بمنع الاختلاط بعد سن التاسعة في المدارس الخاصة"... وبررت حماس القرار بالحفاظ على الهوية الوطنية الإسلامية للشعب الفلسطيني وهو تبرير كان يمكن استساغته لو أنه ارتكز على منطق واضح وصادق ولو أن أصحابه استطاعوا ان يلغوا من الذاكرة تلك المشاهد التي توقف عندها العالم وهو يتابع محطات تاريخية من الملحمة الفلسطينية كانت فيها الفدائيات الفلسطينيات في الصفوف الامامية للمقاومة تستبسلن في الدفاع عن الأرض والكرامة والحرية، ومن بينهن الشهيدة دلال المغربي التي قادت عملية الانزال الشهيرة ضد الاحتلال وكذلك الشهيدتين سناء مجدلي وآيات الأخرس والأسيرة عبير محمود وغيرهن وهن كثيرات في قائمة المناضلات الفلسطينيات اللائي لا مجال للمفاضلة في ايمانهن بعدالة القضية وإصرارهن على خوض المعركة دون تمييز ودون عقد ودون تردد أو خوف. ولا شك أن في شهادات الكثيرات أيضا ممن قدمن الغالي والنفيس من أجل الحرية ما ترتعد له الفرائص، بل إن المناضلة ليلى خالد التي ضاقت بها الأرض لم تتردد في ان تجعل من السماء مسرحا لعملها النضالي، وكذلك ربيحة ذياب الاسيرة المحررة التي وضعت اثنين من أبنائها خلف قضبان السجون والمعتقلات الاسرائيلية... يومها لم تكن الفتاة الفلسطينية تتوقف عند الفصل بين الاناث والذكور في المدارس والجامعات... كان تفكيرها أعظم وأكثر نبلا من كل الأفكار التي جعلت منها مجرد جسد ضعيف في حاجة دائمة للحماية والرعاية. رفضت الوصاية المغشوشة ورفضت الاستنقاص من قدراتها وإمكاناتها على تحدي العدو فلم تتردد في إذلاله... انعتقت من الخوف والتردد فبلغ صدى نضالاتها كل أنحاء المعمورة ولايزال مجرد ذكر أسماء الكثيرات منهن يرعب الكيان الاسرائيلي... الغريب أنه يوم لم يكن للفلسطينيين سلطة رسمية، كانت المقاومة وحدها والعمل الفدائي سر وحدة الفلسطينيين، أما اليوم وقد بات لهم بدل السلطة سلطتين منفصلتين بين الضفة والقطاع، أصبح الفلسطيني يبحث له عن بوصلة تحدد وجهته، فلا يجد غير القرارات التي تقسم ولا تجمع والبيانات التي تنفر ولا تقرّب والمواقف التي تهدم ولا تبني... على أن ما يثير الانتباه عمليا أن حركة "حماس" التي تروج لخطاب ديموقراطي أساسه الحوار وتدعي السعي للانفتاح على الغرب، قد اختارت، في نقس اليوم الذي تواجد فيه قادتها في القاهرة لتنظيم انتخابات مكتبها، أن تؤكد للعالم عكس ما تروج له. ذلك أن حكومة غزة لم تعلن قرارها بشأن الفصل بين الأطفال في المدارس في أعقاب جلسة برلمانية ونقاشات وتصويت في كنف الشفافية. فليس سرا أن البرلمان الفلسطيني معطل منذ سنوات وأن أغلب النواب الفلسطينيين في الضفة وأن النواب المتواجدين في غزة لا يشكلون ثلث النواب وبالتالي فإن القرار لم يكن نتيجة ممارسة ديموقراطية بل تفرد جهة محدودة بالقرار وتعمدها فرضه على أهالي القطاع مستفيدة من حالة الانقسام والتشتت. الواقع أن في هذه الخطوة ما يمكن أن يثير أكثر من نقطة استفهام حول أولويات حكومة غزة وما إذا كان أهل القطاع المحاصرين منذ سنوات قد تجاوزوا كل المآسي اليومية وتخلصوا من كل القيود التي تكبلهم في الحصول على رغيفهم اليومي وهم الذين يعيشون معاناة مضاعفة بين جرائم الاحتلال وانتهاكاته، وقساوة الحياة وتفاقم الفقر والخصاصة والبؤس والأمية بينهم، بل إن الأنفاق التي كانت توفر فيما مضى لأهالي القطاع المعزولين بعض الأمل سدت منافذها وأغرقت "بقدرة قادر" بمياه الصرف الصحي، فزادت التضييق على أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في غيتوهات لم يعرف لها العام مثيلا بعد زوال "الأبرتهايد" في جنوب افريقيا... قبل أشهر استهدفت شرطة غزة بالعصي والهراوات مظاهرة نسائية خرجت مطالبة بوقف الانقسام الفلسطيني بعد أن ضاق حال الفلسطينيين بالتناحر والصراع بين الإخوة الأعداء الذي استنزف كل الجهود وأدى الى تراجع القضية في كل المحافل الدولية حتى بات الغرب يجد في ذلك ما ببرر به تقاعسه وعجزه عن فرض قرارات الشرعية الدولية، ليطالب مسؤولوه دون تردد الفلسطينيين بحل مشاكلهم الداخلية و توحيد كلمتهم قبل التوجه الى المجتمع الدولي... حقيقة مؤلمة ولكن لا يبدو أن الاخوان في "حماس" يستشعرونها كما لا يبدو أن الفتحاويين في الضفة يملكون حاليا قدرة على تغييرها... مصائبنا لا يبدو أنها تتوقف عند هذا الحد حيث بات بإمكان المرأة السعودية قيادة الدراجة ولكن بشرط وجود محرم معها وارتدائها العباءة... قرار مهم (!!!) قد يدفع بنا حتما الى الامام ويدفع بمجتمعاتنا المتخلفة الى القضاء على أسباب الجهل والفقر والامية والحفاظ على هويتها العربية والإسلامية وحماية ثروات بلادها من فساد وعبث العابثين وطرد كل أنواع الاحتلال ما خفي منه وما ظهر، من فلسطين الى العراق، إلى بقية العواصم التي تحتضن القواعد العسكرية الأطلسية... طبعا قد لا تكون هذه نهاية المهازل التي ستصدر عن حكام جعلوا من الدين غطاء ومظلة لتسويق برامجهم ومخططاتهم السياسية وليس طريقا لتحقيق العدالة الاجتماعية وفرض القيم والمبادئ الإسلامية التي تحترم إنسانية الانسان... ليبقى الدين كلمة حق أريد بها باطل...