تحيي بلادنا في 20 مارس من كل سنة ذكرى عيد الاستقلال بكامل النخوة والاعتزاز، وتعتبر الذكرى يوما تاريخيا عظيما تخلصت فيه تونس من الاستعمار واستعادت سيادتها فكان ذلك اليوم تتويجا رائعا لكفاح شعبنا الأبي من أجل الحرية والعزة والكرامة، وهي مناسبة يؤكد من خلالها شعبنا وفاءه الدائم لدماء الشهداء وتضحيات المقاومين والمناظلين، وهو إحتفال تستحضر فيه بلادنا مآثر شعبنا، وأمجاده الناصعة، معتزة بتاريخها النضالي، وبذاكرتنا المجيدة، التي تنهل منها الأجيال المتعاقبة ولائها لتونس دون سواها. إن قصة تونس واستقلالها قصة طويلة الفصول حزينة الأحداث تجمع بين البطولة والمأساة بين الظلم والمقاومة، بين القهر والاستعمار، بين الحرية وطلب الاستقلال، كان أبطال هذه القصة عديد الشهداء إضافة الى عدد كبير من الثكالى واليتامى والأرامل. فبعد أن هاجمت فرنسا المملكة التونسية وأرغمت الباي على توقيع معاهدة باردو تضاءلت على إثرها مباشرة الباي للسيادة التونسية، وعظمت سلطة المقيم العام ونوابه، ونفوذ الموظفين الفرنسيين خصوصا المشرفين منهم على المالية والأمن... نتيجة ما تقدم لم يرض شعبنا بحالة الهوان والمذلة التي أضحى عليها بعد أن تمكن المستعمر من رمي أطرافه كالأخطبوط على كامل البلاد حيث بدأت خيوط المقاومة الوطنية تنسج شيئا فشيئا من قبل رجال أفذاذ في الشمال والجنوب تدفعهم غيرتهم على وطنهم الحبيب وشعبهم المقهور. لقد برزت أولى نواة المقاومة الوطنية في تلك الفترة في شكل كتل تجمعت حول جرائد أخذت تكافح لفائدة البلاد من بينها جريدة "الحاضرة" للسيد علي بوشوشة وجريدتا "المنتظر" و"المبشر للشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي أسس بعد تعطيلهما جريدة "سبيل الرشاد" وجريدة "التونسي" للسيد علي باش حامبة. لقد لعبت هذه الجرائد دورا مهما في مزيد تجذير الوعي القومي لشعبنا، وإيقاظ شعوره، وتنبيهه بالعوائق التي ستلحق به، إن اقتنع بالعيش تحت الحفر. إضافة لما تقدم تكتل أفراد شعبنا أنذاك وراء قادته الوطنيين بدءا بالحزب الحر الدستوري القديم برئاسة الشيخ عبد العزيز الثعالبي الى حين مغادرته هذا الأخير البلاد سنة 1923 الى إيطاليا وواصل الحزب إثرها نشاطه في الخفاء وعزمه على سلوك سياسة غايتها تحرير البلاد الشيء الذي أزعج سلطات الحماية فقررت حل الحزب واغلاق نواديه وجرائده. كما لا ننسى في هذا الصدد الدور النقابي المتميز للسيد محمد علي الحامي ومساندته رجال الحركة الوطنية لتحرير البلاد فعلى اثر عودته من المانيا محرزا على شهادة الدكتوراه أسس جامعة عموم العملة في ديسمبر 1924 ولعبت هذه المنظمة دورا معاضدا للحركة الوطنية الشيء الذي اربك سلطات الحماية فألقت القبض على نشطائها بتهمة التآمر ضد أمن الدولة وتم إبعاد محمد علي الحامي وبعض رفاقه خارج حدود الوطن سنة 1925 فأبحروا الى ايطاليا وبذلك طويت الصفحة الأولى من الحركة النقابية بتونس. لكن على إثر الانقسام الحاصل بين صفوف أعضاء الحزب القديم، واستقالة الحبيب بورقيبة وبعض أصحابه منه في سبتمبر 1933 حيث دعى هذا الأخير الى عقد مؤتمر دستوري بقصر هلال في 2 مارس 1934 وأسفر عن تأسيس الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري الجديد وعن انتخاب هيئة الديوان السياسي تتكون من "الدكتور الماطري - الحبيب بورقيبة - الطاهر صفر - محمد بورقيبة - البحري قيقة. لقد كان هذا العمل بداية مرحلة جديدة من الكفاح الوطني، فقد ضاعف قادته نشاطهم السياسي بواسطة مقالات نشروها بجريدة العمل، وتأسيسهم لعديد الشعب الدستورية، وانخراط غالب الوطنيين في سلك حزبهم، الشيء الذي أقلق سلطات الحماية بالبلاد فقررت سلطات الحماية حل الحزب الحر الدستوري الجديد وتعطيل جريدته وإغلاق نواديه وإلقاء القبض على ابرز زعمائه ونفيهم الى برج البوف وهم الحبيب بورقيبة ومحمود الماطري. وواصل القادة الوطنيون إثرها مسيرة النضال والكفاح أمثال - فرحات حشاد - الهادي شاكر - صالح بن يوسف.. رغم ملاحقتهم من طرف المستعمر، وإبعاد العديد منهم عن أرض الوطن، وبمرور السنين تضاعف جهاد أبناء تونسنا البررة الشيء الذي جعل المستعمر يتفنن في وسائل القمع والترهيب، طامعا في البقاء الى الأبد ببلادنا التي راهن أبناؤها على الكفاح حتى النصر، وحتى جلاء آخر مستعمر من اراضيها، فما أن أعلن بورقيبة بمدينة بنزرت عن انطلاق المعركة المسلحة بتاريخ 13 جانفي 1952 حتى تجاوب معه الوطن من الأعماق، فانطلق الدستوريون أبطال حركة المقاومة المسلحة يردون على النار بالنار ويعطون أرواحهم قرابين للحرية، وبتاريخ 18 جانفي 1952 اندلعت المعركة الفاصلة في مسيرة نضال تونس المعاصرة لتحرير الوطن من الاستعمار الغاشم في كل شبر من ارضنا وكان شعبنا رائعا في لحمته وفي وحدة صفوفه والتفافه حول قادة حزبه وزعماء بلاده، وتحدثت الصحف والاذاعات عن مسيرة الثورة التونسية، وتكون للقضية التونسية صدى كبيرا في الخارج حيث نادى الأمين العام للأمم المتحدة بضرورة الاعتراف بحقوق التونسيين. لقد كانت ثورة جبارة رجحت كفة النضال الوطني على الطغيان والجبروت وانتهت بمجيء منداس فرانس رئيس الوزراء الفرنسي في 31/7/1954 ليعلن استقلال تونس الداخلي، مع إبقاء العديد من النقاط تحت تصرفه مثل مدينة بنزرت الى راقت له باعتبارها مكانا استراتيجيا هاما لا يمكن الاستغناء عنه أبد الدهر. وتواصلت المفاوضات إثرها بين المستعمر من جهة وبين المناظلين التونسيين بزعامة الحبيب بورقيبة حيث أسفرت المفاوضات على منح تونس استقلال التام في 20 مارس 1956 بعد 75 سنة من الاحتلال مع إبقاء بنزرت تحت سيطرة المستعمر الذي أذعن لإرادة الشعب المكافح وتم الجلاء عنها في 15/10/1963 فاكتملت بذلك السيادة التونسية عن كامل ترابه. فالاستقلال ذكرى خالدة نستحضر فيها نضال أبناء شعبنا بمختلف مكوناته وحبهم اللامحدود لوطننا، وتعزيز مناعته والمسؤولية اللامحدودة الملقاة على الأجيال المتعاقبة في الحفاظ عليه والولاء لتونس دون سواها.