تفتح المذياع هذه الأيام فتستمع للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ يغرّد عبر الأمواج فيحملنا إلى زمن الطرب الجميل وربما لهذه الأسباب نحب الراديو لأنه لا ينس هذه اللحظات المهمة بالنسبة لجمهور المستمعين ويقتطع من مساحات البث لحظات يذكرنا فيها بأن الحياة فيها أشياء حلوة. نستمع هذه الأيام لعبد الحليم فيهزّنا الشّوق إلى عالم كانت فيه أغنية جميلة كفيلة لوحدها بأن تغيّر حياة بأسرها فما بالك بالعندليب الأسمر ذلك الفنّان الساحر الذي يرحل بك صوته المخملي إلى ملكوت الفن والجمال. مرت الأعوام ومرت العقود (أكثر من ثلاثة عقود) على رحيل العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ الذي كان فاجأ عشاقه الكثيرين في العالم العربي بانسحابه من الحياة وهو لم يبلغ من العمر خمسين سنة (كان قد ولد في21 جوان1929 وتوفي في30 مارس1977) ولكن الجماهير لم تنس الفنان القدير ولا أغانيه. بل على العكس كلما مرت الأيام وكلما اكتشفت الجماهير المتعطشة للفن الأصيل ندرة المواهب وندرة الفنانين الأصيلين إلا وازداد الحنين لفن الحليم وزمن عبد الحليم. عبد الحليم حافظ لم يعش طويلا وتعذب كثيرا بسبب المرض اللعين الذي حاصره منذ الطفولة وأصاب كبده لكن كان سخيا وكريما جدا في علاقته بالجمهور وصادقا في فنه. ترك لنا كنزا من الأغاني الخالدة. ترك لنا مئات من الأغاني التي يمرّ الزّمن دون أن تصاب بالصدأ بل على العكس فهي تتعتّق مع الوقت وتزداد حلاوة وتزداد طلاوة ومذاقها يصبح مثيرا أكثر وسطوتها تصبح أكبر على القلوب. ولعلّ ظروف العصر الذي تكاد تكون فيه المشاعر قد تيبّست وتكاد تنشف فيه منابع الفنّ ونكاد نفقد الإحساس بالغناء تزيد الجماهير التفاتا إلى أغاني عبد الحليم الذي وحده يعرف كيف يثير المشاعر حتى أكثرها تقشّفا وكيف يهيّج الأشواق وكيف يشيع الرّومانسية من حوله ويحوّل المساحات الجرداء إلى حديقة مزهرة حيث لا صوت يعلو على زقزقة العصافير وشدو البلابل وتغريد الطيور وخرير المياه. عبد الحليم قصيدة جميلة وقصة نادرة ولحظة استثنائية في تاريخ الفن.. مر الفنان كالطيف في حياتنا ورحل لكن روحه بقيت ترفرف من حولنا وتنشر السعادة بأنغامه الباقية وبصوته الذي يفعل فعله في الناس في كل حالاته سواء كان هامسا أو هادرا. رحل العندليب الأسمر منذ 36 عاما لكن ذكرى عبد الحليم الفنان حتى النخاع ستبقى دائما وأبدا مادامت الناس تحمل بين جوانحها مشاعر وأحاسيس.