هذا ما نطق به شاب، قبل نزوله بمحطة القطاربحمام الأنف، بعد ان ودّعني...وهو شاب في الثلاثينات غيرمنتم لأي حزب سياسي، لكنه وجد ضالته في البرنامج الانتخابي لحزب المؤتمرمن اجل الجمهورية، فمنح له صوته في الانتخابات التشريعية الماضية التي تمخّض عنها المجلس التأسيسي الحالي. غيرانه بمرورالأيام وتوالي الأحداث، بدأ يشعر بالإحباط والندم على فعلته، بعد أن تبخّرت كل الوعود الانتخابية التي قطعها هذا الحزب على نفسه وتبخّرت معها أحلام هذا الشاب ومئات الآلاف من التونسيين مثله. فما هو سبب فشل الأحزاب السياسية بالوفاء ولو جزئيا بوعودها؟ إن أهم الأسباب هوأن جل الأحزاب التونسية لم يكن لها وجود فعلي قبل الثورة حيث تضخّمت في ظرف شهورمعدودة دون أن تتمكن من هيكلة نفسها، وبذلك لم يتسنّ لها تأطيركوادرها وأنصارها القادمة من مشارب مختلفة ومتنوعة، الكثيرمنهم تربّوا في أحضان النظام السابق ونهلوا من ثقافة(خدّمْ مُخّكْ). وهكذا فان غالبية الأحزاب الموجودة على الساحة تعيد إنتاج ممارسات المنظومة القديمة. ومن المفارقات ان عديد الوجوه التي عجزت عن البروزضمن النظام السابق،أصبحت اليوم تصول وتجول في رحاب المجلس التأسيسي وصلب أحزاب ترفع عاليا شعارات ثورية وتُزايد على الذين صمدوا فعلا وقولا في وجه نظام ما قبل الثورة. تزعزع ثقة الناخب في الأحزاب لا يقتصرعلى حزب بعينه، فهو يشمل كل الأحزاب بدون استثناء، لكن ناخبي حزب المؤتمرمن اجل الجمهورية، وأنا من ضمنهم، هم الأكثر تضررا، لأن غالبيتهم من القوى الحيّة والنخب المؤمنة بالحرية في إطارالهوية العربية الإسلامية. لقد فقد الناخب الثقة في أحزاب المعارضة وفي الثلاثي الحاكم على حدّ سواء. فنظرة الشارع للمعارضة هي عموما نظرة سلبية، رغم الأداء المتواضع للترويكا الحاكمة. والشارع يعيب على المعارضة أنها دائمة التشكّي من الحكومة ولا تظهرإلا سلبياتها، كما انه تنقصها قوة الاقتراح. وكم من مرّة تردّدت على مسامعي هذه الجملة :ان المعارضة لم تترك السلطة تعمل وتسعى دائما لإرباكها وبالتالي عرقلتها. لقد سمعت هذا الكلام من النجارومن العامل وكذلك من بعض النخب. وقد لاحظ لي رجل أعمال انه عادة ما يكتفي بسماع بداية حديث بعض المعارضين لان بقية حديثهم من التحصيل الحاصل . وفضلا عن ذلك، فالمعارضة يعوزها النضج، فهي لا تترك أي مناسبة جدية اوغير ذلك لتلوح بسحب الثقة من هذا الوزيرأو ذاك المسؤول، دون ان تتّعظ بسلسلة إخفاقاتها المتتالية في هذا الشان، مما ينمّ عن غباء سياسي وسوء تقديرللوضع الذي تعيشه البلاد وميزان القوى فيها. ان جريمة اغتيال المناضل شكري بالعيد هي عملية تمسّ من أمن البلد ومستقبل الثورة التي ضحت من أجلها اجيال، ومن مصلحة الوطن كشف ملابساتها دون لفّ ودوران، لكن هذا لا يبررما صدرعن السيد حمة الهمامي من تصريحات مثيرة بأرض المليون شهيد والتي دعا فيها، بالخصوص، إلى إسقاط الحكومة الشرعية الحالية عن طريق الإضرابات وغيرها، وهو تصريح غيرمسِؤول ولا يصبّ في صالح الجبهة الشعبية التي بدأت تشق طريقها، حيث تحتلّ حاليا المرتبة الثالثة حسب عملية سبرالآراء الأخيرة. هذا وتلعب بعض وسائل الإعلام دورا سلبيا وذلك بعدم التزامها بالحياد وتعدّها صبّ الزيت على الماء، وبذلك فهي لا تقلّ غباء عن المعارضة لانها تخدم بدون شعورالأطراف الساعية لإضعافه، بل تقوم أحيانا بعملية إنقاذ لمن تسعى لإغراقه، وبذلك تخسرجزءا كبيرا من الرأي العام الذي تسعى جاهدة لكسبه. ولا يجب ان يُؤَوّل كلامي هذا على انه تشكيك في الإعلام او المعارضة، لأنه لا يمكن تصورديمقراطية دون إعلام حرّ ومعارضة جدية. اما الحكومة فهي تُقدم نفسها دائما على أنها ضحية لإعلام مناوئ ومعارضة غيربناءة ومنظمة شغيلة تغذي الإضرابات والاضطرابات، وهو آمرصحيح الى حدّ ما، لكن كيف نفسّروقوف هذه الحكومة، وأساسا حركة النهضة، حجرعثرة امام قيام هيئات دستورية مستقلة، خاصة في الاعلام والقضاء. فهل اصبح الضحية اليوم يلعب دور الجلاد؟ ثم ما تفسيرهذه الخبطة والمواقف المتناقضة لقيادات النهضة فيما يتعلق بما يسمى مشروع تحصين الثورة؟ فالسيّدان الغنّوشي وديلو يعبّران عن تخليهما عن هذا المشروع لصالح العدالة الانتقالية التي طال انتظارها، ثم يخرج النائب البناني بتصريح مناقض مفاده تمسك النهضة ومن يدورفي فلكها بمشروع تحصين الثورة. وما معنى هذا التعتيم المشبوه على جريمة مقتل شكري بلعيد؟ فهذا يسمى لعبا بالنار، والمساجد حسب علمي ليست مقراحزاب سياسية فخطبة امام جامع برج السدرية يوم الجمعة الماضي ، على سبيل المثال، هي خطاب سياسي بامتياز بل تحريض ضدّ طرف سياسي لصالح النهضة دون ادنى التزام بمراعاة عموم المؤمنين المنحدرين من مشارب مختلفة، ولا اعتقد ان جريدة الفجرتسمح لنفسها تمريرمثل هذا الخطاب التحريضي. ما اريد ان استنتجه في نهاية الامرهو ان الطبقة السياسية القائمة لا يمكن ان تذهب بعيدا في تحقيق اهداف الثورة، اذا تواصل هذا الصراع العقيم على السلطة وهذا الأسلوب اللاعقلاني في تسييرالبلد. وما استقالة السيد حمادي الجبالي الأخيرة إلا دليلا على تمسك البعض بالكراسي على حساب المبادئ. اخشي ما اخشاه ان تنتهي بنا الأوضاع الى العنف او مقاطعة الجزء الاكبرمن الشعب للانتخابات القادمة، وهو سيناريولا يتمناه كل وطني يحب تونس ويؤمن بالديمقراطية وعاش تواريخ مشهودة هي على التوالي 17و14و23.