-لقد انطلق بورقيبة في مشاريعه الإصلاحية المنبتّة عن واقع المجتمع التونسي المحافظ، وهو يعتقد أن السبيل الذي سلكه هوالسبيل الوحيد لإخراج البلاد من التخلف والهوان... وقواعد توجّهه هذا متأتية من دوافع ذاتية وأخرى موضوعيّة. أمّا الموضوعيّة فهي مخلفات الاستعماروواقع التخلف الذي ورثه الشعب عن عصورالانحطاط، والحاجة الماسّة للإصلاح والتجديد، وأمّا الذاتية فتعود إلى تكوينه الشخصي وأسس بنيته الفكريّة والسياسيّة، فزيادة على ثقافته الفرنسيّة التي صاغت جانبا هامّا من مفهومه للحضارة والتمدّن، ﻓﺈنه كان متأثرا بشخصيّتين يعتبرهما عظيمتين، أثرتا أيما تأثيرفي فكره ومواقفه حول مجمل القضايا الوطنيّة والعربيّة والإسلاميّة، وهما "يوغرطة قرطاج " و"كمال أتاتورك". فلقد كان يشبّه نفسه في معركته مع فرنسا من أجل الجلاء ب"يوغرطة في نضاله ضدّ روما، وكثيرا ما كان يقول عن نفسه: "أنا يوغرطة الذي نجح"، وبهذه العقلية أعطى بورقيبة لتونس انتماءً تاريخيا وحضاريا جرّدها من كونها عضوا من كيان الأمّة الإسلاميّة الضّارب في التاريخ لمسافة تزيد عن الأربعة عشرقرنا، فاعتبرأن الجذورالحضاريّة للشعب التونسي ممتدّة في التاريخ القديم من أصل قرطاج، وأن هذا الشعب لم يشهد سيادة نفسه بنفسه منذ ذلك الزمان إلى مطلع الاستقلال وخروج آخرمستعمرتاريخي من أرض تونس، وأن الفتوحات الإسلاميّة التي تمّت ﻹفريقيّة ما هي إلا وجه من وجوه الغزو والاستعمارالأجنبي، وكذلك الشأن بالنسبة للخلافة العثمانيّة وباياتها، فهويراها استعمارا وهيمنة، ولم يتسنّ للتونسي أن يحكمه تونسي إلا في عهد بورقيبة... وبمجمل هذا أسّس بورقيبة فكرة القوميّة التونسية، ودعا إليها وكرّس اعتقادها في برامج التعليم وفي كلّ مظاهرالافتخاروالمجد والأصالة، فتونس القرن العشرين عنده هي امتداد لقرطاج ما قبل الميلاد، ونشطت هذه الفكرة القوميّة في كلّ المؤسسات والمجالات، حتى إنه يوم أن ترشح الفريق "القومي التونسي" لكرة القدم لدورة كأس العالم التي تمّت في الأرجنتين سنة 1978 شاهدت من مظاهرالاحتفال بهذا المهرجان الرّياضي، لافتة عملاقة معلقة في ساحة القصبة بالعاصمة مكتوبا عليها "بشرى لبورقيبة وحنبعل"، لقد كانت فكرة القومية التونسيّة هذه، بدعة غريبة عن مفاهيم القوميات والوطنيات المعروفة في تاريخ الأمم والشعوب والمؤصّلة في تفكيرهم وفلسفاتهم وحضاراتهم، فالسكان الأصليّون لتونس ولشمالي إفريقيا عموما هم البربر، وقد تعاقبت على أرض افريقيّة أجناس متعدّدة، والتقت عليها حضارات مختلفة، ولم يجتمع فيها قط قومُ على عصبيّة أنّهم تونسيون، فلا معنى للقوميّة التونسية، ولا جامع بين التونسيين إلا تلك الدّعائم الوطنيّة المعروفة بالأرض والدّين واللغة والتاريخ، وهي التي تشكل مجتمعة خيوط الانتماء الحضاري لشعبنا... أمّا مبادئ اللائكية وفصل الدّين عن الدّولة، فقد انتهجها قدوة وأسوة ببطل "الدردنال" كمال أتاتورك" الذي يندرج أمره في سياق تاريخي مرتبط بسقوط الخلافة العثمانية، فلقد كان لسقوط الخلافة العثمانيّة الأثرالمباشرفي انبعاث النزعة القوميّة ونشاط الحركة العلمانيّة من جهة، وميلاد الحركات السلفيّة وقيام التنظيمات الجهاديّة المنادية بمشروع الدّولة الإسلاميّة من جهة أخرى... فانهياردولة العثمانيين بما هي عليه من وهن وضعف وعجز، وبما آلت إليه آلة الحكم فيها من فساد وترف وظلم واستبداد، مثل نكبة عند الشعوب الإسلاميّة باعتبارها آخرقلعة ترمزإلى وحدة الأمّة ودولة المسلمين الجامعة رغم مرضها وضعفها، فكان لزاما على الحركات الإسلاميّة التي نشأت على أنقاض هذا الواقع أن تتلمّس موقعها وتتمركزﻹنجازالبديل عن الدولة العليّة، ولعَمري كان ذلك أمل عامّة المسلمين المقهورين في البلاد العربيّة المستعمرَة والمحتلة، ممّا حدا بالملك فؤاد ومن والاه من شيوخ الأزهرأن يطمعوا في الخلافة، ويطمحوا إلى نقلها من قصور السلطان على ضفاف البوسفورإلى قصرعابدين على ضفاف النيل، ولم يفلحوا في ذلك لمّا أحاطت بمشروعهم الشكوك والاتهامات من قبل أمراء وحكام المسلمين في البلاد الأخرى... إن الخلافة شاخت وهرمت قبل هذا التاريخ، فنهش الاستعمارالغربي أطرافها ومزّق أراضيها وجزأها إلى دويلات في المشرق والمغرب، ثم تمّ الإجهاض عليها لمّا توفرت أسباب السقوط بتخطيط من الصهيونية العالمية وبتنفيذ من المحافل الماسونية... ويومها كان "مصطفى كمال" يعمل ضابطا في صفوف الجيش العثماني، وله نشاط سرّي في صلب أحزاب المحفل "الماسوني" في تركيا، كغيره من الضباط الذين تمّ ترويضهم للعمل لفائدة "بني صهيون" من حيث يدرون أو لا يدرون، وكان يرى في العالم الغربي الملقب آنذاك بالدّيمقراطي نموذج التقدّم العلمي والحضاري، ويفسرما وصلت إليه أوروبا من تطورصناعي وثقافي وسياسي على أنه نتيجة تخليها عن الدين وعن "كهنوت الكنيسة"، فاعتقد أن اللّحاق بالغرب وحضارته يتمّ حتما عبرنفس السبيل الذي سلكوه مع دينهم، فاعتنق اللائكية مذهبا، وخطط وعمل على تطبيقها بوحشيّة وديكتاتوريّة لا مثيل لها، حتى يتمّ حسب ظنه، التقدّم لتركيا متى ألقت عن كاهلها عبء الخلافة وفصلت الدين عن الدولة، وأخذت بأساليب الحياة الغربية في صغيرها وكبيرها، وفي حلوها وفي مرّها.. إن السقوط الفعلي للخلافة تمّ يوم الإطاحة بالسلطان "عبد الحميد" سنة 1908، وما إعلان"مصطفى كمال" عام 1924 إلغاء الخلافة وقيام الجمهورية اللائكية إلا بمثابة التعبيرالقانوني والرسمي للسّقوط، والنتيجة الحتميّة لمخاض سنوات عديدة، حصل أثناءها اليهود على وعد"بلفور"، ودخلوا فلسطين ثم أعلنوا دولتهم على أرض العرب والإسلام.. وكان "مصطفى كمال أتاتورك" أول من تخلّى عن فلسطين واعترف بدولة "إسرائيل" كردّ فعل انتقامي على الثورة العربية التي قادها شيوخ العرب في الأردن والهلال الخصيب ضد العثمانيين وبتحريض وتسليح من المحتل الإنقليزي... هذا هوالرجل الذي تأثربه بورقيبة وأراد أن يحذو حذوه، فبادريوم أن مسك بمقاليد الحكم في تونس بإلغاء التعليم الزيتوني، وصرّح جهارا بتوجّهه اللائكي والتغريبي، وأسّس موقفا عدائيا من الإسلام وعلاقاته بمجالات نشاط الدولة والمجتمع، فقد ورد خبرتناقله الناس عن الإمام الجليل والعالم العامل الشيخ محمد الصالح النيفر رحمه الله ، لمّا زاره في أوائل الستينات مذكرا إياه بوعوده التي قطعها على نفسه أيام الكفاح الوطني، بتمكين الإسلام من مكانته المقدّسة والفاعلة، فأجابه بورقيبةّ "أنا لست على استعداد لحمل الشعب التونسي على جواد خاسر"، فالإسلام في نظربورقيبة جواد خاسر، والمراهنة عليه أكثرخسارة، وبقيت تلك المقولة تتأجّج احتقانا في صدورالمشايخ، وينتقل لهيبها بين المجالس، إلى أن تناقلتها الحركة الإسلامية، فحللتها وبنت عليها موقفا عدائيا من بورقيبة ولائكيته، يتّسم بالرفض طولا وعرضا "للبورقيبية" وانجازاتها... وفعلا فقد نجح بورقيبة في صبغ جيل الاستقلال بنمط من التفكير، رسّخ عنده جملة من المفاهيم حول القوميّة التونسيّة وسبل اللحاق بركب الحضارة و"تحقيق فرحة الحياة"... فنشأ شباب من المدارس والمعاهد يعرفون عن الثورة الفرنسيّة وحصن "الباستيل" أكثرمما يعرفونه عن الفتوحات الإسلامية وغزوة "العبادلة السبع"، ويعرفون عن "نابليون" و"الماريشال بيتان" أكثرمما يعرفونه عن أبطال القادسية وصلاح الدّين ومعركة "حطين"، ويعرفون عن "فولتير" و"جون جاك روسو" أكثر مما يعرفونه عن "ابن رشد" و"ابن الجزار" و"ابن خلدون"، ولا يعرفون للقرآن حظا إلا عند الجنائزوالموتى، ولا يعرفون عن الشريعة الإسلامية إلا" الحيض والنفاس"، ولا يستسيغون مظاهر الصّلاة والعبادة وريادة المساجد إلا عند العجائزوالمسنين... إذن في هذا المناخ الفكري الغريب، وفي هذا الواقع الاجتماعي المنبت، زيادة على اختناق الحياة السياسيّة بهيمنة الحزب الواحد ورئاسة الزعيم الأوحد، وإفرازات التدهورالاقتصادي، من بطالة وانسداد الأفاق أمام الشباب، نشأت الحركة الإسلاميّة في تونس بعد أن تهيّأت كل تلك الظروف التي أتينا على تحليلها، لظهورالمدّ الإسلامي كحتميّة تاريخيّة اقتضاها نقض عرى الإسلام عروة بعد عروة، بدءً ا بعروة الشورى، ووصولا إلى عروة الصّلاة وبقيّة الشعائرالتعبّديّة... فكان من المنطقي أن تكون أطروحات الحركة الجديدة مناهضة بالأساس لثقافة التغريب والانبتات، ناسفة لدعائم الفكرالبورقيبي، حاملة رؤية سلفيّة للإصلاح، متبنيّة أسلوب الإخوان في التنظم والعمل... وجاء الإسلاميون الجدد بطرح معاكس لمدّ الّثقافة السائدة في البلاد، فأظهروا أنه لم يكن لتونس تاريخ يذكرولا حضارة تنتسب إليها إلا منذ بداية الفتح الإسلامي الذي أخرج أهلها من البربريّة والهمجيّة إلى نور الهداية والعلم، وأدخلها منذ ذلك العهد في دورة التاريخ، وصارلها شأن بين الأمم، وباتت منارة علم وحضارة، وشيّدت تونس تاريخها ومجدها بانتمائها إلى الإسلام وبالإسلام فقط... فتونس في فكرالحركة الإسلامية، ما هي إلا رقعة عربيّة من الوطن الإسلامي الكبير، ولا معنى للجنسيّة أوالقوميّة التونسيّة أمام الإسلاميّة العالميّة، وجذورهذا الطرح تعود إلى ما ذهب إليه من قبل مفكروحركة الإخوان المسلمين، من أنه لا جنسيّة في الإسلام ولا ولاء إلا للإسلام، وأنّ «كلّ قطعة أرض ارتفعت فيها راية الإسلام هي وطن لكل مسلم، يحتفظ به، ويعمل له، ويجاهد في سبيله» وصاغوا مواقفهم من مجمل القضايا المطروحة إقليميّا وعالميّا اعتمادا على مكتبة الإخوان، ونظريّات" أبي الأعلى المودودي" في الحكم والدولة وسياسة الناس... تلك المواقف ستشهد تعديلا وتطوّرا حسب معطيات الواقع السياسي والاجتماعي عبرالمراحل التي مرّت بها الحركة في صراعها من أجل البقاء أوّلا، ثمّ من أجل المشاركة في العمل السياسي ثانيا، والمشاركة في الحكم ثم التمكين ثالثا. ● ناشط سياسي مستقل