صفاقس: فتح محاضر عدلية ضدّ أشخاص شاركوا في أحداث عنف بمنطقتي العامرة وجبنيانة (مصدر قضائي)    اختتام أشغال الدورة 25 للجنة العسكرية المشتركة لتونس وإيطاليا    هيئة الانتخابات:" التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور امر لدعوة الناخبين"    جلسة عمل وزارية حول عودة التونسيين بالخارج    وزيرة الاقتصاد: الحكومة على اتم الاستعداد لمساندة ودعم قطاع صناعة مكونات الطائرات في تونس    الإقامات السياحية البديلة تمثل 9 بالمائة من معدل إختراق السوق وفق دراسة حديثة    مصر.. موقف صادم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة    البطولة الافريقية للاندية البطلة للكرة الطائرة - مولدية بوسالم تنهزم امام الاهلي المصري 0-3 في الدور النهائي    رابطة الأبطال الافريقية - الترجي الرياضي يتحول الى بريتوريا للقاء صان داونز    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    فيلم "إلى ابني" لظافر العابدين يتوج بجائزتين في مهرجان "هوليوود للفيلم العربي"    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    فازا ب «الدربي وال«سكوديتو» انتر بطل مبكّرا وإنزاغي يتخطى مورينيو    المهدية .. للمُطالبة بتفعيل أمر إحداث محكمة استئناف ..المُحامون يُضربون عن العمل ويُقرّرون يوم غضب    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    بنزرت .. شملت مندوبية السياحة والبلديات ..استعدادات كبيرة للموسم السياحي الصيفي    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    رمادة: حجز كميات من السجائر المهربة إثر كمين    نابل: السيطرة على حريق بشاحنة محملة بأطنان من مواد التنظيف    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراجع إلى 8 درجات    حنان قداس.. قرار منع التداول الإعلامي في قضية التآمر مازال ساريا    التضامن.. الإحتفاظ بشخص من أجل " خيانة مؤتمن "    النادي الصفاقسي : تربّص تحضيري بالحمامات استعدادا للقاء الترجّي الرياضي    أي تداعيات لاستقالة المبعوث الأممي على المشهد الليبي ؟    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    ليبيا: ضبط 4 أشخاص حاولوا التسلل إلى تونس    عاجل/ إنتشال 7 جثث من شواطئ مختلفة في قابس    عاجل/ تلميذ يعتدي على زميلته بآلة حادة داخل القسم    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    طبرقة: فلاحو المنطقة السقوية طبرقة يوجهون نداء استغاثة    عاجل : الإفراج عن لاعب الاتحاد الرياضي المنستيري لكرة القدم عامر بلغيث    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 8 أشخاص في حادثي مرور    إنطلاق فعاليات الاجتماع ال4 لوزراء الشباب والرياضة لتجمع دول الساحل والصحراء    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    عاجل : مبروك كرشيد يخرج بهذا التصريح بعد مغادرته تونس    الجامعة تنجح في تأهيل لاعبة مزدوجة الجنسية لتقمص زي المنتخب الوطني لكرة اليد    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    وزير الدفاع الايطالي في تونس    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    بعد الاعتزال : لطفي العبدلي يعلن عودته لمهرجان قرطاج    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    بسبب فضيحة جنسية: استقالة هذا الاعلامي المشهور..!!    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لسنا أمام عالم اسلامي واحد، وانما عوالم اسلامية
الباحث محمد الناصر النفزاوي: حاوره: نبيل درغوث
نشر في الشعب يوم 26 - 05 - 2007

محمد الناصر النفزاوي أستاذ جامعي تونسي، من مواليد سنة 1948 بمنزل بورقيبة من ولاية بنزرت. زاول العمل الصحفي بمجلات وجرائد متعددة. يشغل اليوم منصب استاذ محاضر بدرّس الحضارة العربية الحديثة والمعاصرة بالجامعة التونسية، وهو من المهتمين بالبحوث والدراسات حول المغرب العربي.
كان حوارنا معه متفرعا الى أحاديث جانبية عديدة تكشف لنا رؤية خاصة لهذا الباحث.
* الدكتور محمد الناصر؟
العفو. أعفني من هذه الصفة، فأنا لا أحبها، أحبذ صفة الاستاذ... او حتى المعلم
* بدأت بكتابة الرواية ولكنك لم تواصل فلماذا؟
تقصد رواية «المتشابهون» التي صدرت بدار الحوار باللاذقية السورية سنة 1987؟ إنها بيضة الديك. لم أواصل كتابة الرواية لسبب بسيط هو ان بئري الروائية سرعان ما غاض ماؤها.
* أنت تدرّس الحضارة الحديثة والمعاصرة بقسم اللغة والآداب والحضارة العربية. حدثنا عن هذا الاختصاص بالضبط او بعبارات اخرى، ما هو مفهوم الحضارة؟ وهل هناك فرق بين «الثقافة» و «الحضارة»؟ وهل يمكن اعتبار الثقافة مكونا من مكونات «الحضارة»؟
بعبارة واحدة، انا أود اشراك الطلبة والطالبات في محاولة الاجابة عن السؤال الحديث والمعاصر: لماذا توقف النمو الحضاري الاسلامي في القرن الثالث عشر الميلادي اي في هذه الفترة التي بدأت فيها الحضارة الغربية نموها؟
* عفوا... أراك تستعمل عبارة «النمو الحضاري الاسلامي»؟
لان هذه الحضارة اذا كانت اسلامية العقيدة، عربية اللغة، فالأقوام التي آل اليها الحكم حتى قبل هذه الفترة لم تكن عربية: في بلاد المغرب كان الحكم في أيدي البربر المصامدة الموحدين ثم تواصل في خلفائهم البربر مثل الحفصيين في تونس وطرابلس والزيانيين في الجزائر والمرينيين في مراكش وذلك (وباستثناء المغرب الاقصى) حتى اضطرارهم الى طلب العون من الاتراك العثمانيين لصد الهجمات الايبرية عليهم. اما مصر والشام فكانتا في أيدي المماليك ولا تسل عن العراق الذي اجتاحه المغول. العرب هم الوحيدون الذين لم يبق بأيديهم اي سلطة سياسية وذلك منذ القرن التاسع الميلادي.
* لنفترض صحة ما ذكرت، كيف تفسر توقف النمو الحضاري الاسلامي؟
أنا لا أبت في مثل هذا الامر ولكنني اكتفي بأن أعرض على الطلبة والطالبات مختلف الاجابات المتعلقة بهذه المسألة اضافة الى بيان المنهج الذي تستند اليه كل اجابة. دوري ليس دورا تلقينينا، انا انفر من «التلقين» الايديولوجي مهما كان مصدره.
* هل يمكن ان تذكر لنا هذه الاجابات وما تستند اليه كل واحدة منها منهجيا؟
كأنك تطلب مني إلقاء «درس» على القراء؟
* لا بأس تفضل؟
للاجابة عن هذا السؤال الصعب لابد من التعرض لاجابات ثلاث مختلفة تقع بينها اجابات ثانوية متنوعة «تلجأ الى الأخذ من هذه الاجابة الكبيرة او تلك بنسب مختلفة:
الاجابة الكبرى الاولى هي ال لا تاريخية او الميتاتاريخية التي تقوم على الارادوية «volontarisme» فهي ترى ان المسلمين تخلفوا لأنهم ابتعدوا عن تعاليم دينهم ولو أرادوا العودة الى العمل طبق تعاليم هذا الدين لتقدموا.
الاجابة الكبرى الثانية هي الاجابة التاريخية العقلانية التي لا تكاد تولي العوامل الاقتصادية والتقنية والاجتماعية اهمية تذكر فالمسلمون تخلفوا لانهم نبذوا العقل. واشهر من ذهب هذا المذهب نهاية القرن 19 ارنست رينان (1823 1892) الذي كتب: «في حدود منتصف القرن الثالث عشر ما زالت كفة الميزان بين الحضارتين بعد غير مستقرة وبداية من 1275 تقريبا (توافق بداية هذه الفترة على المستوى السياسي، سقوط الدولة الموحدية في المغرب (1269) واستيلاء المماليك على الحكم في مصر والشام (1250) والمغول على الحكم في العراق (1258) فهي فترة انهيار سياسي شامل)، ظهرت حركتان بشكل جلي: فمن ناحية غرق المسلمون في انحطاط فكري بالغ ومن ناحية اخرى دخلت اوروبا الغربية من جهتها بثبات في هذه الطريق الواسعة من البحث العلمي عن الحقيقة (...) فعندما بث العلم المسمى بالعربي بذرة الحياة في الغرب اللاتيني اختفى «حسب ما ذكر «Ernest Renan» في كتابه «L'islamisme et la science» اما الاجابة الثالثة فهي الاجابة التاريخانية (historiciste) التي تكاد لا تولي العامل العقلي اهمية تفوق ما تنسبه الى العوامل الاخرى (اجتماعية، اقتصادية، تقنية، علمية...) من تأثير فهذا مهدي عامل يكتب في أزمة الحضارة العربية ام أزمة البرجوازيات العربية «ان العامل الاجتماعي الذي افتقدته البلدان العربية والذي توفر وجوده في اوروبا الغربية هو تكوّن طبقة اجتماعية هي البورجوازية التي استخدمت المعارف العلمية والتقنية في حقل الانتاج الاقتصادي بشكل كان حافزا قويا لتطور العلم والتقنية اما المجتمعات العربية الاسلامية في القرون الوسطى فلم تتكون فيها مثل هذه الطبقات التي تكونت في اطار علاقات الانتاج الاقطاعية».
وهذا صادق جلال العظم يضيف الى ما سبق في كتاب ثلاث محاورات فلسفية «اعتقد ان ما يميز العصر الاوروبي الحديث هو هذا الاتحاد العضوي الفريد الذي تم على مراحل طبعا ولكن للمرة الاولى في تاريخ الانسانية، بين المصالح الحيوية للطبقات التجارية الصاعدة وبين الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية، اريد ان اشير الى صيرورة تاريخية معينة في تكون اوروبا الحديثة ادت الى ربط المعرفة، قديمها وجديدها، نهائيا بطرائق البرجوازية الاوروبية الصاعدة في انتاج الثروة ومراكماتها».
* هل يمكن ان استنتج؟
تفضل.
* لا يمكن ان تكون، من خلال كل ما كتبت، الا من هؤلاء الباحثين الذين يمزجون بين المذهبين التاريخي والتاريخاني؟
لن أخالفك الرأي وان كانت القضية تحتاج الى مزيد من التفصيل.
* اذا كان كذلك فأنا استنتج كذلك انك تعتبر «الثقافة» مكونا من مكونات الحضارة؟
نعم.
* وانك مازلت تقول ان المنهجية الماركسية التي تسند دورا هاما الى العاملين الاقتصادي والتقني في صنع الاحداث التاريخية بالاعتماد على أنماط الانتاج مازالت صالحة وإجرائية لقراءة الحضارة الاسلامية؟
أنا مجبر على ذلك. ان لشيوع استخدام الجوال (الموبايل) تأثيرا يفوق الف مرة ومرة تأثير خطب الدعاة الى المحافظة على اسس العائلية التقليدية.
* واذا كان ذلك كذلك، فأنت على المستوى السياسي لا تعتبر الفترة العثمانية في التاريخ الاسلامي فترة استعمار؟
الفترة التي تتحدث عنها (من القرن السادس عشر حتى سقوط الدولة العثمانية الاتحادية) لم تظهر فيها قط فكرة الدولة القومية (Etat-nation) في المجال العثماني الاسلامي، اذ كانت الفكرة الاسلامية هي الغالبة. المغاربة مثلا هم الذين استنجدوا بالعثمانيين واذا كان المراكشيون قد حافظوا على استقلالهم فسبب ذلك هو ان السعديين تكفلوا بمقاومة الايبريين النصارى فخففوا بذلك من حمل العثمانيين... لا ننسى انه في مثل هذه الفترة الحاسمة ضعف العامل القبلي (الصراع بين المصامدة والصنهاجيين من ناحية وبين كل هؤلاء العرب المتمغربين) الذي لم يعد بإمكانه ان يقاوم دولة صاعدة مثل اسبانيا والبرتغال وحلت محله شرعية جديدة فوق قبلية هي الشرعية الجهادية ممثلة في السعديين وبعد ذلك في العلويين اذ ليس من الصدفة ان يدعي هؤلاء انهم ينتسبون الى القرشيين بل الى سلالة النبي محمد.
اما في بلاد المشرق فقد خلص العثمانيون المصريين والشوام من حكم المماليك وخلصوا سكان بلاد الرافدين من حكم الاتراك الاوزبكستانيين. فهل افتك العثمانيون الحكم من العرب حتى نتحدث عن استعمار؟
اني أذهب الى اكثر من ذلك فأقول ان من فضائل العثمانيين على مسلمي المغرب والمشرق انهم ساهموا في التقريب بينهم بواسطة النظم الادارية الواحدة الخ... ولقد قاموا بهذا الدور للمرة الاولى بعد الفتوحات الاسلامية في القرن السابع الميلادي.
* ولكن هناك من يقول ان الاتراك العثمانيين هم المسؤوولون عن التخلف الحضاري المريع الذي سقط فيه العرب وحسب هذا الطرح هل ان المغرب الاقصى وقلب الجزيرة العربية بقيا خارج دائرة التخلف لأنهما لم يكونا تحت لواء الامبراطورية العثمانية؟
أسئلتك هذه تشي بأن تفكيرك خاضع لقراءة ايديولوجية للتاريخ العثماني. وهي قراءة مكنت لها مئات الكتب التي تدرس في الجامعات العربية التي كنت دائما وما زلت أقاومها وسأحاول الاجابة عن أسئلتك هذه بتفكيكها ومناقشتها:
انت تتحدث عن الاتراك بتعميم غير مقبول وتتحدث عن نهضة عربية مبكرة مزعومة: إن الطولونيين الذين استقلوا بحكم مصر منذ القرن التاسع التاسع الميلادي هم أتراك والسلاجقة الذين حكموا العراق في القرنين الحادي والثاني (والثالث) عشر هم اتراك وتيمور لنك هو تركي أوزبكستاني. ولكن من تتحدث عنهم هم الاتراك العثمانيون اي احفاد عثمان وحتى لغتهم ليست تركية بل تركية عثمانية وحضارتهم كوسموبوليتية لا تعرف التمييز العنصري او الديني. انهم يشبهون في نظري المغاربة الذين هم مزيج من البربر والعرب والايبيريين. ولهذا كان الحكم في الاندلس كوسموبوليتيا ونحن بداية من الحكم التركي العثماني امتزجت دماء القوم بدمائنا وفي ألقابنا نجد البورصلي ودرغوث وخوجة والقصدغلي والزيركلي... و... و... فتخلفهم من تخلفانا... نعم، هم صدوا الى حين غزو أوروبا المسيحية. ولكن هذا الصد كان في القرن السادس عشر وبقوى عسكرية وعلمية وتقنية تكاد تكون تقليدية، اي غير رأسمالية حديثة، اي بعبارة اخرى ان هذه القوى ليس بإمكانها ان تصمد طويلا ازاء حضارة غربية رأسمالية بلغت من العمر ثلاثة قرون وقويت أنيابها الى حد لا يستهان به.
مأساة العثمانيين اي مأساتنا هي انهم بدؤوا ينشئون دولتهم في بعض بلاد الاناضول على اسس تقليدية في فترة بدأت فيها كفة الغلبة الحضارية الغربية تميل الى صالح البلاد الاوروبية الغربية. دور العثمانيين هو تعطيل الغزو الغربي... ولنتصور افتراضا، ماذا كان يمكن ان يحدث لو فقدت الحلقة العثمانية في تحقيب التاريخ الاسلامي؟
أما ما تقول عن «وضع داخل الجزيرة العربية» و «المغرب الاقصى» الناتج عن بقائهما خارج المجال العثماني، فهو يفيد ان هذا الامر كان أمرا ايجابيا. وانا أرى العكس تماما الا اذا كانت الوهابية السعودية في نظرك تيارا «مخلصا» في حين ان واحدا مثل فرح أنطون كان يرى فيها منذ بداية القرن العشرين «صرخة في واد» اذ ظهرت بالضبط في فترة ظهر فيها بالذات كتاب آدام سميث «ثروة الامم» في بريطانيا وكتاب كوندورسيه (Esquisse d'une histoire du progrès humain) في فرنسا! وما كان لها ان تنجح لولا «عطف جلالة ملكة بريطانيا» انذاك والولايات المتحدة الامريكية في القرن العشرين.
اما المغرب الاقصي الذي رحب منذ مطلع القرن التاسع عشر بالوهابية قبل ان يقضي على دولتها الاولى محمد علي الالباني المصري فهو ان كنت اعتبره احتياطي القيم البربرية (على عكس قرطاج والجزائر) في بلاد المغرب، لم يتمكن من استغلال هذا الاحتياطي (اي تكريره بلغة النفط) افضل استغلال وللاقتناع بما أقول يمكنك ملاحظة هذا التقارب «الغريب» بين النظام المغربي والأنظمة الخليجية. فما هو في رأيك، سبب هذا التقارب؟
* دوري هو السؤال لا...؟
العفو... أنا أواصل اذن فأقول: اما حديثك عن نهضة عربية مزعومة ترقى الى حملة نابوليون على مصر سنة 1798 فهذا محض قراءة مصرية لتاريخ مصر الحديث عمّمت على كل البلاد العربية زمن المد الناصري فأصبح بذلك تاريخ مصر هو تاريخ بقية البلدان العربية سواء أتعلق الامر بمراكش أم باليمن. اما الواقع فهو ان مثل هذه الحملة لم يكن لها تأثير يذكر حتى في كثير من بلاد المشرق حتى لا نتحدث عن بلدان المغرب لفقدان التواصل السياسي بين مختلف البلدان التي ستسمى فيما بعد بالعربية.
ضعف مثل هذا التأثير لفقدان التواصل السياسي نجد له مثالا صريحا عند حملة لويس بورمون (Louis de Bourmont) على الجزائر سنة 1830 التي لم يرد عليها لا سلاطين مراكش ولا بايات تونس ردودا تدل على وعي عميق بما سيكون لهذه الحملة من نتائج في بلاد المغرب. لذلك، أنا لا أفهم مثلا أسئلة مثل السؤال الذي طرحت حول «عدم قدرة العرب على النهضة والحداثة» وذلك لسبب بسيط هو فقدان الشعور عند العرب في تلك الفترة بالانتماء القومي.
ان العرب موجودون، ما من شك في ذلك. ولكن القضية ليست قضية وجود من عدمه وانما هي قضية الوعي بوجود ما وعلى هيئة ما: لا يكفي الوجود وحده دلالة على الحياة عند البشر.
* انت هنا تبتعد الى حد ما عن التاريخانية؟
لا توجد تاريخانية واحدة. واذا كان ماركس هو اول تاريخاني مشهور فمنذ موته ظهرت تاريخانيات عديدة. انا لا أقلل من شأن الجانب النفسي لكنني أولي الجانب المادي أهمية اكبر وان لم أفعل ذلك فعلي ان اقول بالمنهج الميتا تاريخي او المنهج التاريخي العقلاني الذي يريد نفسه وسطا بين المنهجين.
* هل يعني ما ذكرت من تهافت التاريخ المتداول للعلاقات العربية العثمانية ان هذا هو سبب اختيارك «التيارات الفكرية السياسية في السلطنة العثمانية بين 1839 و 1918» موضوعا لأطروحة دكتورا الدولة؟
نعم، فأنا لم اقتنع في يوم من الايام بما ساد من رأي حول «خصومة مزعومة بين «العرب» و «الترك»في القرن التاسع عشر واذا كان لابد من الحديث عن خصومة فهذه كانت بين المستفيدين من التنظيمات وهي مجموعة اصلاحات فرضتها بريطانيا اساسا على السلطة فرضا والمتضررين منها وهم عثمانيون من اعراق مختلفة استماتوا في الدفاع عن أسس المجتمع التقليدي بمعنى ان هذا الصراع يجب ان يرد الى الجانب الاقتصادي الثقافي ومثل هذا التناول يناقض ما هو سائد في اغلب الدراسات المتعلقة بهذه الفترة لأنها ترد الصراع اما الى ثنائية الاسلام والنصرانية عندما يتعلق الامر بعلاقة السلطنة بأوروبا واما الى ثنائية العرب والترك عندما يتعلق الامر بعلاقة العرب بالاتراك وذلك بالرغم من ان الشعور القومي في اغلب الفترة موضوع الدراسة لم يتبلور عند هذين الجنسين بل كان العثمانيون عربا وتركا وأكرادا وشركسا وشيشانا وألبانا ويهودا وأرمنيين.. في وضع الانسان التقليدي الذي غلبه على أمره انسان أوربي جديد يزداد كل يوم حيرة وقوة وقسوة..
* لكن كيف ترد على من يذكر لك اسماء معروفة اشتهرت بالدعوة الى «قومية عربية» مبكرة امثال ابراهيم اليازجي وفارس نمر و... و...؟
كل هؤلاء شوام مسيحيون... وأنا يمكنني ان أمدك بقائمة أطول من هذه القائمة تضم شواما وبغداديين ومصريين وليبيين كانوا حربا عليهم: أمثال شكيب ارسلان ومعروف الرصافي وعزيز علي المصري وسليمان الباروني...
* ما تقول يخالف ما يكاد يكون مجمعا عليه؟
أنت على حق.
* أين الخلل إذن؟
يكمن الخلل في الربط بين من اعترضت عليّ بذكر اسمائهم ودعاة القومية العربية بالمعنى الدقيق للعبارة: الاوائل محصورون في المسيحيين ونفورهم من دولة اسلامية ضارب في القدم اما الاخرون فلم يتجهوا هم ومن سيخلفهم وجهة قومية عربية الا بعد الحرب الكبرى عندما ستظهر دعوة قومية ايرانية شرق البلاد العربية ودعوة قومية تركية (لا عثمانية) شمال الشام. ازاء هذين الحدثين الحاسمين كان لابد من ان تظهر القومية العربية باعتبارها ردة فعل على ما ترى انه خطر ايراني وتركي ولهذا السبب نفسه لم تستند الى الدين خشية تنفير المسيحيين منها وليس من باب الصدفة ان ساطع الحصري الذي يعد أبا القومية العربية التقليدية كان حتى نهاية الحرب الكبرى عثمانيا (بل اتحاديا) حتى النخاع.
* كلامك يعني ان عمر القومية العربية قصير جدا؟
بل اقصر مما تتصور، فمصر التي دعا الحصري الى ان تصبح قلب الامة العربية كانت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية شديدة النفور من الفكرة العربية واذا اعتبرنا ان موت جمال عبد الناصر مثل انتكاسة للقومية العربية، فان عمر هذه القومية الحقيقي لم يتجاوز العشرين سنة. وعشرون سنة لا تعني شيئا عندما يتعلق الامر بقضايا مثل التي نتحدث عنها.
* كلام خطير؟
لا.. اذا أمعنّا فيما كتب الحصري مثلا. لم يتح للقومية العربية متسع من الوقت حتى تتغلغل في كل مسام البلاد العربية خاصة أنها ظهرت في فترة معادية للقوميات.. ولذلك انت ترى اليوم ان البلدان التي كانت اكثر تعلقا بهذه الفكرة اصبحت الاكثر تعرضا لظهور ظواهر ضاربة في القدم.
هل ما ينطبق على الفكرة العربية ينطبق كذلك على الفكرة المغربية؟
تماما.. مما يؤكد ما اذهب إليه. فهذا الجزائري علي الحمامي يكتب في العراق منذ 1941 في روايته الشهيرة «ادريس، رواية شمال افريقية» «عرف ادريس هذه المرة نهائيا أمرا هو ان روح الشرق قد تغير وانه من الان فصاعدا على كل بلد، وهو يعود الى القوانين الخالدة التي أملتها على الدوام الارض والدم والى دروس تاريخه، ان يحرص على خلاصه الخاص فلقد كانت الفكرة القومية تشق خطاها تحت الفكرة الدينية».
* هل نفهم مما سبق اننا اليوم وبعد انحسار الفكرة العربية ازاء عالم اسلامي واحد؟
لا.. نحن بازاء عوالم اسلامية اربعة تستند الى أقوام أربعة: الايرانيون والاتراك و «العرب» والمغاربة والخشية يجب ان تكون من اعتبارها عالما واحدا نظرا الى تنوعها على المستويات العرقية واللغوية والذهنية والطائفية. مما يقود الى طمس هذه الخصوصيات التي بإمكانها ان تصبح عوامل اثراء مثل ان يثري التراث الشيعي التراث السني. ان السمة الوحيدة الجامعة بين هذه الامم هي التخلف الاقتصادي ومتى توفر العيش الكريم لعامة الناس ارتخى تحفزهم الايديولوجي فلا بد لهذه العوالم من ان تتقارب على اساس من التنافس لتنمية دخلها القومي والاستثمار في العوالم الاكثر فقرا ولسوف يستفيد الجميع من هذه النظرة الاستراتيجية: ان تراث هذه الامم واحد اذ ان معنى التراث الاسلامي هو التراث العربي والايراني والتركي والمغربي بل ان الحضارة الاسلامية واحدة وهي حضارة هذه الامم. واذا كانت قد حدثت فترة غياب حضاري دامت قرونا فلتكن النهضة جماعية تبدأ من المادي المفقود او شبه المفقود وتنتهي بالروحي المتوفر واحيانا اكثر مما هو ضروري.
* أنت تلح حتى في هذا المستوى على ضرورة كبح جماح البعد الايديولوجي الذي لا يستمد الى نظرة تاريخية الى الاشياء؟
نعم.. انا اعتقد ان التفكير في توفير الغذاء لملايين المسلمين يجب ان يسبق التفكير في صنع قنبلة نووية. وما هي قيمة دولة تملك سلاحا متقدما في حين ان شعبها يعيش حياة تذكر بما قبل القرن الثالث عشر... السلاح سهل المنال وولادة شعب حديث تتطلب أجيالا وأجيالا... عمر التقنية لا يمكن ان يقارن بعمر الذهنية.
* كأني قرأت مثل هذا الكلام في مناسبة اخرى، اي فيما كتبت عن محمد كرد علي؟
وفي كتابات اخرى.
* تطرح في كتابك «محمد كرد علي المثقف وقضية الولاء السياسي» قضية المثقف والسلطة، فهل ما زالت هذه القضية مطروحة؟
ما زالت وستبقى اذا عرّفنا المثقف بأنه هذا الرجل الذي لا يقبل على حد تعبير محمد كرد علي ان يكون في وضع «فوطة الحمام تنتقل من جسم الى جسم». دور مثل هذا الدور يفوق في نظري دور الانبياء القدامي لأن العصور التي عاشوا فيها تعتبر عصور رحمة اذا ما قورنت بعصرنا. خاصة ان مثل هذا المثقف يجب ان يكون على يقين ان مآل سعيه الهزيمة في 99 من الحالات والواحد في المائة (ال 1) المتبقي يتمثل في ايمان عجيب ان دعوته يمكن ان تتبناها مجموعات رقيبة منه ممثلة في المجتمع المدني فتحد من فتك حضارة كمية تشيء كل شيء اي حضارة أثبتت ان انجازاتها العلمية والتقنية لا تتحقق الا بطعنات في قلب الانسان تتجدد كل يوم.
هل ان موقف محمد كرد علي الداعي الى الفصل بين الدين والدولة منذ بداية القرن العشرين ناتج عن تأثره بالنزعة اللائيكية في الثقافة الفرنسية ام انه ايمان بالعلمانية؟
ثقافة محمد كرد علي الفرنسية واسعة جدا ولكنه متعلق بالوجه المحافظ في هذه الثقافة اي الوجه غير الشيوعي والاشتراكي والعمالي بل الديمقراطي المشط. من هنا يمكننا القول (واللائكية كانت محل نزاع في فرنسا حسم فيه قانون 1905) ان موقف محمد كرد علي الداعي الى فصل الدين عن الدولة يتجاوز التأثر بالاطار الفرنسي ويطمح الى الاندراج في اطار أوروبي أوسع شامل للاتينيين والانقلوساكسونيين اذ ان النهضة في اغلب هذه البلدان تميزت منذ القرن السادس عشر بسعيها الى عتق الفرد من وصاية الدين ممثلا في الكنيسة ووصاية السياسة والاقتصاد ممثلة في الاعيان بل هو يرى مبالغة منه ان فترة ازدهار الحضارة الاسلامية زامنت فترة ابعاد رجال الدين عن ميدان السياسة: «يوم فصلت الامم النصرانية الدين عن الدنيا سارت امورها على سداد. وما وسع الدول الاسلامية في القرون الاولى الا سلوك طريق الدنيا كما سلكت الى الدين طريقة. وكانت تبتعد عن الخلط بين الطريقتين ما ساعدتها الحال».
* يقول محمد كرد علي «اذا ضعفت الدعوة الشيوعية وتضاءلت الدعوة الديمقراطية استراح البشر من الحروب مائة سنة»، هل تستشف من هذا القول ان محمد كرد علي ضد كل الافكار والنظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تحول دون تقرير الجماهير الشعبية مصيرها؟ أم انه كان صاحب رؤية استشرافية ونحن اليوم نرى امريكا تصول وتجول في العالم باسم نشر الديمقراطية. وابرز مثال على ذلك غزوها العراق بهذا المنطق؟
أنا عندما أتناول مفكرا سياسيا مكثرا أجتهد في تحديد نظرته الى الاشياء اي في عصره مثلما تفعل آلة الرحي «المولينيكس» بما يوضع فيها واستخرج منه العصارة وهي قليلة ولها نسبة معينة من الافادة... عمري ليس بالطول الذي يسمح لي بقراءة كل ما يكتب.
وانا عندما طبقت ذلك على محمد كرد علي، اكتشفت اولا انه لا يقول، نظرة الى الاشياء، بالميتاتاريخية (النظرة الدينية مثلا) ولا بالتاريخانية (نقيضتها المادية) ولكنه يقول بالتاريخية العقلانية.
ومن يركز على العقل ويعتبر انه المحرك الاول للتاريخ لا يسعه الا ان يحصر هذا المحرك في الفرد الخلاق المتميز الذي يوجه الجماعات الكبيرة. وانطلاقا من هذا فان محمد كرد علي يحارب الشيوعية لادعائها التسوية بين البشر وهم طبيعة ليسوا متساوين في نظره ويحارب الرأسمالية الديمقراطية قانونا لا حقيقة. وهو بعبارة واحدة، لا يقول بالتطور الانقلابي او السريع لأن الشاي في نظره لا يطبخ على جهاز الغاز وانما على نار هادئة. وليس بإمكان اي دعوة ايديولوجية ان تنجح حقيقة اذا لم تكن تعبيرا عن تطور استغرق قرونا طويلة وتسرب الى أعمق مسام كل افراد المجتمع. محمد كرد علي لا يتمكن من فهم من يقولون انه يمكن بمجرد الخطب الايديولوجية ردم الهوة الحضارية الفاصلة بين الغرب وبلاد الاسلام والتي امتدت من القرن الثالث عشر الى عصره بمجرد ادعاء حدوث نهضة عربية منذ حملة نابوليون على مصر... لهذا هو يصف اغلب السياسيين في الشام ب «اللصوص»، اما ما تذكره عما حدث في 9 افريل 2003 في العراق فان محمد كرد علي كان يمكنه لو بقي حيا ان يجرّم الولايات المتحدة لانها نهجت، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي لم تقم على الاسس التي قامت عليها الدولة القومية، نهجا ارادويا في تعاملها مع مجتمعات لها ثقافتها الخاصة، اي نهجت نهجا ربانيا باعتمادها فكرة «كن فيكون» وكأن الديمقراطية التي هي وجه من وجوه عديدة للحداثة، يمكن ان تختزل في الانتخابات.
إن الحداثة عند محمد كرد علي لا تعني تغيير لباس الرأس ولكن تغيير ما تحوي هذه الرأس وفي هذا المجال يمكن للمرء ان يلاحظ تقاربا عجيبا في التفكير السياسي بين العربي الارثودوكسي اللبناني فرح أنطون والكردي الشركسي محمد كرد علي والمغربي التونسي الحبيب بورقيبة فهؤلاء الثلاثة ينفرون من التغيير الانقلابي لأن «السير البطيء الدائم خير من السير السريع المؤقت والساقية الجارية أعود على الحقل والحديقة من النهر المقطوع». هؤلاء الثلاثة تعرضوا للامتحان وخاصة منهم بورقيبة الذي أتيحت له فرصة تطبيق نظرته الى الاشياء فحاربه التاريخانيون من الشيوعيين لموقفه المتحفظ ازاء «الجماهير» وحاربه الميتاتاريخيون لاعتباره ان الدين يعبر عن زمن ولى مما يفرض تعويض مفهوم الاجتهاد بالتغيير وحاربه القوميون وهم تاريخيون عقلانيون لقوله بخصوصية المناطق العربية الاربع (بلاد المغرب، وبلاد مصر والسودان وبلاد الشام والعراق وأخيرا بلاد الجزيرة العربية).
نحن اذن ازاء تيار واحد لم يتمكن من الصمود ازاء التيارات التاريخية العقلانية في وجهها الانقلابي والميتاتاريخية في وجهها الديني.
* باعتبارك من المهتمين بالفكر السياسي في السلطنة العثمانية هل ان مصطفى كمال أتاتورك نجح في تحديث تركيا؟ وهل استطاع زرع العلمانية بها ونحن نرى اليوم صعود التيارات الاسلامية التركية الى السلطة؟
مصطفى كمال «أبو الأتراك» ارادوي حاول ان يزرع العلمانية في تربة «تركية» حرثتها الميتاتاريخية الغزالية طيلة ثمانية قرون. فكيف يمكن عندئذ ان تقاوم هذا التجذر بنجاعة؟ انه لا يمكن الحديث في اي بلد عربي او ايراني او تركي او مغربي عن تحديث كامل ام محافظة كاملة.
نحن بازاء حضارة مختلطة (حتى لا أقول خلاسية) وقد يكون في إمكان من يأتي بعدنا ان يحصل على تصور افضل للوضع الذي نعيش فيه اليوم.
* وفيما يتعلق بإيران؟
هذه الامة هي واحدة من الامم الاربع التي تتكون منها الحضارة الاسلامية عربية اللغة، وهي منذ ان تبنت على غرار الامة التركية بعد الحرب الكبرى فكرة الدولة القومية دفعت ما سيسمى لاحقا بالبلاد العربية (لا الاسلامية) الى الدعوة الى قيام أمة عربية. ولكن الظروف تغيرت وفكرة الدولة القومية (Etat-nation) تهددها العولمة بالزوال فتاريخ الصراع بين هذه القوميات الاسلامية يجب ان يزول الآن.
* هل يعني هذا ان بإمكان العرب اليوم اذا ما اقاموا علاقات جيوسياسية مع تركيا وايران ان يستفيدوا من ذلك؟
وهل هناك حل اخر؟ ان الدولة القومية بسبب الصراع بين هذه الكتل البشرية الاسلامية تعيش حالة لهاث. وعليها ان تعوض فكرة الصراع القومي بما يتماشى وما تقتضيه العولمة. ما ألاحظه شخصيا ان ما يجمع الايراني والتركي والعربي والمغربي العادي (لا السلطة السياسية والدينية) هو تراث مشترك ضارب في القدم لابد من الحفاظ عليه... وبما ان عهد الدول القومية قد ولى فان عدم تخطي هذه المرحلة الى مرحلة أرقى لا يمكن ان يقود الا الى ظهور دعوات أضيق من القومية مثل الطائفية الدينية. وسياسة الولايات المتحدة في العراق افضل دليل على وجاهة ما اذهب اليه.
* ذكرت في كتابك «التيارات الفكرية السياسية في السلطنة العثمانية» القول التالي: «من يلق نظرة سريعة على لبنان واسرائيل لا يسعه ان يكون مطمئنا على مستقبل هاتين الدولتين» ثم طرحت السؤال: «ما قيمة قيام دولة قومية غير مطمئنة؟»، هل يمكن ان توضح لنا هذا الطرح؟
لقد أجبت عن هذا السؤال عندما تحدثت عن «لهاث» القوميات. القومية ايديولوجية تستمد ماء الحياة فيها من التصوف السياسي الذي يمكنه ان يدفع بمن يتغلغل فيه الى ان يهب حياته خدمة لمثل هذا التصوف.
اما عندما يقع الغاء الانسان بتحويله الى سلعة لا تساوي كثيرا من السلع المادية فعلى التصوف السياسي السلام.. انظر الى تاريخ الفوضويين الاوروبيين في القرن التاسع عشر. لقد سبقوا متصوفة القرن العشرين من الكاميكاز... والعنصر الوحيد الذي بإمكانه ان يجفف من ينابيع الكاميكاز هو التشيؤ..
* هل هذا هو فهمك للعولمة؟
لست مؤهلا للحديث عن العولمة لأنها ظاهرة بدأت أولا في الظهور في القرن الثالث عشر وبلغت الان من العمر ثمانية قرون وتتضمن آثارا عديدة ليس يمكنني لتكويني المحدود ان أتحدث عنها جميعا فهي تقتضي التناول الاقتصادي والتناول الاجتماعي والتناول الثقافي والتناول التعليمي اي اثرها في التعليم في البلدان التي سبقت في ميدان الحداثة والبلدان المجرورة ان المقطورة حضاريا وانا أنتمي الى جيل يعتبر نفسه اصبح خارجا عنها بل محظوظا اذا ما قورن بجيل الابناء اذ لم يعرف جيلي على ما عانى من انتكاسات ما سيعرف الجيل الحالي من غربة بإمكانها ان تنجب رهطا عجيبا من البشر.
* هل هذه دعوة الى القاء «السلاح»؟
لا. بالعكس هذه دعوة الى الاقتناع بصحة القولة «لا يلدغ المثقف الملتزم من حجر الف مرة ومرة.
* وما معنى ذلك؟
الداء في داخل الجسم بالدرجة الاولى فما أبأس ان تحمّل الآخر وزر جرائم ما كان ليرتكبها لو وجد صدا اي وعيا حقيقيا.
* ختاما لهذا الحوار هل يمكن ان نعتبر ان ما أبديت من اراء هو السائد اليوم عند مدرسي الحضارة في الجامعة التونسية؟
الجامعة التونسية أو على الأصح نواتها الأصلية كلية العلوم الانسانية والاجتماعية التي اعلن عن تأسيسها سنة 1960 مرت بمرحلتين تمتد الاولى من 1960 الى ما يسمى بالتغيير (1987) وطيلة هذه الفترة كان العمداء الذين تولوا ادارتها هم احمد عبد السلام (1960 1968) ومحمد الطالبي (1968 1970) وعبد القادر المهيري (1970 1972) وحمادي بن حليمة (1972 1975) ومحمد اليعلاوي (1975 1978) ومحمد عبد السلام (1978 1983) وعبد المجيد الشرفي (1983 1986) وكل هؤلاء في أغلبيتهم الساحقة تلقوا تعليمهم العالي في اللغة والاداب العربية في فرنسا وبالفرنسية وهذا أمر مذهل على المستوى الثقافي. لقد كانوا مجرد طلبة تونسيين تشبعوا بنظرة اساتذتهم الفرنسيين الى الحضارة الاسلامية عموما وهم لا يحملون عموما اي فكرة ايجابية عن القومية المغربية لذلك لا تجد، وان يحثت مطولا في كتاباتهم، بحثا واحدا يخدم القومية المغربية اي يحد من وطنية بورقيبة الضيقة.
واذا كان لهؤلاء العمداء ومن ورائهم الاساتذة من فضل فهو يتمثل في انهم درسوا في جامعات فرنسية عريقة فتونسوا بعض ما فيها من ايجابيات اما الجامعة التونسية بعدهم فقد فشلت، على مستوى مادة الحضارة العربية عموما والحضارة المغربية خصوصا، في تخريج من يعدل مسار هذا الجيل الاول وذلك لسبب واحد هو ان هذا الجيل «الرائد» اختار، على غرار بورقيبة على المستوى السياسي، طريق «توريث الابناء» بديلا من استقلال الفكر فأنتج عددا ضخما من اساتذة التعليم العالي الببغاوات الذين يكادون يكررون سنة 2006 ما كان يبدو صالحا في ستينات القرن العشرين والحال ان العالم تغير بشكل انقلابي اي بعبارة واحدة لم يتمكن هذا الجيل من انجاب نحل. ما حدث هو انه أنجب زنابير وانت تعرف ما يميز النحل عن الزنابير.
لهذا اصبح التساؤل الملح اليوم هو التالي: أليس من المصيري اليوم، خاصة بعد قيام اتحاد المغرب العربي، انهاء خدمات جيل الزنابير هذا اذا بلغ الستين من العمر علّ ذلك يضع على الاقل حدا للاعتقاد السائد حتى عند الطلبة ان قسم اللغة والآداب والحضارة العربية في الجامعة التونسية انما هو قسم «يحكم الاموات فيه الاحياء»؟
* هل ينطبق تقييمك على مادتي اللغة والادب وعلى اقسام اخرى؟
أفضّل القول ان ما جاء من احكام في هذا الحوار لا يتجاوز اختصاصي. غير انه يمكن للقارئ ان يستنتج ما يشاء.
* ألا تعد نفسك من ضمن هؤلاء؟
هذه المرة سأترك لك أنت الاجابة فوالتين والزيتون لقد أرهقتني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.