يشكل فوز ديزموند توتو رجل الدين المسيحي الأسود بجائزة تمبلتون حدثا مهما، ليس بسبب قيمة الجائزة التي تتجاوز جائزة نوبل، ولكن بسبب القيمة الإنسانية والمعنوية التي ترتبط بها، وبالتالي بسبب الدور الذي اضطلع به القس توتو في تحقيق مسار المصالحة الوطنية في جنوب افريقيا والخروج بها من متاهات الصراعات العرقية وسياسة الميز العنصري التي منحت أقلية من البيض الهيمنة على أكثر من ثمانين بالمائة من البلاد واستغلال ثرواتها ومنابعها وخيراتها... طبعا لم يكن توتو الاسم الوحيد الذي ظهر في جنوب افريقيا، بلد "ماديبا" الزعيم مانديلا الذي قضى أكثر من ربع قرن خلف القضبان قبل أن يصبح أول رئيس أسود لهذا البلد لولاية واحدة ويقرر بعدها الانسحاب من الحياة السياسية، الى جانب فريديريك دوكليرك زعيم البيض الذي اشترك مع مانديلا في قيادة البلاد في أخطر المراحل. ولكنه شكل الجانب الروحي والإنساني والديني لهذه المصالحة المصيرية في حياة كل الشعوب التي شهدت ثورات شعبية للقطع مع فساد وظلم الماضي... ديزموند توتو صاحب جائزة نوبل للسلام والحائز على جائزة تمبلتون للمستثمر الأمريكي الذي أرادها تكريما سنويا لشخص في حياته نجح في اعلاء قيم التسامح والعدالة والمساواة وهي القيم الكونية التي لا اختلاف فيها بين دين إسلامي أو مسيحي أو غيره الا في التطبيق وفي مدى احترام الحكام والتزامهم بتلك المبادئ التي تجمع على إنسانية الانسان وحقه في الحرية والكرامة... مهمة توتو الإنسانية لم تتوقف عند حدود دوره التاريخي المعروف في اسقاط نظام الميز العنصري نهاية القرن العشرين بكل الطرق السلمية المتاحة ولكنها امتدت الى ما هو أهم وهو بلسمة الجراح والدفع بالمصالحة الوطنية في بلد متعدد العرقيات والأقليات حيث تختلف العادات والتقاليد واللغة. بل ان المهة لم تكن هينة أو ميسرة في ظل وجود أقلية لم تتخلى في باطنها عن عقلية الهيمنة والتعالي ولم تقبل عن قناعة بل عن مضض مبدا المساواة في القانون مع عبيد الامي ممن كانوا حتى وقت قريب في خدمة راحة المستعمر الأبيض القادم من القارة العجوز الذي جعل من جنوب افريقيا مستقرا له... داعية السلام ديزموند توتو الذي لم يشأ وهو يحصل على الجائزة انكار دور تلك الأغلبية من السود التي راهنت على قدرة وإرادة قياداتها في واحدة من أروع الملاحم التي لا تزال الشعوب المستضعفة تسعى للاستفادة منها للقطع مع كل أسباب القهر والظلم والاستعباد للبشر. طبعا لا يمكن الا لمن لا يحسن قراءة التاريخ أن يعتبر أن المعركة في جنوب افريقيا باتت من الماضي وأن المصالحة باتت أمرا واقعا. فالحقيقة أن صفحة الاضطهاد والميز العنصري لم تطوى نهائيا والمصالحة الوطنية في بلد مانديلا وان قطعت اشواطا لا تزال قيد الاختبار. وثمار مبدإ العفو مقابل الحقيقة الذي رفعته لجنة التحقيق والمصالحة في جنوب افريقيا منذ منتصف تسعينات القرن الماضي لم تتحقق بما يعيد لكل ذي حق حقه وكما في كل التجارب الانتقالية فان العدالة قد تظل مغيبة لعقود طويلة قبل أن تنجلي ... في كل ذلك فإن في تجربة جنوب افريقيا على طريقة المصالحة ما لا يمكن ادراكه بدون التوقف عند اللحظات الأكثر حساسية والأكثر احراجا في العلاقة بين الضحية والجلاد وهي تلك اللحظات التي لا يستسيغها الكثيرون للأسف التي يتعين فيها على من كان بالأمس سيدا أن يقف وجها لوجه في لحظة صدق ومواجهة ضحيته بالحقيقة ويقر معترفا في خطوة أولى بالذنب وبالجريمة التي ارتكبها ويقف في خطوة ثانية أمام ضحيته طالبا العفو والصفح والذي بدونه لا حق له في النجاة من المساءلة والمحاسبة... الأكيد أن مسار العدالة الانتقالية في بلادنا، وقد قطعنا شوطا في السنة الثالثة للثورة، لم يبلغ بعد مرحلة اعتراف الجلاد واقراره بظلمه وفساده حتى يمر الى الخطوة التالية على طريق المصالحة التي بدونها ستظل الجروح تنزف...