في عالمنا العربي المليء بالعجائب والأساطير والتناقضات نعيش هذه الأيام مشهدا سرياليا ينتقل فجأة وبدون مقدمات من الملهاة إلى المأساة كالمسرح الإغريقي. وقد تحول "الربيع العربي" الذي بدأ حلما ورديا ودفئا إلى شتاء قارص تخللته البروق والزوابع والاهتزازات البركانية. والمحدّد الأساسي لهذا التحول هو الواقع الفكري والسياسي للشعوب العربية وخاصة منها النخب التي بقيت حبيسة منظومة فكرية تتمحور حول التكالب على السلطة والاتكاء على ناصية الريع الوظيفي وإقطاع الدولة الاستبدادية النافية للآخر الخارج عن بيت الطاعة. فالسلطة بمفهوم التحوز القهري للثروة ثم توزيعها على الموالين وعبدة المال والأوثان وبائعي الضمائر فهي سلطة متعالية على الأفراد وعلى الدولة ذاتها ولا تحكم إلا حسب نزواتها الذاتية ولا تفكر أبدا في المغادرة وهي الجاهلة لمكر التاريخ وصيرورة الزمن. وتصرّف السلطة على هذه الشاكلة نابع من استكانة الرعيّة وتزلف النخب لها سرّا وجهرا حتى أصبحت المناصب الإدارية حكرا على الولاءات ولعائلات بعينها ولا حديث عن الكفاءة والعلم والمصداقية ؛ وهكذا تصبح الدولة كائنا ممسوخا في خدمة بعض الأشخاص وحقا خاصا مكتسبا وكل من يعارض ذلك يصبح ملعونا وخارجا عن العرف والعادة. فالسلطة بالمفهوم المتخلف للكلمة هي غنيمة تدرعلى أصحابها الجاه والثروة والقوة وإشباع النزوات والغرائز ما دام القانون غائبا وفاقدا لفاعليته ولا يمكن تنفيذه عليهم مهما تعدّدت أخطاؤهم وتجاوزاتهم وحماقاتهم. فالقانون لا يطبق إلا بالتعليمات الفوقية ولا يسلط إلا على البسطاء والمستضعفين في الأرض. فالجشع السلطوي والتكالب على المناصب بدون مشروع مجتمعي وإفادة حقيقية للناس سوى التباهي والحصول على المنافع المادية الشخصية ومساعدة الأقارب والأبناء لا يؤدي بالمحصلة إلى فائدة تذكربالنسبة إلى بناء الدولة الحديثة والقطع مع الماضي الاستبدادي التسلطي والمتخلف. ويتعجّب الكثير من الناس عن حال التخلف الذي نعيشه من جميع النواحي والسبب بين وجليّ أمام أعيننا وهو التكالب على السلطة من أجل منفعة شخصية وذاتية ونزعة فردية لخدمة القلة وتكديس الثروة وإفساد المجتمع حتى تتحوّل الدولة إلى مزرعة خاصة والمواطن فيها إلى عبد من العبيد لا رأي له ولا مشورة وإلى مفعول به قسرا . وفي ظل التغوّل الذي يزيد بأسا وشدة مع مرور الأيام حتى يخال صاحب السلطة أنه شبه إله بمفعول سحرجوقة المريدين والشعوذة السياسية المحيطة به فيتطوربه الأمرإلى حالة مرضيّة مستعصية فيبدّد ثروة البلاد ويدخل في صراعات لا طائل منها حتى تأتي إلى قصره الغربان والذئاب فتحوله إلى خراب ينعق فيه البوم. وهكذا يتحمل المواطن وزرالتكالب على السلطة وسكوته عن مواجهتها وسلبيته عند إحجامه عن نقدها ومسايرتها في أعمالها الشيطانية وقبوله بالقهروالاكتفاء بفتات من ثروة بلاده واعتبارذلك فضلا عظيما وليس حقا طبيعيا. وكل سلطة وخاصة إن جاءت من بيئة متخلفة ومقهورة كحال البلدان العربية لا تعنيها بالقطع المصلحة العامة والمواطن فهدفها الأول والأخيرالتمكّن من الدولة والبقاء في الحكم أطول فترة من الحكم باستعمال نفس الأساليب القديمة والتي جرّبت فنجحت وهي ليست معنيّة بالإصلاحات والبناء ففاقد الشيء لا يعطيه. فالقهر والاستبداد يولد الخوف من العودة إلى الوراء وأيام الشدّة والبؤس والتلاشي وهذا في حد ذاته مبعث ريبة وتلهّف على استغلال الفرصة التاريخية واستعمال كل الحيل لترويض الأفاعي وقلع أضراس الذئاب الجائعة لوليمة مازالت تبحث عن مدعوّين وعرسان جدد. فالذاكرة السياسية العربية المثقوبة لا تغادرها كوابيس الماضي بسهولة ولذلك تحول "الربيع العربي" من آمال مجنّحة إلى فترة من الشك والتساؤلات والتراجعات المخيفة والتناحرحول كعكة مسمومة في ظل صخب يصمّ الآذان ولا نرى دخانا أبيض في آخرالطريق. ومن مكرالتاريخ العربي الغريب الأطوارأننا مازلنا نلعب على حواشي الأشياء ولم نفهم من التطوّرالحضاري الإنساني غيرالقشورالفارغة ولم نتمسّك من الماضي بغيرفواح البخوروتوليد آليات الاستبداد والتكالب على السلطة حتى وإن كانت مفسدة مطلقة وفي غابة من الذئاب النهمة والجائعة.