ثمة للفضيحة سلطة متعسّفة، في مختلف البلدان (متقدمة ومتخلفة)، لكن الفضيحة في البلدان المتخلفة لها مفاعيل أكبر وقعا، وأكثر قساوة؛ فما بالك بفضائح تطال حركة تحرر وطني، ورموزها، لاسيما إذا كانت بحجم الحركة الفلسطينية، وبالقياس للتضحيات والمعاناة التي يتكبدها الفلسطينيون؟! ففي البلدان المتقدمة، وخاصة البلدان الديمقراطية، يجري كشف الفضيحة وقوننتها، بما يضعها في حجمها، ويبطل مفاعيل استغلالها، أو استعمالها، في غير المقاصد المشروعة، وبما يعزز الرقابة والمحاسبة والقوانين التي تحد منها. وبهذا الصدد يمكن، مثلا، مطالعة كيفية التعاطي في الولاياتالمتحدةالأمريكية مع فضيحة "ووترغيت" السياسية وفضيحة كلينتون لوينسكي الجنسية، وكيفية تعاطي ايطاليا مع فضائح برلوسكوني المختلفة، وحتى يمكن مطالعة كيفية التعاطي في إسرائيل مع فضائح الفساد الحزبي (شارون ونتنياهو) والمالي (أولمرت) والجنسي (موشي كتساب وحاييم رامون)، على سبيل المثال. أما في البلدان المتخلفة (وهذا يشمل الأحزاب وحركات التحرر)، وخصوصا في البلدان الاستبدادية، وعلى العكس من السابق، فيجري حجب الفضائح، حينا، وتسريب بعضها حينا آخر، في إطار من لعبة سياسية، قوامها توظيف الفضيحة في مجال الاستخدام، والابتزاز، والإخضاع، لصالح التحيزات السياسية. وفي هذه الحالة فإن لعبة الحجب والكشف تفضي إلى تغذية المخيّلة الشعبية، وإشاعة الفضول، على الضدّ من قوننة الفضيحة، أو السيطرة عليها، لإبطال مفاعيلها، او أسبابها؛ ما يؤدي في هكذا بلدان إلى إعادة إنتاج الفضائح. وهكذا، فإن العملية الاستغلالية للفضيحة تفضي بداهة إلى مقاصد غير مشروعة بحيث يتم إنتاج سرديات متخيّلة، تجعل من الفضائح شيئا عاديا وروتينيا، يطال أهل السلطة، والبيئات الشعبية المتحلقة حولها، وتصبح شكلا للتداول والتندر والتفكه، بدل ان تحضّ على النقد والتغيير والمحاسبة. وتفسير ذلك يكمن في غياب المشاركة السياسية، في البلدان المتخلفة، وضعف إحساس الفرد فيها بالمواطنة، وغربته عن الدولة (وبالأحرى عن السلطة)، بحيث يكون لاحول له ولا قوة إزاء حوادث الفساد السياسي والمالي والجنسي، وهي في أغلبها الأعم، كما نشهد ليست مجرد حوادث فردية، وإنما هي من طبيعة السلطات السياسية السائدة في هذه البلدان، حيث يصح القول بأن "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة". في التمعن في كنه الفضائح يمكن تصنيفها إلى أنواع، فثمة الفضائح الجنسية، والمالية، والسياسية. وهنا يمكن ملاحظة أن الفضائح الجنسية، وهي تتناول المحجوب والمكبوت والمحرم، هي التي تحظى على اهتمام أكبر، وعلى تغطيات إعلامية أوسع، وعلى إطلاق المخيلة الشعبية لسرديات متنوعة (في الموروث الشعبي ثمة ألف ليلة وليلة مثلا). وثمة الفضائح المالية، وهي الفضائح التي لاتتعلق بانحراف في سلوك الأفراد العاديين، بقدر ما تتعلق بنهج سلطوي، أو بوجود سلطة فاسدة ومفسدة، باعتبار الفساد أحد دعائم هكذا سلطات مستبدة، حيث تخلق علائق من التواطؤ بين السلطة، وبين الفئات المستفيدة من واقع السلطة والتسلط السائدين. وهذه الفضائح مع أنها تضر بالشأن العام وتهدر الموارد، وتؤبد الفساد وحقوق المواطنين، إلا أنه تؤخذ باعتبارها من طبيعة الأشياء، حيث يقال بأن النفس أمارة بالسوء، وهكذا. أما الفضائح السياسية، وهي التي يمكن أن تذهب بمقدرات ومصائر البلاد والعباد، فيجري تبريرها، أو تجميلها، بحيث تصبح الضارة نافعة، والسلبية ايجابية، والثغرة ميزة، حيث "التاريخ يكتبه المنتصرون"، أي السلطات، التي ترى في أي خطوة لها، حتى لو كانت على مستوى هزائم تاريخية، نوعا من الصمود وربما البطولة! هكذا، مثلا، أخذت فضيحة رئيس ديوان الرئيس الفلسطيني أبو مازن، التي كشفها الضابط في جهاز الأمن الفلسطيني (فهمي شبانة)، مؤخرا، حيزا اكبر في وسائل الإعلام وفي التداول على المستوى الشعبي. وكما بات معلوما فإن هذه الفضيحة من النوع الجنسي، وهو النوع الأثير على المخيلة الشعبية، في المجتمعات المكبوتة، ما يفسر اللغط الكبير الذي ثار حولها. ومن دون التقليل من خطورة هكذا فضيحة، كونها ليست مجرد علاقة عاطفية أو جنسية، وإنما هي تتضمن، أيضا، شكلا من أشكال استغلال النفوذ (أي أن العلاقة كانت غير متكافئة ولا متبادلة)، فإن هذه الفضيحة غطّت على غيرها من فضائح وفساد رموز السلطة القائمة. عموما، فإننا لانقول جديدا بشأن استهداف هذه السلطة من كل حدب وصوب، ولاسيما من قبل إسرائيل، لابتزازها، وإضعاف مكانتها أمام شعبها، وصولا لإخضاعها لاملاءاتها السياسية، فهذا أمر معروف وعادي في سلطة، كان يفترض بها أن تكون سلطة تحرر وطني. بمعنى أن هذا التحدي بالذات كان يفترض بالسلطة الفلسطينية أن تحصّن نفسها بالمراقبة الشديدة، والمكاشفة الواضحة، والمساءلة الجازمة، والمحاسبة الحاسمة، لكنها بدلا من ذلك تعمدت التغطية على فساد رموزها، وأسهمت في تبرير سلوكياتهم، وحتى "مكافأتهم" عليها! وفي الواقع فإن فساد السلطة، أو فساد بعض رموزها، هو تحصيل حاصل للتحول في هذه الحركة الوطنية المهيضة، من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال؛ وهنا يجب أن تتركز الاهتمامات والانتقادات. بمعنى أخر فإن الفساد السياسي، أو النظام السياسي الفاسد، هو الذي يولد ظواهر الفساد المالي والجنسي، وهو الذي يسكت عن المساءلة والمحاسبة. فمن لايسمح بمحاسبته عن مصائر البلاد والعباد، لايمكن أن يحاسب احد لمجرد نزوات مسلكية، مهما كان نوعها وحجمها، وهذا هو المحظور الذي وقعت به الحركة الوطنية الفلسطينية. وفي هذه الحال تصبح الفضائح المسلكية (المالية أو الجنسية) مجرد ديكور يحجب الفضيحة السياسية الكبرى، أي فضيحة السلطة ومعناها.