عبد الفتاح عمر، طارق المكي وفوزي بن مراد ثلاث شخصيات وطنية مثل رحيلها خسارة لتونس، وكان القاسم المشترك بين هذه الشخصيات وفاتها بسبب إصابتها بنوبة قلبية. لكنّ تقارير الطب الشرعي التي أوضحت سبب الوفاة لم تقنع العديد، فوجدنا حملات التشكيك في سبب الوفاة تغزو المواقع الاجتماعية، فتعددّت حملات التهكم والانتقادات على غرار: "في تونس تتكلم يسكتوك بسكتة قلبية". فهل بتنا اليوم نعيش أزمة ثقة تخيّم على المشهد العام للبلاد؟ وهل باتت نظرية المؤامرة من أبرز سمات حياتنا؟ ربما لعبت الصدفة دورها في كيفية رحيل هذه الشخصيات الوطنية، فتصريحاتهم كانت جارحة لعدد من الأشخاص و ناقدة للفساد المتفشي بالبلاد موجهة أحيانا أصابع الاتهام لعدد من المتورّطين في الفساد أو "الاغتيال"، فكانت نهايتهم بنوبة قلبية، وهو ما دفع بالبعض إلى عدم تصديق سبب وفاتهم المعلن عنه من قبل الطب الشرعي. فعبد الفتاح عمر شغل منصب رئيس لجنة تقصّي الحقائق حول الرشوة والفساد، وتعرضّ إلى عدّة ضغوطات وصلت إلى حدّ تهديده والتشكيك في مصداقيته. ويوم 2 جانفي 2012، بلغنا خبر وفاته، فتعددّت التصريحات المشككّة في سبب وفاته بما في ذلك بعض وسائل الإعلام. إلا أنّ أخاه صرحّ بأنّ "هذه التصريحات مبالغ فيها وأنّ أخاه توفي بسبب تعرّضه إلى نوبة قلبية نتيجة الضغوطات التي مورست عليه". لكن بعد أيام معدودة من نقده التناول الإعلامي لوفاة أخيه، صرحّ على موجات اذاعة جوهرة بأنّ "فرضية الاغتيال واردة مطالبا في ذات السياق بتشريح الجثة والكشف عن الأسباب الحقيقية التي أدت الى الوفاة" معلنا "تحمل مسؤوليته فيما يقول ويدّعي من شكوك حول امكانية تعرّض اخيه الى عملية قتل"، لكن بعد هذا التصريح صمت..فلم نسمع له صوتا أو نقدا. وفي 31 ديسمبر الماضي، توفي رجل الأعمال ورئيس حزب الجمهورية الثانية طارق المكي أحد أبرز الوجوه المعارضة لنظام بن علي وهو منتج مجموعة الأشرطة الهزلية بعنوان " ألف ليلة وليلة" التي يسخر فيها من بن على وزوجته ليلى وأفراد عائلة الطرابلسي. وعرف المكي بعد الثورة بالبيان رقم 1 الذي دعا فيه الجيش الوطني إلى تسيير شؤون البلاد لضمان عدم "أخونة" البلاد، وهو ما لاقى عدّة انتقادات على الساحة الوطنية والسياسية على أساس أنّ الحكم العسكري لا يرسي سوى الديكتاتورية بالبلاد. أما ثالث هذه الشخصيات الوطنية فهو المحامي والناشط الحقوقي فوزي بن مراد الذي توفي أول أمس، وعرف بإنابته في قضية حلّ التجمع الدستوري الديمقراطي. كما راج اسم فوزي بن مراد مؤخرا على خلفية تصريحه بأنه يملك معلومات جديدة متعلقة باغتيال شكري بلعيد وأنه لن يكشف عنها إلا بعد الانتهاء من ملف بلعيد، لكنّ يد المنية كانت أسرع. أزمة ثقة حقيقية فتحت المجال لنظرية المؤامرة كلّ هذه التفاصيل ساهمت في عدم الثقة في تقرير الطب الشرعي والتساؤل عن مستقبل التصريحات أو الأسرار التي ربما كان سيكشف عنها المتوفون. في اتصال جمعنا بالأخصائية في علم النفس مريم صمود، أفادتنا أنّنا نعيش اليوم أزمة ثقة حقيقية فتحت المجال لنظرية المؤامرة التي برزت بعد الانتخابات، قائلة: "بمجردّ بعث الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، انبعث إحساس الثقة في مؤسسات الدولة من جديد في نفوس العديد من التونسيين، إلا أنه سرعان ما اضمحلّ بسبب تدني الخطاب السياسي وبسبب غياب الشفافية". وأعربت صمود عن أسفها لفقدان هذا الإحساس الذي اعتبرته مكسب الثورة الثاني بعد حرية التعبير محمّلة مسؤولية ذلك إلى السياسيين عامة وأعضاء الحكومة خاصة "الذين لم يحرصوا على إرساء مبدإ الشفافية المتجسدّ أساسا على مستوى خطابهم"، حسب تعبيرها. وترى الأخصائية في علم النفس أنّ المواطن العادي يتأثرّ ، ولو بصفة لا إرادية، بخطاب السياسي، قائلة: "حركة النهضة مثلا هي أول من استثمرت دور الضحية وهي أول من أرست نظرية المؤامرة، فبتنا منذ ذلك الحين أمام عدّة أشخاص يلعبون دور الضحية ويسعون إلى استثماره إضافة إلى إصرارهم على وجود مؤامرة". وعن عدم الثقة في تقرير الطبيب الشرعي، قالت صمود "إنّ المشكل لا يتعلق بالطبيب الشرعي فقط بل بجميع مؤسسات الدولة لأنّ مستوى الثقة فيها انحدر، ولتفادي هذا المشكل يجب على السياسيين الانتباه إلى خطابهم والحرص على توفير المعلومة الصحيحة للمواطن فلو كذب المسؤول على المواطن مرة فإنه يصعب تصديقه مرة أخرى". المؤكدّ أخيرا هو أنه سواء كانت وفاة عبد الفتاح عمر أو طارق المكي أو فوزي بن مراد بسبب سكتة قلبية أو نتيجة مؤامرة كما تسوّق لذلك بعض الصفحات الفايسبوكية والتي ترفض مجردّ التفكير في تصديق تقرير الطبيب الشرعي، فإنّ تونس خسرت شخصيات كان بإمكانها المساهمة في بناء هذه المرحلة الانتقالية.