في وقت يطرح فيه النقاش في دول غربية كانت هي صاحبة السبق في المجال حول إعادة النظر في برامج الواقع بالتلفزيون خاصة بعد وفاة شخصين في برنامج "كولانتا" على قناة تي آف 1 الفرنسية ومازال التحقيق جار حول الأسباب وفي وقت بدأت الناس في هذه البلدان تقف على السلبيّات الكثيرة لهذه البرامج نجد هذه النوعية من البرامج في تونس التي لحقت بالركب بعد فترة تتوالد وتتكاثر وتزايد على بعضها البعض بضخّ جرعات إضافية من الإثارة. وإذ يحرص منشطو هذه البرامج على أن النية طيبة والغاية اصلاح المجتمع بالكشف عن أمراضه فإن ذلك لا يحجب عنا حقيقة أن القنوات تسعى من خلال هذه النوعية من البرامج إلى استقطاب الجمهور ومن ورائه إلى استقطاب المشتشهرين وإلا كيف نفسر تلك الحلقات التي يدعى فيها المواطن إلى نشر غسيل البيت والعائلة والتوغل في أدق أدق تفاصيل الحياة الشخصية. ونرى منشط الحصة يدفعه مرة بالترغيب ومرة أخرى بالوعظ ومرة ثالثة بإيهامه بالإضطلاع بدور البطولة فيتخلص المواطن من آخر دفاعاته وصرنا نراه ينساق مدفوعا بتصفيق الجمهور فيمعن في تجريد نفسه من كل ما من شانه ان يحفظ اسراره أو حتى ماء وجهه. إن ما يجري على التلفزيون من حلقات "ستريبتيز" غير مباشر حيث يعمد ضيف البرنامج الذي يصبح على امتداد الحلقة ضيفا مبجلا وربما يزغرد في أذنه أنه اصبح بمجرد ظهوره على التلفزيون بطلا ومن المشاهير إلى التخلص شيئا فشيئا من كل الأوراق التي تستر سره ويتحول وكأنه تحت فعل التخدير أو التنويم المغناطيسي إلى أشبه ما يكون ب"الماريونات "دون أن ننزل ذلك في سياق التحولات التي يشهدها المجتمع. فالمجتمع على ما يبدو أصبح متعطشا لكل ما يثيره أكثر. ورغم أن كل حلقة من برامج تلفزيون الواقع صارت متبّلة أكثر من غيرها مادامت نسب المشاهدة موجودة ومادام الجمهور يطالب بمزيد من الإثارة فإن القنوات تشدد يوميا المنافسة فيما بينها من أجل العثور على الصيد الثمين أي ذلك المواطن- إمرأة كان أو رجلا- الذي تحرر من كل قيود تكبله ويتحول إلى كتاب مفتوح وأحيانا يزود من عنده ويفتعل لزوم الحلقة فتصبح الحقيقة أكثر إثارة من الخيال. لا ندري إلى أين ياخذنا تلفزيون الواقع بكل اغراءاته وسطوته على المواطنين الذين صاروا لا يمانعون في الخوض في مشاكل وقضايا كانت في الماضي غير البعيد من قبيل المستحيل الخوض فيها أو حتى التلميح لها على غرار المسائل العاطفية والأسرار الزوجية. المواطن صار أو على الأقل ذلك الذي تغريه اضواء التلفزيون صار لا يكترث بشيء اسمه الفضيحة ولا يقف طويلا أمام شيء اسمه الحياء والخجل والغيرة على أموره الخاصة. كل شيء مهدد بالعرض على الطريق العام الكل يستطيع أن يقف أمام الكاميرا كاشفا عن وجهه متحدثا بلا خجل عن أمور ربما نفضل لو أنها تعالج بطرق أخرى لدى أهل الإختصاص. وإن كنا في المطلق مع الكشف عن الحقيقة فإن ذلك لا يعني أن ننادي بأن يتجرد التونسي من كل القيم التي كانت تميزه وأن لا يحتفظ لنفسه بمساحة خاصة هي عبارة عن حديقة يحميها من عيون الفضوليين، يحميها ويغار عليها ويدافع عنها. إلى أين يأخذنا تلفزيون الواقع وذلك التنافس المحموم من أجل نسب المشاهدة ومن أجل الإشهار ولو كان ذلك على حساب قيمنا وأخلاقنا ولو كان ذلك يهدد مجتمعنا بالإنحلال.