انشغل الرأي العام في تونس خلال الأيام الفارطة ولا يزال بأحداث جبل الشعانبي خاصّة بعد إصابة عدد من رجال الأمن (وربّما الجيش) بألغام بدائية الصنع زرعت بطريقة محكمة... وتابعت كغيري من المواطنين والمهتمّين بالشأن الوطني ما جرى وطريقة التغطية الإعلامية التي ترافقت مع تلك الإحداث وخاصّة ردود الأفعال التي جاءت من هنا وهناك الأمرالذي يسمح لنا بتحديد بعض الاستنتاجات الأولية ومنها: اولا: ان مجموعة "عقبة بن نافع" الإرهابية المتمركزة منذ مدة طويلة في جبل الشعانبي لم تقم بأيّ هجوم اوعمل مسلح ضدّ الجيش او الحرس الوطني اوالمواطنين منذ ان تمركزت في تلك المواقع... ثانيا:ان الجهات الأمنيّة والعسكريّة كانت على علم بوجود تلك المجموعة منذ زمن طويل أي بعد عملية "بئرعلي بن خليفة" غيرأنها لم تقم بملاحقتها أو ضربها أو اتخاذ إجراءات لقطع تواصلها مع مجموعات أخرى سواء من مجموعات مشابهة لها اومع بعض سكان المنطقة؛ كما لم تقم تلك الجهات بعمليّات نوعيّة ضدّها ويظل سبب كل ذلك غيرمعلوم من قبل الرأي العام خاصّة من الجهات المسؤولة التي لم تقدّم توضيحات حول الأمر... ثالثا:ان الأحداث الإرهابية السابقة لهذا الحدث مثل أحداث "بئرعلي بن خليفة" و"الروحية" وخاصة "دوارهيشر" تبدوأكثر أهمّية وحساسية وخطورة من أحداث "الشعابني" سواء من حيث ما خلفته من ضحايا أمنيّين وعسكريّين او من حيث الفضاء الجغرافي لهذا التحرّك وأهمّيته باعتبارقرب دوّارهيشرمن المناطق العمرانيّة ومن العاصمة تحديدا بما يعني أن تأثيراته وانعكاساته وتداعياته أخطربكثيرمن وجود مجموعة معزولة في الجبال...ولكن ورغم كل ذلك لم تكن درجة اهتمام المجتمع السياسي ووسائل الإعلام بذلك بمثل ما يحدث الآن مع أحداث جبل "الشعانبي".... كما لم تبرزمواقف جذريّة وحاسمة كتلك التي عبّر عنها مثلا الأستاذ راشد الغنوشي بالأمس واليوم... لذلك نسال لماذا وقع تضخيم أحداث جبل "الشعانبي" بهذه الطريقة التي نشاهدها ونسمعها؟ ولماذا أسرعت أغلب الأطراف السياسية باتخاذ مواقف سياسية تبدوأحيانا راديكالية؟ نعتقد ان السلطة التونسيّة قد تحرّكت ضدّ هذه المجموعة ،التي تعرف عنها كل التفاصيل، كما صرّحت بذلك، في هذا الوقت تحديدا استجابة لعدة معطيات لا تهمّ البلاد التونسية فقط بل تشمل منطقة المغرب العربي بامتداداتها الجغرافية...اذ يبدوان قواعد قاعدة المغرب العربي أخذت بالتحرك وإعادة الانتشار بعد الضربات الموجعة التي تلقتها في "مالي" ويبدوأنها غيّرت من تكتيكها وقد تكون الجزائرهي المنطقة المستهدفة بعد "مالي" خاصّة وان الجزائرتعيش ظروفا صعبة اقتصادية واجتماعية؛ ويبدوأن أطرافا خارجيّة يهمّها زعزعة أوضاع الجزائر، بعد تحرّكات الجنوب الجزائري الأخيرة، وتحت ضغط الظروف الاجتماعية والاقتصادية ومرض الرئيس بوتفليقة... ويظهر ان مجموعات كثيرة على استعداد للالتحاق بالجزائرقادمة من مناطق أخرى، من ضمنها سوريا خاصة بعد الضربات الموجعة التي تلقتها "جبهة النصرة" وبعد التفاهمات الأمريكيّة الروسيّة الأخيرة بشان سوريا وضرورة الاستفادة من مَنْ سيتبقى من «جبهة النصرة» الحاملين لجنسيّات مختلفة(غيرالاوروبيّة التي يمكن استيعابها) ومنها التونسيّة والليبيّة وغيرها متّخذين من المعابرالليبية والتونسية السائبة طريقا لهم خاصّة مع الانفلات الذي تعرفه حدود البلدين بتفاوت... وهناك العديد من المؤشرات التي تدفع باحتمال تمركز قوات القاعدة بتسميّاتها المختلفة حول توجه القاعدة نحو الجزائرمن ذلك اجتماع وزراء داخلية بلدان الاتحاد المغاربي في دورة خاصة يوم 21 افريل 2013 بالرّباط وكان الهدف هو"بحث قضايا الأمن الإقليمي والتعاون في مكافحة الإرهاب"بما يعني امتلاك الجزائرالتي دعت للاجتماع أصلا لمعلومات استخباراتية حول التجاء "الجهاديّين"إليها، ثم التحرّك الذي قامت به إحدى المجموعات الإرهابية قبل يومين بمنطقة القبائل وتمكن الجيش الجزائري من قتل سبعة من أفراد تلك المجموعات أو المجموعة وضبط أسلحة آلية وكميّة كبيرة من الذخيرة ناهيك عن تحركات القاعدة والمجموعات الرديفة لها اوالمشابهة لها داخل ليبيا وسيطرتها على عدة مناطق بالإضافة لمقرّات السيادة ....ويظهران الجزائر تملك معلومات استخباراتية عمّا يجري من مخططات ضدّها لذلك تحرّكت للتنسيق مع حكومات جيرانها وربّما الضغط عليها لاتخاذ مواقف حاسمة وحازمة من قضية الإرهاب وهو الأمرالذي قد يفسرمحاولة انقضاض الجهازالأمني والعسكري التونسي على مجموعة "عقبة بن نافع" خلال هذه الأيام وليس قبل ذلك برغم امتلاك ذاك الجهازكل المعلومات عن تلك المجموعة وتمركزها وتحركاتها....ولكن اين يكمن خطرالمجموعات السلفية الجهادية في تونس؟ نعتقد ان خطرالإرهاب في تونس إنما يكمن في انتشار وتمركز مجموعات بشرية تونسية يملك أفرادها خبرة طويلة في القتال واغلبهم كان قد خاض معارك في أفغانستان والشيشان والبوسنة وسوريا ثم رجعوا الى تونس بعد الثورة وتمكنوا من بناء قواعد وخلايا بشرية نائمة تنتشرفي بعض الإحياء الشعبية لتونس العاصمة والمدن الكبرى وحتى في بعض مدن الداخل التونسي... وهي التي استفادت من علاقاتها السابقة مع "الجهاديّين"الليبيّين في "مواقع الجهاد" السابقة وتحصّلت منها على كميّات من الأسلحة والمواد المتفجّرة زمن الانفلات الأمني الذي عاشته كل من تونس وليبيا( يتحكم الكثير من هذه العناصرالآن في الوضع الليبي)؛ لذلك نقول ان الخطر الحقيقي الذي يهدّد البلاد هي هذه المجموعات، تحديدا وبالذات، والتي تمثل قنابل موقوتة لا تنتظرإلا تلقي الأوامربالضرب والهجوم والتدمير في تونس او لربّما الانتقال منها إلى الجزائركما انتقل البعض منها الى سوريا تبعا لأوامرخارجية .... فهذه الجماعات لا تملك قرارا مستقلا بها بل هي أدوات تحركها أطراف أجنبية أو حتى داخلية مناهضة لأهداف الثورة.. فمن الضروري ان تستغل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الوفاق السياسي الوطني الذي ساعدت أحداث جبل "الشعانبي "على تعزيزه للقيام بعمليات استباقية ضدّ هذه المجموعات في اقرب وقت ممكن خاصة ان التهديدات التي صدرت عن قيادات هذه المجموعات واضحة ومعلومة لن تتردّد في إفساد أي وفاق سياسي يحصل في تونس وتعطيل مرحلة الانتقال الديمقراطي والانتخابات القادمة أساسا او حتى تخريبها وبالتالي إفشال هذه التجربة التي قد تكون فريدة من نوعها في الوطن العربي. ● أستاذ التاريخ المعاصر والراهن جامعة منوبة