في زحمة التقدم التكنولوجي الهائل وفي قلب هجمة قيم الإستهلاك في المجتمعات العصرية واقتحام الآلة والآلية حياتنا, أيّ مكان للصناعات التقليدية التي تعتمد أساسا على اليد وعلى المهارة البشرية في مجتمعاتنا وهل مازالت تأمل في أن تجد لها موضع قدم؟ من هذا المنطلق نستطيع القول أن معرض الصناعات التقليدية بدار الكاملة بالمرسى الذي افتتح رسميا يوم 31 ماي المنقضي وفتح للزّيارة يومي1 و2 جوان الجاري وسيفتح مجدّدا أمام الجماهير يومي 8 و9 من نفس الشهر ليس مجرد معرض ستعود مرابيحه إلى جمعيّات تونسية ونسائيّة بالأساس (ثلاث جمعيات مهتمة بالبحث عن تمويل مشاريع الحرفيين بالمناطق الريفية والحفاظ على التراث التونسي في مجال الصناعات التقليدية) شاركت في التنظيم وإنما فرصة ثمينة لتسليط الضوء على قطاع يعتبر أحد آخر القلاع المدافعة عن هويّة الشعوب وإحدى الشهادات على ما تبلغه الأمم من قدرة على الخلق والإبتكار وعلى المهارة اليدوية. الصناعات التقليدية في بلادنا تعاني من عدة مشاكل من أبرزها تحول الإهتمام عنها وعدم قدرتها على استقطاب الشباب كما أن الصعوبات التي تواجهها السياحة في تونس ضاعفت من متاعب الحرفيين والمختصين في الصناعات التقليدية مما ضاعف من الصعوبات وخاصة في مستوى التسويق. وإن كانت المنتجات التقليدية في تونس تتميز بجمالية خاصة فإن عرضها في حدائق دار الكاملة وسط ديكور جميل سواء في الهواء الطلق أو داخل الحجرات ذات الطراز التقليدي زاد في إبراز مفاتنها وزادها تألقا. كان المساء قد خيم لما فتحت حدائق دار الكاملة أبوابها أمام الضيوف. ضيوف كانوا بالأساس من الحرفيين والمختصين في الصناعات التقليدية إضافة إلى مثقفين وفنانين وإعلاميين وحتى من رجالات السياسة ونشطاء المجتمع المدني. الشموع تناثرت في عدد من أركان الحدائق الواسعة التي تفتخر بها دار الكاملة التي وكما هو معروف مقر إقامة السفير الفرنسي بتونس وتحديدا بالمرسى فأضفت على المكان رومانسية حالمة. عادة ما تفتح هذه الحدائق أمام الجماهير التونسية بمناسبة تنظيم معارض فنية لتونسيين أو مشتركة بين تونسيين وفرنسيين وغيرهم. المناسبة في كل مرة تتحول إلى مناسبتين: التجول في الحدائق الجميلة بدار الكاملة التابعة للمنزل الفخم المطل على البحر في ضاحية المرسى والذي يعود إلى زمن حكم البايات في تونس من جهة وزيارة المعارض التي تنتظم بالمكان من جهة ثانية. في انتظار انتقال المعرض إلى ضفاف نهر"السّان " المعرض الذي نحن بصدده ليس معرضا للصّناعات التقليدية في شكلها التقليدي وإنما معرض لفن التّزويق ومعرض علمي إن صح التعبير لأنه ينطلق من بحث ومن دراسة تجمع بين الجمالي والوظيفي. وبتعبير آخر لقد تمّ استغلال مهارة عدد من المختصين في مجال"الديزاين" لإثراء المنتوجات التقليدية واخراجها في قالب فني يجعلها أكثر قدرة على استقطاب عين الزائر وإثارة فضوله ولم لا حثه على اقتناء القطع. وقد تمت مراعاة عدد من العناصر في هذا السياق من أبرزها الجمالية والجودة والوظيفة. القطع المعروضة بدار الكاملة متنوعة وذات وظائف مختلفة ومعبرة عن مختلف عادات وتقاليد المدن والجهات فهناك الأثاث للبيت وللمطبخ وللحدائق وهناك التحف للتزيين. هناك أشياء عادية نستعملها يوميا في حياتنا وقد تم عرض قطع تؤدي نفس الوظيفة لكن بفارق كبير يتمثل في الجمالية التي أضفيت عليها وحولتها وهي على بساطتها إلى قطع فنية مميزة. تم بطبيعة الحال الإعتماد على مواد طبيعية من تلك الموجودة في تونس من بينها بالخصوص المواد الصلبة كالخشب والمعادن. تم استعمال البلور وخيوط الصوف إلخ... التقنيات بدورها كانت مختلفة من نقش وحفر وتطريز ونسيج إلخ في تعبير واضح عن ثراء التراث التونسي وتنوعه. أياد كثيرة ساهمت في هذا المعرض ومن بينهم ثلاثة أسماء تولت زيارة التراث التونسي والإستلهام منه لابتكار قطع جديدة تجمع بين الروح التونسية وروح العصر. الأسماء الثلاثة هي على التوالي": "فيليب غزيري" وهو مبدع فرنسي اشتغل طويلا لفائدة ماركات عالمية ثم اختار تونس مستقرا له وبعث الماركة الخاصة به "ورك ذي كاسبا ROCK THE KASBAH " وفيها خلاصة الرؤية العصرية وتقاليد بلد الإستقبال تونس. صديقة كسكاس لم تعد تحتاج إلى تعريف فهذه المرأة التونسيّة المعروفة بقصة عشقها للبلور ما انفكت تجوب المدن التونسية وتستقبل الحرفيين وخاصة القرويات في فضاء صديقة بقمرت الذي بعثته منذ قبل 20 سنة وتحول إلى قطب للحرفيين والحرفيات الذين يحتاجون إلى فرصة ينطلقون فيها في حرفتهم على اسس صلبة. محمد المسعودي صاحب ورشة الدريبة وهو فنان تشكيلي ومختص في الديكور وفن التزويق. وهو وربما هذا الأهم مجمّع لقطع التراث التونسي وعلاقته مع الجمال علاقة خاصة جدا فهو يعرف نفسه على أنه كائن يقطف الجمال حيث يكون. لقد نجح الرجل في أن يحول مختلف أصناف الحرف مهما اختلفت المادة والأشكال والوظائف في مكان واحد وجعلها تتعايش مع بعضها. إن كان هناك قاسم مشترك بين الأسماء الثلاثة المذكورة فهو سيكون حتما إيمانهم بالحرفي وضم جهودهم لجهود هؤلاء من أجل بعث مشاريع ابداعية مثيرة تنطلق جميعها من الذاكرة ووضع هؤلاء خبرتهم في خدمة المشروع وفق ما أعلنه كل السفير الفرنسي"فرانسوا غويات" وزوجته حليمة اللذان توليا تقديم المعرض وتوقفا عند قيمته وأهدافه التي من أبرزها مساندة المواهب في مواصلة الخلق والإبداع وفتح مجال للحرفيين للتعريف بانتاجهم وتوفير مسالك لترويجه إضافة إلى المرابيح المنتظرة والتي ستحوّل إلى الجمعيات المختصة. السفير أعلن يومها أنه يحلم بنقل المعرض إلى ضفاف نهر"السان "بباريس. أغلب الحضور فهموا يومها أن الحلم يعني ربما وعدا في الغرض.