بقلم: محجوب لطفى بلهادى* في زمن اختلال نظم عقارب الساعة وبعد إجراء العديد من الجراحات التجميلية أطلّت علينا النسخة الأخيرة من مشروع الدستور بصياغات ومضامين التي وان سجّلت العديد من نقاط التقدّم عن النسخة التي سبقتها إلاّ أنّ بعض النواب رأوا أنها لا تعكس بشكل أمين عمل اللجان التأسيسية وتمّ توصيفها بالوثيقة المتحايلة... قبل الخوض في مدى وجاهة هذا الموقف من عدمه، تبيّن للعديد من المراقبين للشأن العام أن عملية الإعلان عن مشروع الدستور في نسخته الأخيرة أثارت الكثير من نقاط الاستفهام وعلامات التعجب... فلم لم يقع التريّث إلى حين نهاية الحوار الوطني استجابة لطلب التنسيقية المكلفة بمتابعة الحوار وتضمين حزمة المفاهمات ضمن المسودّة الأخيرة للدستور توسيعا لدائرة التوافق وربحا للوقت؟ ما الضّرر لو تمّ عرض أحكام الفصل 104 من القانون الداخلي للاستشارة أمام المحكمة الإدارية قبل مضي هيئة التنسيق والصياغة بشكل أحادى في تغيير أعمال اللجان التأسيسية وما خلفته من تداعيات خطيرة؟ بما يمكن تفسير كل هذا التركيز على تمرير قانون تحصين الثورة بالتزامن مع انطلاق الحوار الوطني وإعداد مشروع مسودة الدستور الأخيرة؟ ما هو السند القانوني الذي تم بمقتضاه وضع "الأحكام الانتقالية" في وقت قياسي جدير بان يسجّل في موسوعة غينيس؟ هل تعدّ هيئة التنسيق والصياغة جهة اختصاص لتولى صياغة "الأحكام الانتقالية"؟ وهل هي بالفعل أحكاما ذات طبيعة انتقالية من وجهة نظر القانون الدستوري أم هي شكلا من أشكال التجديد الضمني للدستور الصغير؟... من الواضح أن المجلس الوطني التأسيسي نجح بشكل لافت في التأسيس للأزمات وخلق مزيدا من بؤر الاحتقان. فالعديد من الأطراف الفاعلة في رسم الملامح الأساسية للنسخة الأخيرة هي ذاتها التي تعلن صباحا مساءا وأيام الجمعة والأحد أنها حريصة كل الحرص على الالتزام بتفاهمات الحوار الوطني والتوافقات الحاصلة داخل المجلس.. هي نفسها التي تعلن تمسكها بمدنية الدولة في الفصلين الأول والثاني من مشروع الدستور والجمع بينها وبين المصدرية الدينية للدولة من خلال الفقرة الثانية من التوطئة والفصل141... هي ذاتها التي تجمع في نفس الفصل السادس بين حرية الضمير واعتبار الدولة راعية للدين وللمقدسات وغيرها من زيجات الأضداد الذي يتعذر حقيقة تفسيرها بأدوات التحليل المتعارف عليها، فإما أنها زيجات تستند إلى آليات جديدة من الفصام لم يقع الكشف عنها إلى اليوم أو إلى شكل مستحدث من استراتيجيات الاتصال والتسويق السياسي هدفها دفعك دون أن تدرى داخل متاهة شديدة العتمة تتدافع فيها عدد من المصطلحات والمفاهيم بشكل غير متجانس يستحيل النفاذ والتحرر منها، عناوينها مختلفة وعملتها واحدة يمكن اختزالها في العبارات التالية: "اتفاقي معك خارج المجلس لا يلزمني داخله..ما الضير في وضع المفهوم ونقيضه؟... تأكد أنى سأكون في ذات الوقت هنا وهناك، وبين هنا وهناك تراوح مواقفي بين التناغم مع الآخر التي تفرضه علىّ واقعيتي المفرطة والتراجع التي تغذيه تذكّراتى الاضطهادية.. في الأخير عليك الاعتراف والتعود باني"فينيق" القرن الحادي والعشرين قادر على التمظهر بمفردات عديدة لا يعلمها إلا عالم الغيب !!..." بالنتيجة تمخّضت القبة المستديرة لتنجب "مخلوق دستوري" بجينات وراثية غير محددة بالقدر الكافي، بوثيقة قزحية النّسب تتعرض اليوم لعاصفة من الانتقادات ومحلّ طعن أمام أنظار المحكمة الإدارية لتجاوز السلطة... ما العمل؟ بعد مضى قرابة ستة عشر شهرا من الانطلاق في صياغة الدستور- بكلفة أمنية واقتصادية واجتماعية لا تقدّر بثمن ومالية تخطّت عتبة الثلاثين مليون دينار- نحن أمام مفترق طرق حقيقى، فإمّا الاستمرار في انتهاج سياسة النّعامة التي يبدو أن النّعامة نفسها تخلّت عنها لمقتضيات التكيّف ومواجهة "قدر الاستفتاء" الشبه مؤكد وإمّا البحث عن مخرج مشرّف يحاول تحقيق أفضل معادلة بين ما أنجزه النوّاب داخل المجلس ونظرائهم خارجه بمعيّة مكوّنات المجتمع المدني من خلال التأليف بين مكتسبات أعمال اللجان التأسيسية -وهى عديدة لكنها تحتاج إلى إزالة بعض الشوائب عنها- والتفاهمات المنبثقة عن الحوار الوطني. عملية تأليف تصاغ وفق تصور عام جديد لكيفية عرض مشروع الدستور أمام أنظار المجلس التأسيسي تحقق الوئام المنشود بين أبناء الوطن الواحد وتعيد البريق والتألق لمخزوننا الدستوري الريادي المتجذر... المبحث الأول – مفردات المقاربة: تعتمد المقاربة على المراكمات الايجابية المسجلة داخل وخارج المجلس التأسيسي وتنطلق من فكرة التمييز دون فصل بين الدستور كمشروع مجتمعي يعكس نمط حياتي وقيمي عام يتّسم بالديمومة والاستمرار من جهة وبين الدستور كمدوّنة لتنظيم الحياة السياسية قابلة للتغيير والتحوّل من جهة ثانية. يشمل القسم الثابت للدستور على التوطئة وباب المبادئ العامة وباب الحقوق والحريات على أن يتم عرضه على المصادقة في جلسة عامة وفق الآليات المنصوص عليها بالتنظيم المؤقت للسلط، وقسم ثاني متحوّل يتضمّن جميع الاتفاقات والتفاهمات الموقّّع عليها في الحوار الوطني -منها تلك المضمّنة في مشروع الدستور في نسخته الأخيرة- ذات العلاقة بالسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية والهيئات الدستورية المستقلة والسلطة المحلية وباب الأحكام الختامية والانتقالية، مع وجوبية المصادقة عليها من قبل لجنة خاصة منبثقة من المجلس التأسيسي يتم إحداثها للغرض تضم ممثلين عن جميع الكتل والمستقلين وإدراجها دون المرور بجلسة عامة كملحقات أساسية لمشروع الدستور بنفس القوة والحجيّة. فاعتماد ثنائية الثابت والمتحول في بنية الدستور فرضه "الهولوكست السياسوى" الرهيب الذي طبع المرحلة الراهنة وعدم قدرة "الفاعلين السياسيين" على تحقيق الاختراق المطلوب في وضع جيو-سياسى محلى واقليمى غاية في التعقيد والخطورة... من بين أهم المزايا التفاضلية للمقاربة أنها تمكّن في نفس الوقت من : - عدم المساس بصلاحيات المجلس التأسيسي كسلطة أصلية، - التوفيق بين مختلف الفرقاء داخل وخارج المجلس بإعادة بناء الثقة بين مختلف مكونات المشهد السياسي والمدني من خلال الطبيعة التشاركية الفعلية للمقاربة، - تخفيف الضغط عن الجلسة العامة والنأي بها عن محرقة التجاذبات السياسية، - التضييق إلى أقصى الحدود من فرضية الالتجاء للاستفتاء...