بقلم : محجوب لطفي بلهادي ملاحظة: مقال استباقي نشر بنفس الصفحة منذ تاريخ 6 نوفمبر 2012 تحت عنوان "صياغة الدستور.. قصة تعثر مؤلمة" تضمّن تحليلا لأسباب تعثرعملية صياغة الدستور والتي لم يتمّ التفاعل معها إيجابا ممّا يؤكد للمرّة الألف تعنّت المؤسسة التأسيسية في انتهاج سياسة "لا أرى ..لا اسمع" ! ينشر المقال بعنونة جديدة محيّنة علها تجد اليوم أذانا صاغية لتدارك ما يمكن تداركه ... أمّا قبل... يبدو واضحا اليوم أنّ لحظة الصّفاء الذهني في صياغة الدستور قد تبدّدت وأنّ المساحات الاستفهامية اتّسعت والمسائل الخلافية تضاعفت في انتظار الإجابة عن السؤال الأزلى- : عن أيّ دستور نبحث؟ دستور بروح ماضوية.. أم استنساخية.. أم بمعايير دستورية حداثية متجذّرة يتفاعل داخلها المحلّي بالكوني؟؟ فالتعثّر في صياغة الدستور إلى درجة التخبّط الكامل يمكن تفسيره بالمقاربة العامة المعتمدة للصياغة التي شابتها العديد من الإخلالات المنهجية القاتلة والتي كنا قد نبهنا لها من قبل في العديد من مقالاتي السابقة باللغتين العربية والفرنسية : أولا- غياب تصوّر عام توافقي حول ماهية الدستور الذي نريد تحقيقه قبل الانطلاق الفعلي في الصياغة ممّا ألقى بضلاله اليوم على أعمال اللجان التأسيسية وأدخلها في حالة من الإرباك والتداخل والمقايضة... فالعناوين الدستورية الكبرى المتٌصلة بالتوطئة العامة والمبادئ الأساسية وتعديل الدستور تعدّ مدخلا مثاليا لتحقيق هذه الرؤية لما تطرحه من إشكالات حيوية ومصيرية عدّة منها تحديد المصادر المرجعية للدستور والمقاربات الممكنة المتصلة بمفاهيم الجمهورية والتعددية والتداول السلمي على السلطة واللامركزية والحوكمة والمواطنة... عناوين مفصلية كان من المفترض تطارحها جديّا وبعمق في جلسات افتتاحية تأسيسية عامة علنية مفتوحة على مختلف فعاليات المجتمع المدني وإيجاد توافقات حاسمة حولها عوضا عن اختزالها في عمل إحدى اللّجان التأسيسية في مكاتب شبه مغلقة مصمّمة وفق مثال هندسي انتخابي-تشريعي وبمقاولة تعمل ببطاريات الأغلبيةّ/الأقلية. ثانيا- انتهاج مقاربة تقنية تفكيكية للدستور على قاعدة تعدّد اللجان بتعدّد المحاور والأبواب الدستورية المتوقعة.. مقاربة "تايلورية" بامتياز! ما الضّيرفي ذلك؟ الضّير في مساسها بوحدة النصّ الدستوري والروح التوافقية التي ينبغي أن تطبع مختلف مراحل تأسيسه.. الضّير ثم الضّير في الخلط بين منهجية التأسيس والمقتضيات البيداغوجية للتحرير.. الضّير كلّ الضّير كونها قد تفضي بالنهاية إلى إنتاج مخلوق دستوري غريب بجينات وراثية مجهولة ا! صحيح أن التّجزئة بالمعنى "التايلورى" متطلّب انتاجى أساسي لتحقيق أفضل إدارة وتنظيم للأفراد داخل ورشة عملاقة لتركيب قطع السيارات أو الطائرات.. صحيح أيضا أنّ نفس المقاربة تبقى مستساغة بل مؤكّدة في المجال التشريعي المتشعّب والمتعدّد الرّوافد الحقوقية.. في حين أنّ الأمرمختلف تماما في السياق التأسيسي.. الوثيقة الدستورية تتمايزعن نظيراتها الحقوقية بتقاطع وتعدّد أبعادها ممٌا يستوجب في مستويات الصياغة مقاربة شاملة بفريق عمل موحّد متعدٌد الاختصاصات. فالعقد المجتمعي الجديد الذي نتطلع جميعنا لتحقيقه من خلال الدستورلا يخضع لمواصفات هندسة المركبات الفضائية بأنواعها.. فهو يتطلٌب أكثرمن مجرٌد تطابق انسيابي بين الأجنحة والهيكل بل إنّ سلامة التصميم والإقلاع تفرض حالة من التناغم الكامل في النّسق الداخلي.. فالوثيقة الدستورية تتمايز عن نظيراتها الحقوقية بتقاطع وتعدّد أبعادها ممٌا يستوجب في مستويات الصياغة مقاربة شاملة بفريق عمل موحّد متعدٌد الاختصاصات.. فمن العبثية بمكان التطرق لمفهوم وآليات الديمقراطية المحلية المنشودة دون الكشف عن النظام السياسي الواجب إتباعه.. والنظام السياسي بدوره لا يمكن تحديد معالمه بوضوح إلاّ بالاستئناس بالرّصيد الدستوري المحلي والمقارن المعبّرعنه سلفا في التوطئة العامة للدستور ومبادئها العامة الخ.. فالعملية فيزيائية بمفردات القانون تتفاعل فيما بينها مختلف الاليكترونات -أبواب ومواد الدستور- في رحلة مكوكية لا تتوقف حول النواة -التوطئة-. بالمقابل نعاين اليوم بمرارة أن المجلس الوطني التأسيسي فوّت علينا جميعا الكثيرمن الوقت وفرصة توخّي مقاربة أفقية دينامية في صياغة الدٌستور قادرة على تحقيق معادلة أفضل بين وحدة النص الدستوري من جهة ونجاعته الاستشرافية من جهة ثانية من خلال تكوين نواة صلبة متعددة الاختصاصات من النواب داخل المجلس التأسيسي على غرار العديد من التجارب التأسيسية المقارنة حيث لا تقتصر المشاركة فيها على رجال القانون فقط بل تتسع للمؤرخين والمختصين في علم الاجتماع وغيرها من الاختصاصات... نواة صلبة تضطلع حصرا بصياغة الدستورلا غير، بتركيبة عدديّة وقوة تصويتية متساوية بين مختلف الكتل السياسية مع ضمان حقّ المستقلين داخل المجلس بالمشاركة في أعمالها. مخرج متاح كان من شأنه إنقاذ العمل التأسيسي من فخ ّ التجاذبات السياسية الذي وقع فيه وتمكين بقية أعضاء المجلس التأسيسي من التفرغ الكامل لمهامهم التشريعية والرقابية العديدة الوثيقة الارتباط بالحياة اليومية للمواطن دون حرمانهم من حقهم من تداول والمصادقة على الدستور صلب الجلسة العامة. ثالثا- صياغة دستور وفق منهجية "...الورقة البيضاء أو من صفر مشروع... ولن تكون هناك أولوية لأي مشروع كان..." كما ورد في عدد من تقاريراللجان التأسيسية. فسخ بالكامل وغير مسبوق للذاكرة الجماعية التي تستبطن ملحمة دستورية رياديّة بجميع المقاييس منذ قيام قرطاج إلى سنٌ الدستور الصغير!! هل هي شكل جديد من أشكال العدمية المنهجية أم نحن أمام حالة من فقدان الذاكرة التي لا يمكن أن تقود إلاٌ إلى الاستنساخ أو استنباط نموذج هجين في أحسن الحالات وإسقاطه قسرا على الواقع؟ ! فالمقاربات التأسيسية السليمة هي في العمق تراكمية وتفاضلية تراوح بين الاستئناس بالنماذج الدستورية المقارنة والنزوع أكثر نحو الخصوصية المحلية من خلال التوظيف المعقلن للموروث الدستوري... فالوطن التي حكمت جينات تطوره وارتقائه منذ الماضي السّحيق هوس الإبداع الدستوري مبادرا بصياغة دستور "خارج عن المألوف ...عانق الامتياز" حسب عبارات أرسطو في مؤلفه "السياسة" مستطردا "اشتهر القرطاجيون بإرسائهم مؤسّسات جيدة ذات مؤهلات خارجة عن المألوف...والكثيرمن هذه المؤهلات بلغ حد الامتياز. وهو يقيم الدليل على حكمة القائمين على شؤون قرطاج بما جعل العنصر الشعبي محافظا بمحض اختياره على النظام المؤسساتي القائم. وهكذا فان قرطاج لم تعرف أبدا من الانتفاضات والنظم الاستبدادية ما يستحق الذكر- من كتاب السياسة لأرسطو- مضيفا أن "لا أثر له في الدساتير الأخرى" وأن طريقة "اختيار شيوخ قرطاج أفضل من الطريقة المعتمدة في "اسبرطه" حيث لا ينظر في اختيار الشيوخ إلى مقياس السنّ بل الفضيلة. فالشيوخ قائمون على أمور هامة فإذا كانوا غير أكفاء أضروا بالدولة كما أضر شيوخ "لاسيديمونيا" بدولتهم.".. الوطن الذي سنّ أوّل دستور على المستوى العربي-الاسلامى في العصر الحديث سنة 1861 جاء مقيّدا لسلطات الباى المطلقة وفاتحا الباب على مصراعيه لحركة وطنية تحرّكها هواجس دستورية بالأساس ثم المصادقة على دستور 1959 من قبل المجلس القومي التأسيسي لتستمر الماكينة الدستورية في العمل بوضع دستور صغير في مطلع هذه السنة والانطلاق في صياغة دستور جديد.. الوطن الذي عرف جميع أشكال الدولة والدساتير والنظم السياسية بدءا ب"ديمقراطية قرطاج "المتماهية أكثر مع النظام الجمهوري بإقرارها لمبدإ التداول على السلطة عن طريق الانتخابات خلافا لمقتضيات النظم الملكية وتجسيمها الحكيم لفكرة التوازن بين السلط بمقاربة محلية وترجمتها لمفهوم سيادة الشعب بإقرارالدورالتحكيمي لمجلس الشعب في صورة التنازع بين الأسباط (حكام قرطاج آنذاك) ومجلس الشيوخ، مرورا بتعاقب العديد من النظم الملكية توقٌفا عند محاولة إرساء نظام ملكي دستوري من خلال بعث المجلس القومي التأسيسي بأمرعلّىّ، ثم إعلان قيام الجمهورية فالمصادقة على دستور 1959 الرئاسي المعزز وما شكٌله من حاضنة حقوقية لبناء دولة حديثة والبذرة الشوكية الأولى في طريق الانفراد والاستبداد استمرت لعقود بلوغا إلى حدود وضع دستور صغير لإدارة المرحلة الانتقالية الثانية بواجهة مجلسية وبتصور برلماني بمنطوق الصلاحيات والنص. أما بعد... من المرجّح أن سوء تقدير مقتضيات وخصوصيّة المرحلة التأسيسية الرّاهنة وراء هذا الخلط "الدالتونى" بين استحقاقات التأسيس ومقتضيات ممارسة السلطة، بين التشريع والتأسيس.. حوّل السياق التأسيسى برمّته إلى سياقات تأسيسوية تحرّكها هواجس انتخابية وحسابات فئوية ضيّقة... فوطن بهذا الحجم والسخاء الدستورى المنقطع النظير يستحق منا أكثر بكثير من ورقة بيضاء !?