بعد أشهر من المناقشات داخل اللجنة المعنية وفي كواليس المجلس التاسيسي، انتظر العارفون بالقانون الدستوري أن تكون الجلسات العامة المخصصة للنظر في توطئة الدستور للمصادقة بعد حصول اتفاق من الجميع على ما جاء فيها منذ فترة، بل إن ما حملته مقدمة دستور الجمهورية الثانية قد افتقر للغة القانونية ليترك للنثر والأساليب العربية الإنشائية مجالا وهو ما فتح بابا كبيرا من التأويلات، فكانت النتيجة ظهور خلافات بشأن النقاط التي من المفترض أنه اتفق حولها سلفا بل ان البعض قد اتهم أطرافا سياسية بمحاولة تمرير أفكار معينة عبر التلاعب بالكلمات البعيدة كل البعد عمّا يحتويه أيّ قاموس قانوني. ملاحظات عديدة ساقها الخبراء حول التوطئة على غرار التراكيب اللغوية المستعملة او طولها او جمعها للكثير من المسائل التي رأوا إمكانية سنها في باقي أبواب الدستور وفصوله وليس في مقدمته، ولمزيد الحديث عما طرح وعن الغاية مما طرح تحدثت "الصباح الأسبوعي" الخبيران في القانون الدستوري أمين محفوظ وقيس سعيد للحديث عن هذه التوطئة وعن "اللعب بالكلمات". اعتراض سجل الأستاذ أمين محفوظ في بداية مداخلته اعتراضه على لجنة التنسيق والصياغة معتبرا الصياغة علما يختص به الفنيون وليس من اختصاص الساسة الممثلين في مجلس النواب،لأنها علم يخضع لمجموعة من القواعد على غرار التبويب. ويقول: "أصبحت أشك في أن هناك أناسا انتخبناهم وغيرهم يعملون على جعل الدستور حاوية لوضع كل مسألة أو قضية (دسترة المؤسسة العسكرية أو الأمنية وتجريم التطبيع..) وهو توجه يؤكد جهلا واضحا للدستور الذي جعل لتغيير العقلية السائدة وضمانة للانتقال الديمقراطي لأنه يحمي الحقوق والحريات وينظم السلط للقطع مع أيّ استبداد. وللتذكير وعبر هذا التمشي فإن الدستور لم ينجح في أيّة دولة عربية، وفي تونس نحن سائرون في تشويهه لأننا سنكوّن نصا غير دستوري. وعموما فالتوطئة غير ضرورية للدستور ومثال ذلك غيابها في الدستور الإيطالي أو الهولاندي أو البلجيكي.. لأنها تحتوي على أهداف ومبادئ دسورية". قصة جميلة ويتابع محدثنا قائلا: "عندما أقرأ التوطئة التي هي بصدد المناقشة فمن الناحية الشكلية ألمس عدم احترام للدستور لغياب غالبية النواب في الجلسة الأولى من المناقشة، أما من ناحية المضمون فهي لا تعدو أن تكون إلا قصّة جميلة مكتوبة بلغة أدبية رائعة ليست صالحة لأن تكون توطئة لدستور فعلى سبيل المثال لو كان هذا العمل مقدّما لي من أحد طلبتي فإني سأكون كريما معه في منحه العدد المناسب والذي سينحصر بين 5 و7 من 20، فاللغة غير قانونية فأيّ أثر قانوني مثلا لمصطلح "شهداء" أو "ملحمة"، "ريادة" ،"استمرارية الحياة الآمنة"، "قرار وطني"؟.. وأيّ معنى قانوني لهذه الكلمات المدرجة في التوطئة؟. كما أن "التي" و"الذي" لم يقع استعمالهما قانونيا.. خلاصة القول فالأسلوب الذي كتبت به التوطئة أسلوب بعيد وغريب عن الأسلوب القانوني، فما معنى "نحن ممثلو الشعب المنتخبين باسحقاق"؟ وبذلك نتساءل عمن له مصلحة في تمرير مثل هذه العبارات والأفكار؟. في المقابل يحاول أعضاء لجنة التوطئة عند سؤالهم عن سبب طول التوطئة أو تضمين هذه المفردات التي يثير توظيفها أكثر من استفهام، يردّون بالمقارنة مع دساتير أخرى أغلبها ميتة طواها الزمن متناسين أن المقارنة لا تصح إلا مع دساتير الدول الديمقراطية التي نجحت في إرساء نظام ديمقراطي. وضعوا التوطئة التي تفتقر إلى المرونة في نفس القوة القانونية مع بقية الفصول وفي ذلك تعسف لأنها غير ضرورية وفي ابتعادها عن الأسلوب القانوني في الصياغة فلا يمكن الحديث عن أيّة قوة قانونية". في مهبّ الريح ويشدد الخبير القانوني الدكتور امين محفوظ على أن مراحل عمل التوطئة أضاعت وقتا كبيرا، تونس في أمس الحاجة إليه حاليا حيث قال: "في كل مرّة إلا ويوجد عدد من النواب مسألة لإضاعة الوقت، فيجتهدون في العمل عليها.. ولعل آخر الأوراق وليس آخرها الحوار الوطني حيث يكون النائب مطالبا بالذهاب إلى الجهات للحديث عن الدستور وتفاصيله، فأيهما أولى للقيام بذلك الأحزاب الممثلة داخل التأسيسي وخارجه أم النواب المطالبون بالعمل داخل المجلس ربحا للوقت؟ أيّ تلاعب؟؟ من جهته يرى الأستاذ قيس سعيد أن الأمر لا يتعلق بالتلاعب بالكلمات والمصطلحات أو إدراج عدد من المفاهيم لتمرير أفكار ومواقف في التوطئة من قبل بعض الأطراف السياسي بل بالمنهجية التي تمت من خلالها مناقشة هذه التوطئة منذ أشهر وتمّ الاتفاق حولها واليوم يعاد طرح كل النقاط الخلافية وقيل أن ذلك بناء على الفصل 65 من النظام الداخلي. ويتساءل سعيد عن سبب النقاش طيلة أشهر داخل اللجان لمشروع تمّ فتحه من جديد. ويقول: "تنقسم عملية وضع الدستور إلى مرحلتين مرحلة الإعداد ثم الإقرار، وبعد أشهر من النقاش والاتفاق على كل النقاط الخلافية فلماذا تعرض على الجلسة العامة وتثار نفس المسائل التي أثيرت منذ فترة؟ ألم يكن من الأجدى عرض مشروع التوطئة للنقاش ثمّ المصادقة عليه؟. على صعيد آخر فإن التوطئة ليست نصا عاديا أي لا تحتوي على قواعد قانونية بوجه عام إذ تبين المنطلقات والمقاصد والأهداف التي تسعى السلطة التأسيسية إلى تحقيقها ولكن يمكن أن تترتب عنها جملة من الآثار القانونية خاصة في صورة النظر في دستورية بعض القوانين أو في شرعية عدد من القرارات الإدارية أو في تأويل أيّ حكم قانوني لذلك يجب أن تكون المفاهيم الواردة بها واضحة، وإن بعضها (أي المفاهيم) كان الغرض منها طمأنة الرأي العام حول نمط المجتمع فإنها بالغموض الذي يكتنفها لم تحقق الاطمئنان المنشود. فبالنسية للمساجد وتحييدها كان من الواجب عدم إدراجها في التوطئة التي تعدّ مقدمة لنص قانوني ومكان هذه المسائل في نصوص أخرى بالدستور. إن المعلن من خلال لجنة التوطئة بخصوص عملها هو أن التوطئة ستأخذ حظها من النقاش لكنها أخذت ذلك وزيادة في اللجنة وإما إذا تحول النقاش في حدّ ذاته إلى هدف فهذا ما لا يبعث على الارتياح". جمال الفرشيشي
بدعوة من المجلس الانتقالي أمين محفوظ يحاضر في ليبيا علمت "الصباح الأسبوعي" أن الأستاذ والخبير في القانون الدستوري أمين محفوظ قد تلقى دعوة رسمية من قبل المجلس العام الليبي المنتخب لإلقاء محاضرة في طرابلس يوم 7 نوفمبر الجاري أمام اللجنة الدستورية والقانونية حول المعايير الواجب مراعاتها في اختبار أعضاء الهيئة التأسيسية.