نيو أورليانز - لويزيانا - من مبعوثتنا: آسيا العتروس ليس الغرض من استعراض مسيرة حياة ونجاح فلسطيني دفعته قساوة الحياة للهجرة إلى أمريكا بحثا عن لقمة العيش، لمجرد الاشهار أو التباهي، فحياة الفلسطينيين المهاجرين زاخرة بالتضحيات وبالنجاحات، ولكن أن يكون في أطوار الحكاية، التي انطلق صاحبها من الصفر ليتحول إلى رجل أعمال ناجح في بلاد العم سام، ما يمكن أن يحيي الأمل في نفوس الكثير من الشباب العربي التائه اليوم بحثا عن بوصلة تقوده إلى الخلاص في زمن انهيار القيم والمبادئ وهيمنة الانتهازية إلى درجة انتشار الرداة.. وعسى أن يكون فيها أيضا ما يمكن أن يدفع بتلك الفئة من الشباب، التي اختارت الانتحار بسبب الفقر أو البطالة والبؤس، إلى أن تنظر مليا فيما تمتلكه من طاقات مهدورة وقدرة على الحياة لتستعيد إرادتها المُصادرة وتصنع من ضعفها قوة.. وعسى أن يكون فيها أيضا لدى تلك الفئة من الشباب الذين يُدفعون إلى الموت والفناء في سوريا ما يدفعهم إلى اعادة النظر في أولوياتهم وتأمُّل معنى الجهاد من أجل الحياة والاستثمار في الأفضل. وأما الغرض الثاني من استعراض حكاية فلسطيني في أمريكا فهو لا ينفصل بالتأكيد عما سبق.. ذلك أن فلسطين وإن غابت عن اهتمام العالم اليوم، تظل حاضرة وتبقى جزء لا يتجزأ منا جميعا ولا يمكن أن تنفصل عن تفكيرنا وعن عقولنا وقلوبنا أينما كانت وجهتنا ... حكاية نجاح الفلسطيني في أمريكا تؤكد مجددا أن الإرادة الفلسطينية وإن فترت فإنها لا تزول، وأن حدود تلك الإرادة مهما تراجعت لا تعترف بالمستحيل، بل غالبا الفلسطيني، كما العراقي واللبناني والتونسي والمصري، إذا ما توفرت لديهم الإرادة، غالبا لا يمرون إلا وقد تركوا بصماتهم في المجتمعات التي ينتمون إليها. لقد كانت الصدفة وحدها وراء اللقاء الذي جمعنا بمدينة نيو أرليانز بولاية لويزيانا مع محمد سالم «أبو ماهر» المهاجر الفلسطيني أصيل المزرعة الشرقية برام الله بالضفة الغربية المحتلة والذي أجبرته حرب 67 -أو النكسة- على اللهث وراء لقمة العيش بعيدا عما تبقى من أرض فلسطين المغتصبة، فاستقر به المقام في هذه المدينة بعد أن طاف ب22 ولاية أمريكية قبلها في مطاردة الحظ قبل أن يدرك أن ضريبة النجاح في هذا البلد تمر عبر الاجتهاد والابتكار والتضحية ولا شيء غير ذلك. أبو ماهر -الذي ابيضّ شعره في الغربة- دفع بأبنائه إلى عالم التجارة، وقد كان نور، ابنه الأصغر البالغ من العمر 17 سنة، معه باعتبار انطلاق فترة العطلة الصيفية التي يدخل فيها أغلب الشبان الأمريكيين تجربة العمل الصيفي المؤقت استعدادا للسنة الجامعية القادمة. نور يشعر بالخيبة لعدم زيارته فلسطين هذا العام وهو يشعر بالحنين إلى جدته وخبزها الذي تعده له كل صباح... نور الذي حدثنا بعربية سليمة يشدد على أن والده كان حريصا على أن يتعلم، كبقية إخوته، اللغة العربية، وهو وإن كان غير متأكد من العودة للاستقرار في فلسطين، فعلى قناعة بأن على الفلسطينيين في أمريكا مسؤولية مهمة في دعم الفلسطينيين بالداخل ... حكاية أبو ماهر بدأها وحيدا منذ 1969 في رحلة مع المجهول أملا في الأمن والاستقرار والنجاح بعد أن سدت أمامه المنافذ في فلسطين، آلت إلى الاستقرار في أمريكا محاطا بأحد عشر من الأبناء والبنات وغيرهم من الاحفاد. إنها حكاية من الحياة من شأنها أن تغنيك عن كل تصريحات السياسيين والديبلوماسيين والسفسطة كلما تعلق الأمر بالسياسة الخارجية الامريكية وأولويات الإدارات الامريكية المتعاقبة إزاء قضية السلام المتدحرجة إلى الأسفل في الشرق الأوسط... بكلمات لا تخلو من المرارة ولكنها محملة بالكثير من الأمل والإصرار على النجاح والاستمرار في زمن بات فيه اليأس والقنوط والفشل عملة سائدة مسيطرة على نفوس مختلف مكونات الشعوب العربية، حدثنا أبو ماهر عن سر نجاحه وعن إصراره على أن يكون لأبنائه موقعهم ومكانتهم بين مختلف الأقليات المجاهدة في الحياة بحثا عن مستقبل أفضل في البلد الذي استقروا به... نجاح، ولكن ... أبو ماهر اليوم وبعد أكثر من أربعة عقود من العمل والجهد، يواصل المسيرة محاطا بأبنائه وبناته ال11 الذين ولدوا ونشأوا وتعلموا في أمريكا ولكن دون أن ينسلخوا عن جذورهم وأصولهم الفلسطينية... «هم أمريكيو الهوية»، يقول أبو ماهر، ولكنهم فلسطينيو الهوى يتقنون العربية كإتقانهم للأنقليزية، وهو يصر أيضا على أن ينقل ذلك إلى أحفاده الذين حملوا حب فلسطين في قلوبهم وعقولهم . في أحد المحلات الفاخرة الواقعة بأحد أهم شوارع مدينة نيو أورليانز، تصادفك صورة مدينة القدس ومعها قبة الصخرة وقد احتلت موقعا بارزا لا تخطئه العين، تغازل كل من يتطلع اليها وكأنها تقول في كبرياء وأنفة وتحد: «نعم، هنا للقدس العربية الفلسطينية موقع وحكاية.. نعم هناك في بلاد العم سام من يحمل راية فلسطين عاليا ويردد أن فيها شعبا يتوق للحرية والحياة في زمن يبدو أن الجميع تناسى فيه هذا الحق المشروع للفلسطينيين. يقول أبو ماهر أنه وصل جنوب أمريكا في 15 فيفري 1969، وكان في جيبه أربعون دولارا... استقر في البيرو في البداية وعمل في مصنع للقماش هناك ولكنه بعد عام ونصف قرر الرحيل بحثا عن فرصة أفضل في الحياة. قدم طلبا للحصول على تأشيرة سياحية إلى الولاياتالمتحدة فكان أن حالفه الحظ هذه المرة، وبدأ رحلة جديدة في العمل والشقاء وانطلق في مغامرة تجارية، كان يبيع على الطرقات كل ما يمكنه الحصول عليه، واستمرت حياته على هذه الوتيرة إلى أن حقق في أحد الأيام ربحا بخمسين دولارا بعد تسديد كل ما عليه. وشاءت الصدفة أن أحد الأصدقاء الفلسطينيين كان يستعد للعودة إلى البلد فقام بتسليمه تلك الخمسين دولار ليعطيها إلى والده، وكان ذلك أول مبلغ استطاع توفيره. ويستطرد أبو ماهر قائلا أنه عاد بعد ذلك إلى فلسطين لأول مرة سنة 1974 ليتزوج من فلسطينية وينجب منها أحد عشر ولدا وبنتا يعيشون اليوم معه في نيو أورليانز. أولاده وأحفاده هم قبيلته وعشيرته التي يشترك معها في بناء ثروته ونجاحه في امتلاك عديد المحلات التجارية الفاخرة في الولاية... فلسطين عصيّة عن النسيان عن حياته كمواطن أمريكي من أصل فلسطيني، لا يتردد أبو ماهر في القول أنه يعتز بمواطنته ويشعر أن له حقوقه وعليه واجباته وأن القانون وحده هو سيد الموقف عندما يتعلق الأمر بالعدالة، وهو لذلك لا يتأخر عن ممارسة حقه الانتخابي ودعوة الجالية العربية للقيام بذلك واقتحام الساحة السياسية ومنافسة بقية الأقليات. وهو يقول أن الوعي في صفوف العرب الأمريكان اليوم هو أفضل مما كان عليه من قبل وأن للنادي العربي-الأمريكي والنادي الفلسطيني-الأمريكي نشاطاته الاجتماعية والسياسية لا سيما بين العرب المسلمين والمسيحيين مشددا على أن «لكل دينه وربي يعينه، ولكن عندما تكون المصلحة العليا واحدة فهناك دائما استعداد لتجاوز الانقسامات». عن أية ممارسات عنصرية إزاء العرب في أمريكا، ينفي أبو ماهر أن يكون تعرض لأي نوع منها ويشير إلى أن مسلمي نيو أورليانز اليوم تمكنوا من افتتاح سبعة مساجد وأنه يجري حاليا توسيع مسجد التوبة الذي ستكون مساحته 15 آلاف متر مربع استعدادا لشهر رمضان المبارك.. كل ذلك بتمويلات وتبرعات من الجاليات المسلمة في المدينة. أما عن تداعيات هجمات 11 سبتمبر، فيقول محدثنا أنه لم يتعرض إلى أية محاولات انتقامية وأنه لم يسمع في نيو أورليانز عن ممارسات من هذا القبيل ولكنه لا ينكر أن تكون حدثت في نيويورك أو غيرها. عما يقدمه الأمريكيون الفلسطينيون لأهل البلد تحت الاحتلال، يقول أبو ماهر أنه حريص على عودة أبنائه في العطل إلى فلسطين ليفتحوا بيت العائلة ويقضوا بشكل منتظم بضعة أسابيع على أرض فلسطين ويدركوا قيمة الأرض ومكانتها وجسامة التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني حتى الآن، وهذه العادة تكاد تكون تقليدا لدى أغلب الفلسطينيين في أمريكا الذين يصرون على هذا التواصل... وعن المشهد في دول الربيع العربي، يقول أبو ماهر أنه ليس بمعزل عما يحدث في تونس وليبيا ومصر وفلسطين وسوريا وأنه سمح لنفسه أن يحلم مع التونسيين والمصريين وغيرهم من الشعوب العربية بأن الصحوة التي تأخرت في العالم العربي قد بدأت تتحقق وأن الثورات السلمية التي أسقطت تلك الأنظمة الدكتاتورية على موعد مع التاريخ لتستلم مصيرها وتقرر مستقبلها، شأنها في ذلك شأن مختلف دول العالم، ولكن ذاك الطموح والأمل سرعان ما بدأ يتراجع ليترك محله للشكوك والغموض والمخاوف... أبو ماهر يتابع الاخبار لحظة بلحظة ويقول أنه اذا تحققت تجربة الانتقال الديموقراطي فستكون الفائدة الحاصلة للجميع، وأنه إذا تأخر النجاح فستحل الكارثة بالجميع.. لكنه يستطرد: حتى الآن ليس هناك ما يثبت أننا بصدد السير إلى الامام، وما نراه حتى اللحظة هو عكس مصالح الشعوب وضد الأهداف التي ناضلت لأجلها وسالت دماؤها…