في خضم الأحداث المستعرة وغياب الآفاق وتفاقم الغموض وتراجع الآمال في العالم العربي الذي بات أشبه بالجسد العليل بعد أن استعصت كل الأدوية في علاج أورامه المتراكمة، تكاد الأحداث المتواترة، من مصر الى سوريا وليبيا وتونس والبحرين، أن تحجب عن العالم الاحداث اليومية المتفجرة في فلسطينالمحتلة حتى باتت استباحة الأقصى وتدنيسه في شهر رمضان من طرف المستوطنين الذين حولوه الى ملعب مفتوح، ومصادرة الأراضي ونشر المستوطنات وأسر الأطفال واعتقال النساء وحرق الأشجار وهدم البيوت، من الأحداث المألوفة التي لا تحرك السواكن ولا تثير في النفوس الهواجس أو الانشغال.. كل ذلك في الوقت الذي ينصرف فيه جيل من هواة السياسة والمتصارعين على السلطة الى معاركهم اليومية وصراعاتهم الحزبية وتناحرهم وحروبهم الكلامية دفاعا عن الكراسي التي تبوّأوها لخدمة الأوطان والشعوب فباتت منبرا لخدمة المصالح الضيقة وتسابق المشايخ والأيمة في إصدار الفتاوى وتكفير البشر وتوزيع صكوك البراءة والتفرغ لتعداد مناقب تعدد الزوجات أو فوائد ختان البنات حينا ونكاح الجهاد حينا آخر. بيانات الإدانة والتنديد بجرائم الاحتلال التي كانت تعد أضعف الإيمان للحكومات والأنظمة العربية بدورها غابت ولم يعد لها موقع يذكر بعد أن تراجعت القضية الفلسطينية عن أغلب المنابر السياسية والإعلامية، وكأن ألسنة الحكام الجدد قطعت ففقدوا القدرة على الكلام عندما يتعلق الامر بالجرائم الإسرائيلية الموثقة في كل شبر من الأراضي المحتلة في زمن الضعف والامتهان... ندرك جيدا أن الأوضاع التي يعيش على وقعها الحكام العرب مع حالة المخاض العسير في أعقاب الثورات العربية وتفاقم الأزمات والتحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى الفكرية، زادت المشهد تعقيدا وغيبت المعاناة الفلسطينية المغيبة أصلا عن الاهتمام، والأرجح أن الانصراف عن الاهتمام بإعادة القضية الفلسطينية إلى سلم الأولويات لن يكون وشيكا في ظل أنظمة وحكومات لا تزال تبحث عن شرعيتها المفقودة وتفتقر بالتالي للقدر المطلوب من الكفاءة وبعد النظر ناهيك عن أي خطط استراتيجية انية أو مستقبلية لوضع حد لأطول وأفظع مشاريع الاحتلال المتبقية في عالم اليوم. ولا شك أن الشعب الفلسطيني وهو الذي خبر على مدى عقود الاحتلال الطويلة حدود وأوهام الإرادة العربية - أكثر من يدرك اليوم وأكثر من أي وقت مضى أنه لا مجال للتعويل أو الرهان على تضامن عربي صادق ووفي في مواجهة مخططات الاحتلال البغيض . ولعله من المهم الإشارة في هذا الاتجاه الى قرار دول الاتحاد الأوروبي نهاية الشهر الماضي "بحظر أي تمويل أو تعاون أو تقديم منح او مساعدات الى جهات تعمل في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية كما في القدسالمحتلة أو في الجولان"، وهي بذلك تعلن مقاطعة شاملة للمنتوجات الاسرائيلية يفترض أن تدخل حيز التنفيذ خلال الساعات القليلة القادمة. كما يشدد قرار الاتحاد الأوروبي على أن أي اتفاق مع إسرائيل مستقبلا لن يشمل المستوطنات باعتبارها غير شرعية وأنها بالعودة الى حدود 1967 تعد أراض فلسطينية تحت الاحتلال . خطوة مهمة، ما في ذلك شك، كان لها دورها في جنوب افريقيا عندما أقر المجتمع الدولي مقاطعة نظام الفصل العنصري، وهي خطوة ستحسب للاتحاد الأوروبي وسيكون له وقع أكبر اذا ما تم تنفيذها على أرض الواقع ولم يقبل الاتحاد الأوروبي بالرضوخ الى الضغوطات والاملاءات والمساومات الاسرائيلية وبالتالي بالوقوع مجددا تحت ابتزازات لعبة الضحية الأبدية وعقدة الضمير إزاء الهولوكوست ومحرقة اليهود... المقاطعة الاقتصادية بالإضافة الى المقاطعة الاكاديمية التي كانت أعلنتها عديد الجامعات الأوروبية وما سببته من إحراجات لسلطات الاحتلال الاسرائيلية تبقى ورقة ضغط لا يستهان بها وسيكون من الخطإ، بل من سوء التقدير، تجاهل هذا القرار أو التقليل من شأنه خاصة وقد بدأت حملات الدعاية الاسرائيلية ومحاولات اجهاضه تطفو الى السطح ... لقد آن الأوان للتهديدات الأوروبية بمقاطعة إسرائيل أن تتحول إلى حقيقة وقد كان بالإمكان أن يكون للأحداث والتحولات التاريخية المتسارعة في دول الربيع العربي وقعها الإيجابي على الواقع الفلسطيني، ولكن ما سجلته الأحداث من مكابرة وإصرار على الخطإ وافتقار للنوايا الواضحة وغياب لخارطة طريق تضمن مسار الانتقال الديموقراطي وموقع الأجيال القادمة فيه، ساهم الى درجة خطيرة في مزيد الانقسامات والتشتت وتغليب الممل على المهم الى أن هانت الأنفس والدماء والأوطان على أهلها...