النوّاب حول ملف تدفق «المهاجرين الأفارقة»...تهديد للأمن القومي والحلول تشاركية    لشبهة تبييض الأموال في جمعية «منامتي» ...الاحتفاظ بسعدية مصباح    مصر: تعرض رجال أعمال كندي لإطلاق نار في الإسكندرية    يوميات المقاومة.. خاضت اشتباكات ضارية وأكّدت جاهزيتها لكل المفاجآت .. المقاومة تضرب في رفح    العدوان على غزة في عيون الصحف العربية والدولية ... المقاومة تتمتّع بذكاء دبلوماسي وبتكتيك ناجح    اتحاد تطاوين.. سامي القفصي يعلن انسحابه من تدريب الفريق    قبل النهائي الإفريقي .. حرب مفتوحة بسبب التحكيم    فظيع في القيروان .. يستعين به صاحبه لجمع القوارير البلاستيكية ..مجهولون يحرقون حصانا مقيدا وعربته المجرورة    بعض مناضلي ودعاة الحرية مصالحهم المادية قبل المصلحة الوطنية …فتحي الجموسي    موفى أفريل: ارتفاع عائدات السياحة بنسبة 8% بالمائة    عاجل/ طلب عروض لإيواء مهاجرين بنزل: بطاقة ايداع ضد رئيس جمعية ونائبه    اتحاد الفلاحة بمدنين.. الأضاحي تفي بحاجيات الجهة ويمكن تزويد جهات أخرى    بنزرت: تنفيذ قرارات هدم بهذه الشواطئ    ولاية رئاسية ''خامسة'' : بوتين يؤدي اليمين الدستورية    الليلة: أمطار غزيرة ورعدية بهذه المناطق    Titre    المهديّة :ايقاف امام خطيب بسبب تلفظه بكلمة بذيئة    من الحمام: غادة عبد الرازق تثير الجدل بجلسة تصوير جديدة    لأول مرة في تونس.. البنك الفلاحي يفتح خط تمويل لمربي الماشية    نحو صياغة كراس شروط لتنظيم العربات المتنقلة للأكلات الجاهزة    تالة: ايقاف شخص يُساعد ''المهاجرين الافارقة'' على دخول تونس بمقابل مادّي    المتلوي: حجز 51 قطعة زطلة بحوزة شخص محل 06 مناشير تفتيش    دوري أبطال أوروبا : ريال مدريد الإسباني يستضيف بايرن ميونيخ الألماني غدا في إياب الدور نصف النهائي    عاجل : صحيفة مصرية تكشف عن الحكم الذي سيدير مباراة الاهلي و الترجي    سليانة: السيطرة على حريق نشب بأرض زراعية بأحواز برقو    هام/ الليلة: انقطاع المياه بهذه المناطق في بنزرت    وزير السياحة : قطاع الصناعات التقليدية مكن من خلق 1378 موطن شغل سنة 2023    سليانة: تخصيص عقار بالحي الإداري بسليانة الجنوبيّة لإحداث مسرح للهواء الطلق    ليبيا تتجاوز تونس في تدفقات الهجرة غير النظامية إلى إيطاليا في 2023    انقلاب "تاكسي" جماعي في المروج..وهذه حصيلة الجرحى..    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة "سينما تدور" (فيديو)    تونس : 6% من البالغين مصابون ''بالربو''    فتوى تهم التونسيين بمناسبة عيد الاضحى ...ماهي ؟    وزارة التربية تنظم حركة استثنائية لتسديد شغورات بإدارة المدارس الابتدائية    المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك: "أرباح القصابين تتراوح بين 15 و20 دينار وهو أمر غير مقبول"    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    لاعبة التنس الأمريكية جيسيكا بيغولا تكشف عن امكانية غيابها عن بطولة رولان غاروس    الفنان بلقاسم بوقنّة في حوار ل«الشروق» قبل وفاته مشكلتنا تربوية بالأساس    الرابطة الأولى: النجم الساحلي يفقد خدمات أبرز ركائزه في مواجهة الترجي الرياضي    في قضية رفعها ضده نقابي أمني..تأخير محاكمة الغنوشي    الكشف عن وفاق إجرامي قصد اجتياز الحدود البحرية خلسة    حوادث: 13 حالة وفاة خلال يوم واحد فقط..    رئيسة قسم أمراض صدرية: 10% من الأطفال في تونس مصابون بالربو    البطولة الانقليزية : كريستال بالاس يكتسح مانشستر يونايتد برباعية نظيفة    إشارة جديدة من راصد الزلازل الهولندي.. التفاصيل    عاجل/ هجوم على مستشفى في الصين يخلف قتلى وجرحى..    عاجل- قضية الافارقة غير النظاميين : سعيد يكشف عن مركز تحصل على أكثر من 20 مليار    سيدي حسين: مداهمة "كشك" ليلا والسطو عليه.. الجاني في قبضة الأمن    أولا وأخيرا .. دود الأرض    مشروع لإنتاج الكهرباء بالقيروان    في لقائه بخبراء من البنك الدولي: وزير الصحة يؤكد على أهمية التعاون المشترك لتحسين الخدمات    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024 الى 2ر7 بالمائة في ظل ارتفاع مؤشر أسعار الاستهلاك    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    العمل شرف وعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من يهودية الدولة حتى شارون! :المؤلف: د. عزمي بشارة
نشر في الفجر نيوز يوم 31 - 12 - 2007


إصدار: دار الشروق
يحتوي الكتاب على 390 صفحة في مقدمة، خمسة أبواب، وستة عشر فصلاً. وفي نهاية كل باب قائمة بالهوامش. كما يحتوي على قائمة المراجع العربية والإنكليزية والصحف والمجلات الإسرائيلية، وقائمة بالمصادر الوثائقية.
المقدمة:
يعرّف المؤلف كتابه، ويحدّد الهدف من تأليفه على أنه تحليل لحالة خاصة هي حالة "إسرائيل". ولهذا الغرض يحيل الكاتب بنية الديموقراطية اليهودية إلى عناصرها المكوّنة. والكتاب مساهمة نقدية واعية لفهم "إسرائيل" (مجتمعاً ودولة) استعمِلت فيه أدوات العلوم الاجتماعية التحليلية ؛ وإن كان يتضمن بعداً إيديولوجياً، فهو بالتأكيد لا يزيد عن البعد الإيديولوجي القائم في الأبحاث الأكاديمية الإسرائيلية.
الكتاب ليس رداً على المتخصصين الإسرائيليين ولا على المستغربين العرب، ولا هو إثبات بأننا قادرون على أننا نحلّلهم كما يحلّلوننا. والكاتب معني بالبحث وليس بلعب دور الباحث ولا بتوخّي اللياقة السياسية "Political Correct" لتحميه من السخرية أو من التقييم العلمي الصارم. كما أنه ليس كتاباً في التأريخ للفكرة الصهيونية. فهدف الكاتب أن يوفّر زاوية نظر إلى مجتمع مركّب عبر رؤية شاملة تستخدم الأنظمة المعرفية الاجتماعية المطلوبة في البحث حسب طبيعة الموضوع دون التعصب لمنهج إيديولوجي، وبتحليلٍ أكثر صرامة للمجتمع والدولة في "إسرائيل"؛ وبصورة أكثر علمية بواسطة استعراض إشكاليات ديموقراطيتها التي يعتبرها المؤلف حالة ناقصة في الأبحاث العربية، لأن إحدى كوارث البحث العلمي العربي هي إعاقة التراكم المعرفي كنمطٍ سلوكي يكاد عرفاً وعادةً، مع اعتبار الباحث نفسه أول من كتب حول موضوع البحث.
بقي أن نقول أن د. بشارة واعٍ لموقعه الذي منه ينتقد المجتمع و"الدولة" في "إسرائيل"!
الباب الأول: الفصل الأول: تناقضات الديموقراطية اليهودية
ليست "إسرائيل" دولة دكتاتورية ولا هي دولة يحكمها العسكر، ولا دولة حزب واحد، وإنما هي دولة تتوفر فيها انتخابات برلمانية عامة ونسبية، إذ تعتبر البلاد كلها منطقة انتخابية واحدة. ويتم التصويت لقوائم حزبية وليس لأفراد. وفي حال سيطرة أحزاب وطنية غير طائفية الطابع تكون الطريقة المثلى في عملية بناء أمة بواسطة الدولة "Nation Building".
كانت هناك محاولات عديدة لتغيير الطريقة الانتخابية، لكنها كلها فشلت في إقناع الناخب الإسرائيلي بأفضليتها. وفي الوقت الحاضر، الانتخابات برلمانية بحيث ينتخب البرلمان رئيس الحكومة. أما منصب رئيس الدولة فهو منصب تمثيلي طقسي. ويقوم في "إسرائيل" نظام فصل السلطات، ترافقه آليات توازن ورقابة فيما بينها.
القضاء مستقل، ولا يزال يطوّر هذه الاستقلالية متسلّحاً بقوانين أساسية تعتبر بمثابة دستور يستند إليه القضاء للنظر في مشروعية أي قانون يصدر في حال طلِب منه ذلك، الأمر الذي أدى إلى مواجهات حادة داخل المجتمع الإسرائيلي. ومن إشكاليات الديموقراطية اليهودية المعاصرة: الصراع حول العلاقة بين الدين والدولة؛ الصراع على تطبيق الحريات أو توسيعها؛ والصراع بين مساواة المواطنين ويهودية الدولة.
أما من ناحية حرية التعبير، فتسود في "إسرائيل" حرية صحافة وتعبير عن الرأي في إطار حقوق الفرد، لكنها تواجه حالة تجنيد وتجييش في القضايا الأمنية والوطنية، وفي مواجهة أية حالة نقد من الخارج، وعند التعامل مع الصحفيين الأجانب والعرب الذين يغطّون ما يجري في المناطق العربية المحتلة.
وتشكل بوتقة الصهر في الجيش الإسرائيلي والإيديولوجية الصهيونية دبقاً اجتماعياً لاصقاً، رغم الفرز الطبقي الذي ازداد اتساعاً لتبلور المجتمع الإسرائيلي كمجتمع ذي هوية ثقافية جامعة؛ الأمر الذي يؤدي إلى تعددية إسرائيلية سياسية -ضمن الإطار الصهيوني- متمكنة ومميّزة عن التنافس العشائري أو الطائفي أو المذهبي الذي يؤدي إلى حرب أهلية أو "ديموقراطية توافقية".
ودعماً لهذا الرأي، يستعرض المؤلف دراسة إحصائية شاملة مقارنة حول أوضاع الدول الديموقراطية ، ومنها المساءلة، التمثيل، الاستقرار، مدى التمثيلية، حقوق المواطن، الحريات، الفساد، والصحافة. تعطي الدراسة علامات متدنّية ل "إسرائيل" في موضوع المساءلة (بسبب تدخل الجيش في عملية صنع القرار)؛ وحتى في موضوع حقوق الإنسان والحقوق المدنية (بسبب خرق حقوق العرب في الضفة الغربية وقطاع غزة)؛ كذلك الأمر في مقياس تطبيق المساواة الاجتماعية. وتحتل "إسرائيل" مكانة متوسطة في درجة استقلال "أجهزة تنفيذ القانون" والحقوق الاقتصادية والسياسية والتمييز الثقافي، ومكانة عالية في نسبة التمثيل في البرلمان ومن ناحية آليات المراقبة والموازنة في "الدولة". وتبيّن الدراسة أن الديموقراطية الإسرائيلية تسجّل انخفاضاً مستمراً في ثقة الجمهور. كما تكشف أيضاً أن تعريف المساواة للعرب في دولة اليهود يتلخص في "منحهم" الحقوق بهذه الدرجة أو تلك، ولا يقصد بالمساواة تلك المساواة الكاملة بين المواطنين بغضّ النظر عن انتماءاتهم؛ ف "إسرائيل" لا تفصل بين الأمة والقومية والدين، لذا لا يمكنها أن تفصل بين الدين والدولة. هنا تكمن إشكاليات أخرى مثل ثقافة الاستيطان التي تعيق الديموقراطية. كذلك اعتبار الدولة ليست دولة يهودية بحكم الأغلبية بل دولة اليهود، أي دولة كثيرين ليسوا مواطنين فيها. وهنالك المنظّرون المحافظون الجدد في "إسرائيل" بغضّ النظر عن خلفياتهم وتطلعاتهم، فهم يرون في هذه الدولة أنها حالة طبيعية ل "دولة قومية". هذا التنظير يختلف في تبريراته واستناده ليخلص في النهاية إلى أن "إسرائيل" حالة عادية علمانية بين الدول وليست حالة ثيولوجية"، مع أن دليلهم ثيولوجي يستند إلى التاريخ المقدس "Sacred History"؛ فهم يرون أنفسهم كقومية عابرة للتاريخ والجغرافيا مع عدم لحاظ التناقض المستتر بين السيادة واليهودية الذي يراه الناظر من الخارج. هذا التناقض تاريخي وبنيوي فهو يتعلق بطبيعة "إسرائيل" الكولونيالية، التي قامت كحالة استعمارية أو في إطار نشاط استعماري، الأمر الذي لا ينمّي الديموقراطية. فالكيان "أبرتهايد كولونيالي" أخذ منها أسوأ ما فيها.
الفصل الثاني : دولة يهودية وديموقراطية !
كتب بن غوريون: "ليس لنا أن نفصل الدين عن الدولة، فهنالك وحدة مصير بين دولة "إسرائيل" والشعب اليهودي"؛ أي أن هناك تطابقاً كاملاً بين الدين والقومية كما عرّفتها الصهيونية. لهذا يستخدم في "إسرائيل" مصطلح الشعب اليهودي كمرادفٍ للدين اليهودي.
لذا، وإن اختلفت خلفيات الباحثين الإسرائيليين في شؤون ديموقراطيتهم ودولتهم، فاللغة المستعملة دائماً واحدة: لغة مستوحاة من الفكرة والشرع اليهودي. وبمعنى آخر، هم يستعملون نفس المصدر بأساليب مختلفة ليصلوا إلى نتائج هي في الظاهر علمانية، متدينة، قومية، صهيونية، إلخ ... أما في الجوهر فهي واحدة [أرض "إسرائيل" وعد إلهي، وقيام هذه الدولة تحقيق لهذا الوعد. لذا، فهي وجود مشروع]
فالعلمانيون منذ قبل نشوء الدولة اليهودية، يقولون على لسان العلماني أوسيشكين إن "المطلب التاريخي للأمة اليهودية؛ أن تعاد إلى حدودها في الأرض التي وعدت بها العناية الإلهية بني "إسرائيل" قبل أربعة آلاف عام". ولهذا تبنّى هؤلاء مصطلحات وأفكار الديانة اليهودية ومخزونها الديني للخلاص، إلى تعبيرات وأشواق وتطلعات تاريخية استعملتها الصهيونية قومي-سياسي.
أما الحركات الدينية الأرثوذكسية، فقد اعتبرت في البداية الحركة الصهيونية حركة مسيانية كاذبة "مسيحاً كاذباً"، الذي عاد وتحوّل إلى مصدر لتعزيز ارتباط الدين والحركات الدينية بالصهيونية، باعتبار أن الخلاص ذاته هو الرابط!
من الناحية القانونية، ليس لدى "إسرائيل" دستور بل "القوانين الأساس"، وهي عملياً فصول منفصلة في الدستور ما يعرف عملياً بسنّ تدريجي للدستور حسبما تقضي الحاجة. وللمحكمة العليا الحق بالنظر في أي قانون عندما يطلب منها ذلك. عندما يكون هذا القانون بمثابة دستور بجوهر ديني، تصبح مراجعته في المحكمة عملية مهمة جداً، ليس فقط لجهة إثباته أو ضربه من ناحية اللغة والاستناد اللذان يشكّلان هذا الرد؛ والجدير بالذكر أنه بغضّ النظر عن الانتماء الفكري للقاضي اللغة المستعملة والاستناد واحد؛ وبالنتيجة فالهدف واحد: الحفاظ على "إسرائيل": أرض اليهود، دولة صهيونية، دولة اليهود، دولة يهودية وديموقراطية.. إلخ، أياً كان تعريفهم لهذه الديموقراطية أو نظرتهم إليها. فباراك الليبرالي يقول:"نحن دولة شابة فيها شعب قديم عاد إلى وطنه ... بداية الخلاص، تحقيق الرؤيا الصهيونية ..." أما مناحيم إيلون فيركز على مدى احتياج المحكمة للقانون العبري والشريعة اليهودية عند وجود ثغرة قانونية. فالمحكمة العليا إذاً، ليست إسرائيلية فحسب،بل هي بشقّيها الليبرالي والمحافظ، إذا صح التعبير، تحسم موقفاً أيديولوجياً لصالح الصهيونية، إنها محكمة صهيونية.
أما الأكاديميون، فيؤكدون أيضاً، بغضّ النظر عن خلفياتهم، على أن "إسرائيل" هي دولة اليهود أنها ديموقراطية، وهذا من الأفكار المؤسسة لدولة "إسرائيل" . العلمانيون منهم يقولون بأن فكرة الهوية العلمانية في الشتات. وعلى رأي رون جافيزون: لا يمكن إلا أن تكون إندماجية؛ والهوية اليهودية لا يمكن إلا أن تكون دينية. حتى هرتسل العلماني في أوج علمانيته لم ينجح في إيجاد تعريف ليهودية الدولة غير التعريف الديني.
هذا النقاش على هوية الدولة تعدّى حدودها إلى الساحة الدولية، حيث قال الرئيس الأمريكي بوش" اليوم أمريكا ملتزمة بقوة بأمن "إسرائيل" كدولة يهودية مفعمة بالحيوية". وتأتي في السياق نفسه مطالبة الفلسطينيين في قبول شروط خارطة الطريق: "المطالبة بتنازل فلسطيني عن كل ادعاء بحق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى داخل "إسرائيل" ... ويطلب من الفلسطينيين أن يعلنوا أن "إسرائيل" دولة يهودية". وكما يعبّر شارون: "يوجد للمواطنين العرب حقوق في البلاد، وليس على البلاد". أي إن مفهوم المساواة غير ممكن، لأن مفهوم الحقوق معطوب أصلاً في "إسرائيل".
إن الدولة العبرية تجد نفسها، إذا أرادت المحافظة على يهوديتها، في حالة تناقض مستمر مع الديموقراطية وقيمها.
الفصل الثالث: دوّامة الدين في الدولة تاريخياً
أعطت أوروبا العصر الحديث نموذجاً كلاسيكياً لعملية العلمنة. هناك عدة تعريفات وتوجّهان أساسيان، الذي يهمنا منهما ما رافق عملية فصل الدين عن الدولة والعلم ... أي فصل الدين عن الأمة، لوجود أصلٍ مشترك بين الدين والأمة، مع نقل الدين من المجال العام إلى الخاص. وقد نشأ عن هذا الفصل على هامش كل من العالمين توتر وصراع.
ففي العالم الديني، الذي هو عالم اجتماعي، نشأ توقٌ لإعادة الوحدة بين الدين والدولة. فيكون الدين السياسي حركات سلفية. وفي العالم النقي من الدين، نشأت "مقدّسات" علمانية مثل الأمة، الوطن، الحزب الحاكم إلخ ... إذاً فالحركات السلفية أو التدين السياسي والحركات العلمانية الغيبية هي نتاج لعملية واحدة هي عملية العلمنة؛ لكنها تستخدم مفاهيم ومصطلحات متناقضة. ما يعني أيضاً أن الحركات الأصولية الدينية تختلف عن المؤسسة الدينية لأنها تحتاج إلى عملية العلمنة. وهنالك صراع بين السلفية والقومية، كالحال مثلاً بين القومية العربية والسلفية والأصولية الإسلامية. فقد نشأ مفهوم الأمة العربية أصلاً من رحم الصراع مع مفهوم الأمة الإسلامية.
أما بالنسبة لإسرائيل، فهي المثال الوحيد لتلاقي الاتجاه السلفي الديني مع التوجه القومي المتطرف ، لأن العلمنة لم توجد في مفاهيم الحركة الصهيونية بل في مظاهرها فقط. والصراع الذي حصل بينهما لم يؤد إلى الفصل بين الأمة والدين، وإن كان هذا الصراع حقيقياً ومؤلماً.
الصراع الذي حصل –وما زال يناقش في "إسرائيل"- ليس بين القوميين والعلمانيين فقط، بل بين المتدينين أنفسهم أيضاً. وهذا الأخير كان صراعاً فقهياً شرعياً دينياً بحتاً لجهة تعريف من هو اليهودي. وهو انعكس في قانون الهجرة أيضاً لجهة تحديد اليهودي. ففي "إسرائيل" –خلافاً للدولة القومية الأخرى "Nation States"- لا تتطابق الأمة مع المواطنة؛ فليس كل مواطن إسرائيلي جزءاً من الأمة الإسرائيلية.
ويتضح من النقاش الدائر أن العلمانيين تبنّوا فكرة العسكرة كوسيلة صهر في المجتمع الإسرائيلي، وهذا صراع آخر بين العلمانيين والمتدينين. منذ بداية طرح الفكرة الصهيونية، كانت على صراع مع المتدينين، مع أنها استعملت طروحات وأفكاراً وتعابير دينية، كما أوضحنا إلى حد وصف الصهاينة بالأشرار، على قول الحاخام غور، لأنها تهدف إلى تحويل اليهود إلى أمة كباقي الأمم. كما أن هنالك من وصف هذه الحركة بالحركة المسّانية الكاذبة؛ فخلاص اليهود عملية سماوية وليس أرضية؛ ومع أن أكثرية التيارات التقليدية حافظت على موقف غير صهيوني، إلا أنها انتقلت بالتدريج إلى التعايش مع الصهيونية، بل والتحالف معها بعد قيام الدولة، وذلك باعتبار "إسرائيل" واقعاً تاريخياً، كما قال الحاخام اليعيزر مناحيم شاخ: " الشعب اليهودي ما زال في المنفى حتى ظهور المخلّص، وحتى لو كان مكان إقامته دولة "إسرائيل"؛ فهي ليست خلاصاً ولا بداية الخلاص". لكنهم منحوا الدولة اعترافاً واقعياً "Defacto" وليس اعترافاً حقوقياً "Dejuri"، كما قال الحاخام إبراهام يشعيا هوكارلينز: "لا توجد قيمة مستقلة مطلقة في التوراة إلا للرب، تبارك اسمه، وخدمة الرب. إن قيمة الدولة مؤسساتها تقاس بمدى تقرّب الشعب إلى الله والتوراة وفرائضها". أما العلماني القائد الصهيوني حاييم وايزمن فيقول:" لقد وعد الله اليهود بمنحهم أرض "إسرائيل". هذا الوعد وثيقتنا الأكثر أهمية. ولا نكتسب حقنا على أرض "إسرائيل" من الانتداب البريطاني بل من التوراة".
فما الفارق الجوهري بين العلماني والمتدين عند مناقشة موضوع علاقة الأمة بالدين في حالة الصهيونية؟
الباب الثاني، وفيه فصول: النزعة الأمنية لإسرائيل
الهاجس الأمني الإسرائيلي ليس مجرّد تخدير للجماهير أو "أفيون للشعوب"، وليس مجرّد أداة بيد النخبة العسكرية الإسرائيلية لتسيير الجماهير، رغم تحول هذه النزعة إلى ثقافة سائدة بحاجة إلى أسباب وذرائع وأساطير وأكاذيب. وما يهمّنا الجذور الذهنية العميقة لهذه النزعة:
1. إدراك عميق لحجم الجريمة التي ارتكِبت بحق الشعب الفلسطيني.
2. استيعاب حجم الكراهية العربية وعدم توقّع تسليم عربي بوجود "إسرائيل".
3. إن بناء الدولة لا يمكن أن يتم إلا على أساس القوة والتسلّح واليقظة الدائمة.
هذه النقاط الثلاث لها سندها الواضح الذي لا يُدحض في خطبة لموشي دايان يوم تشييع شاب "إسرائيلي" قتِل على يد متسللين من غزة يوم 19 نيسان 1956، حين قال بصراحة محرجة للغاية: "إنهم –أي الفلسطينيون- يجلسون منذ ثماني سنوات في مخيمات اللاجئين في غزة، وأمام أعينهم نرث أراضيهم وقراهم التي عاشوا فيها، وعاش آباؤهم ... لن نطالب العرب في غزة بدم روعي، اسم الشاب الإسرائيلي، بل نطالب أنفسنا. كيف أغفلنا عيوننا عن النظر بوضوح في مصيرنا، وعن رؤية رسالة جيلنا بكل قساوتها؟ ... ومن وراء البوابات –غزة- مئات آلاف العيون والأيادي التي تصلّي لكي يحلّ بنا كل سوء ... هل نسينا ذلك؟ إننا نعلم أنه من أجل أن يخفت الأمل بإبادتنا علينا أن نكون مسلّحين وعلى أهبة الاستعداد صباح مساء..."؛ من هنا بدأت النزعة الأمنية الإسرائيلية "بطحونيزم" من مصطلح "بطحون" (أمن)؛ وهذا اللفظ بتداعياته دلالة للمعنى الأكثر حضوراً وهيمنة في كافة مناحي الحياة في "إسرائيل": السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. هذه الدولة التي تعيش منذ تلك الفترة حالة إدراك لكونها قامت على أنقاض شعب آخر لم يسلّم بوجودها، لا هو ولا الشعوب العربية؛ وبالتالي هنالك حاجة دائمة لإقناعهم بالحرب، أو على الأقل باستخدام القوة، بوجود "إسرائيل".
هذا المنطق يحدّد السياسات الإسرائيلية ويبرّر العمليات الحدودية الانتقامية، وحرب العام 1956، وشنّ الحرب الاستباقية المانعة في عام 1967. وهذا أيضاً مما كتبه دايان: " بسبب تأثيرها، العمليات الحدودية الانتقامية، على تقدير العرب لقوة "إسرائيل" وعلى إيمان "إسرائيل" بقوتها". وكما أكد بيريس أن القوة الإسرائيلية وقوة الردع هي التي تجلب السلام في النهاية. ويمكن تلخيص هذا المبرّر العام للنزعة الأمنية بسياسة اللاخيار "إين برايراه". وتعني باختصار أنه لا يوجد أمام "إسرائيل" من خيار سوى أن تكون في حالة تأهب كامل للحرب، وأن تشنّ الحرب إذا لزم الأمر لإجهاض مخطط عربي لشنّ الحرب. فكما قال بن غوريون:" لو كنت زعيماً عربياً لما قبلت وجود "إسرائيل". هذا طبيعي. لقد أخذنا أرضهم. صحيح أن الله وعدنا بها، ولكن ما شأنهم بذلك؟ كان هنالك عداء للسامية، النازيون، هتلر، أوشفتس، ولكن هل كان ذلك ذنبهم؟ إنهم يرون شيئاً واحداً: لقد أتينا وأخذنا أرضهم"...
لقد جرى نقد أخلاقي لشمولية النزعة الأمنية؛ يوميات موشي شاريت، لكن دون أن يطرح بديل فكري سياسي لهذه النزعة. بل ترافق بذلك بقدرة لا بأس بها على التسامح والتحمل من أجل إتمام الغرض السامي وهو بناء الدولة الشابة في حالة حرب. إذاً، من مميزات النزعة الأمنية هو كونها نزعة وطنية وحدودية ينضوي تحت لوائها في زمن الحرب أولئك الذين يبدون كمعارضين لها. إنهم يسعون إلى تبريرها عندما تقع الواقعة .
وهنالك موقف آخر مثّله دايان بتعامله مع العمليات الانتقامية الحدودية ليس كوسيلة دفاعية، بل كوسيلة للتصعيد نحو الحرب. هذا مفهوم "بطحون شدطيف" (الأمن الجاري) كإجابة خاصة على حالة اللاحرب واللاسلم. ويتميز هذا المفهوم عن مفهوم "بطحون يسودي" (الأمن الأساسي)، بأنه يشمل مناحي الحياة كافة؛ لأن العرب لم يعترفوا ب "إسرائيل"، لذا هي في حالة خطر أمني مستمر؛ وأنه منذ الخمسينيات، مع إتمام صفقة الأسلحة التشيكية مع مصر، أصبح هنالك تخمين أو تقدير لحرب أخرى يشنّها العرب.
بعد هذه الصفقة، بدأ ما يسمى في السياسة الإسرائيلية ب "مفتساع حدردور" (حرفياً: مشروع التسبب بتدهور الأوضاع؛ وهي تسمية وقحة ومباشرة تتضمن اعترافاً بدهورة الأوضاع الأمنية عن قصد). فهكذا هوجمت مصر وسوريا بعد عمليات حدودية. وعندما تقدّر "إسرائيل" أنه آن أوان الحرب، يتكرر هذا النموذج نفسه؛ نشر تقارير استخباراتية على أن العرب متّجهون إلى الحرب، ثم الاستفزازات ثم الحرب المانعة. فكذلك عبّر الباحث دافيد طال على أن الحرب هي نتاج مثال منفصل قد يقود بذاته إلى مناوشات استفزازية تؤدي إلى تحقيقها.
تكوّن العقيدة الأمنية:
تشكلت العقيدة الأمنية ببعدها العسكري الاستراتيجي من أربعة مركبات:
1. ليس هنالك خيار أمام "إسرائيل" سوى الحرب والاستعداد لها.
2. تفوّق العرب العددي والاقتصادي والجغرافي يضطر "إسرائيل" إلى تطوير قدراتها نوعياً، وبتفوّق مبني على الجبهات العينية وعلى تفوق عددي مؤقّت في مراحل الحرب والاستعداد للطوارئ. ومن هنا نشأ مفهوم واقع "الشعب تحت السلاح" أو "أوماه بمديم" (الأمة بالزيّ العسكري). فقد حافظت "إسرائيل" على جيش نظامي مهني دائم "كيفع"، وعلى جيش إلزامي "سدير" وجيش احتياط "ميلؤيم". الأهمية تكمن في أن الرجل الإسرائيلي البالغ هو إما جندي بالفعل أو جندي بالقوة، وأنه يعيش هاجس الاعتبارات الأمنية باستمرار. هذه التركيبة تعني أن "إسرائيل" تحتاج إلى حربٍ خاطفة على أرض العدو باستخبارات قوية.
3. تحقيق انتصار تلو الآخر حتى يقتنع العرب بالتدريج أن خيار القوة لا يحقق إنجازاً عربياً سياسياً.
4. عملت "إسرائيل" على التوصل إلى تحالف مع دولة عظمى واحدة على الأقل. وقد تحقق هذا مع الولايات المتحدة بشكل كامل بعد حرب العام 1967، وهذا مبدأ أساسي؛ كما عملت على إقامة تحالفات مع دول غير عربية محيطة بالدول العربية ومدّ خطوط اتصال وحوار وتعاون مع "الأقليات" في المنطقة:" إيران الشاه، تركيا، الأكراد، وأثيوبيا".

الاعتبارات الداخلية: دورها في بناء الأمة
الاعتبارات الداخلية لا تعني حاجة "إسرائيل" إلى الحرب كما هو سائد في الأدبيات العربية، بل المقصود هو هيمنة الإيديولوجية الأمنية على الحياة السياسية وحتى الاقتصادية كجزء من عملية بناء الأمة "Nation Building". ف "إسرائيل" ليست دكتاتورية عسكرية أو "دولة ثكنات" يحكمها الجيش، ولا يشكل الجيش خطراً على الديموقراطية اليهودية، بل هو جزء منها وأحد المكوّنات الأساسية لهذه "القبيلة". فالأمن الإسرائيلي لا يعتمد على الجيش فحسب، كما عبّر بن غوريون، بل يتعدّاه إلى كل شيء حيوي في البلاد، إقتصادي، زراعي، إستيطاني، علمي ... إلخ؛ فالصهيونية هدفت بناء إنسان مناقض لصورة التاجر اليهودي الضعيف:" إنسان يفلح الأرض، ويحمل السلاح" الذي هو تجسيد للإيديولوجية الكامنة وراء هذا الفهم للخدمة العسكرية. هذه الخدمة هي بوتقة الصهر الحقيقية لصنع شعب يقاتل. وفي هذا الإطار؛ إستنبط بن غوريون مفهوم ال"المملختيوت" المشتق من مملخاة (وتعني مملكة). وتم على أساس هذا المفهوم دمج كل المنظمات الصهيونية المسلحة في الجيش الذي لا يعترف بهوية إيديولوجية أو حزبية فوق ال "مملختيوت" التي هي عقيدة الدولة. لذا، لكلمة الأمن سعر في "إسرائيل" عصيٌ على القياس. وبرغم بعض الفساد وسوء الاستعمال لها، إلا أن الأمن ما زال يتربّع على عرش أعلى هرم المفاهيم والقيم والأعراف في هذا البلد.
الباب الثالث: الفصل الأول؛ الاقتصاد والعولمة والسياسة:
شهدت "إسرائيل" منذ تأسيسها تحولاً اقتصادياً أساسياً، من دولة قامت على الاستيطان الزراعي والتقشفي، وعلى توزيع الحصص وعلى قطاع الدولة، إلى اقتصاد ليبرالي يعتمد على القطاع الخاص والخصخصة والصناعة وال"هاي تك". هذا التحول أدى إلى ازدياد القوى الديناميكية ذات المصلحة الاقتصادية المباشرة بالتسوية السياسية مع العرب!
إن إسهام الولايات المتحدة الأمريكية في الاقتصاد الإسرائيلي كان مهماً ومجدياً في السبعينيات، حيث وصل الاستهلاك الأمني إلى 17% من مجمل الناتج. ولولا المنح الأمريكية لوصل إلى 33.5%، ما يعني انهيار الاقتصاد أو الأمن كما يقول عزرا سادات. أما في ما بعد السبعينيات وإلى وقتنا الحاضر، فالتواجد الأمريكي المباشر في المنطقة والتشابك الاقتصادي الإسرائيلي مع العالمي، والتطور التكنولوجي وما ترتب عنه اقتصادياً، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وتحييد وإضعاف قوى عسكرية كبيرة، كل هذا أدى إلى انخفاض في المصاريف الأمنية التي كانت تشكل عائقاً أمام النمو؛ كما أدى ضخّ أموال في الصناعات المدنية إلى تغيير في الاقتصاد الإسرائيلي وتقليص تدريجي في سيطرة الدولة على الاقتصاد. رافق هذه التغيّرات الاقتصادية تغيرات إيديولوجية من تقديس "العمل العبري" والجيش والاستيطان والتقشف إلى نشوء قوى إجماعية تحمل قيماً وإيديولوجيات مختلفة عما عرفته إبان مرحلة تأسيس الدولة التي تعتبر مرحلة العصر الذهبي.
أما الصناعة العسكرية الإسرائيلية، فهي ذخر اقتصادي كبير كونها تصدّر ما قيمته 2.2 مليار دولار وتوظّف 35 ألف عامل . ولكنها كما يبدو صناعة خاسرة بالمجمل، وهي بحاجة إلى معونة حكومية دائمة.
ترك الاقتصاد بحالته هذه أثراً اجتماعياً عميقاً. إذ جعل من "إسرائيل" الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة من ناحية انعدام المساواة واتساع الفجوة في المداخيل، ومن حيث نسبة العائلات المصنفة كعائلات فقيرة. هذه الفجوة تطابق الهوّة بين الأصول الإثنية، بين الإشكنازية واليهود الشرقيين والعرب. ومع توسع الهوّة بين المداخيل وزيادة عدد العائلات الفقيرة، تحولت "إسرائيل" من دولة رفاه إلى دولة إعانة، الأمر الذي زاد الحالة الاقتصادية سوءاً".
أما الانتفاضة والوضع الأمني والعوامل الخارجية بعد أيلول11/2001، فقد انعكست كلها سلباً على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث أصيب الاقتصاد العالمي بالركود إثر الحرب الأمريكية على الإرهاب، مما زاد الضغط على المجتمع الإسرائيلي وتناقضاته الداخلية.
الفصل الثاني: بعض جوانب جدلية العولمة إسرائيلياً:
ذهب المفكّر صادق جلال العظم في تعريف العولمة كنمط النشاط المعاصر لرأس المال بالاستثمار مباشرة في الإنتاج الصناعي في الدول والقارات الأخرى، وليس فقط في مجالات المواد الخام والخدمات والتبادل. يضاف إلى هذا أن العولمة تعني فيما تعني تعميم والثقافة وأنماط الاستهلاك دون تعميم القدرة على تلبيتها. وبالتالي، فإن أنماط الاستهلاك الحاجات المرتبطة بالعولمة، في ظل ثورة وسائل الاتصال، تعمّم دون البنية الاقتصادية اللازمة لإنتاج هذه الأنماط الاستهلاكية. وقد تجلّت العولمة الثقافية بوسائل الاتصال الحديثة في اختراق الحدود القومية بما هي حدود ثقافية؛ كما أنها أسهمت في تعميق اللامساواة القائمة في المجتمعات مما أدى إلى إحياء سياسات الهوية، التي لا تعني زوال الأمة بل تعني تفتيتها إلى قوميات عدة تطالب بدول قومية.
في الوطن العربي يتم التعامل مع العولمة يتم بازدواجية؛ تارة كقضية مواجهة معها كإيديولوجيا، وتارة كعملية جارية فعلاً كأنها تعبير للإيديولوجيا.
أما في "إسرائيل" فلم تؤثر العولمة –التي ارتبط بها المجتمع الإسرائيلي في عملية إعادة إنتاجه لذاته بعد العام 1967- في هذه البنية الأساسية للعلاقة بين الدولة والأمة، بل هي وطّدت طبيعة يهودية الدولة والمجتمع، وبدأت تبحث عن تحديد لهوية يهودية تتجاوز الالتزام بطقوس الديانة اليهودية. هنا يعاد اكتشاف "إسرائيل" عالمياً كمحور لهذه الهوية اليهودية المعولمة؛ وتتم هيمنة هذه الهوية اليهودية في الغرب بالتضامن والتماثل مع "إسرائيل". وبعد أن كانت المرحلة السابقة من تاريخ الصهيونية تتميز بعلمنة اليهودية، أصبحت المرحلة الحالية تتميز بتديين الصهيونية. فلقد عولمت العولمة، فيما عولمت الهوية اليهودية كهوية تقع "إسرائيل" في مركزها.
الباب الرابع: الفصل الأول: المنتصر والمهزوم في الانتخابات الإسرائيلية. خلفيات تاريخية موجزة لمرحلتي باراك وشارون.
حتى عام 1977 عندما وصل "الليكود" إلى السلطة، كانت "إسرائيل" عملياً دولة حزب واحد، حزب العمل، فتداخل الحزب الحاكم ونخبته بين أجهزة الدولة السياسية والاقتصادية والأمنية. وفي منطق تأسيس وبناء الدولة العبرية، لم يكن النشاط السياسي والاقتصادي هدفاً للوصول إلى السلطة، بل بهدف بناء الدولة-الأمة. لذا، فالدولة والجيش والشعب في حزام واحد؛ ومن الصعب في البداية الحديث عن مجتمع مدني إسرائيلي. وهكذا كان الإيمان بالفكر الاشتراكي المستورد من أوروبا مع الهجرات العمالية كأداة لإقامة نظام إقتصادي يهودي. فكانت نقابة العمال العامة والهستدروت، وطبعاً الكيبوتس. وأخرجت هذه المؤسسات الأرض والعمل خارج قوانين السوق ليتم تهويدها، ولتسيطر النخبة الإشكنازية الإسرائيلية كمؤسّسة لهذا الكيان، مصوّرة كل ما عداها على أنه غير عقلاني، فهي بنظر ذاتها نمط من أنماط التنوير الأوروبي.
وقد جاءت حرب 1967، بعد تغيّر جذري في سياسات "إسرائيل" الرسمية من مجرد الطلب باعتراف بها ضمن حدود 1949 إلى تحالف مع القوى الإستعمارية الغربية لتحقق إنجازات أساسية:
1. ضرب حركة الوحدة العربية في صيغتها المستندة إلى دورة دولة عربية كبيرة وهزيمتها عسكرياً.
2. إحتلال أراضٍ عربية تبلغ ثلاثة أضعاف مساحة "إسرائيل". فحوّلت قوى النزعة الأمنية التي وصلت إلى السلطة، الاحتلال من "ورقة سياسية تفاوضية" إلى وضع سياسي استراتيجي.
3. تعميق ارتباط "إسرائيل" بالمساعدات الأمريكية.
4. تدفق أموال الاستثمار بشكل لم يشهده الاقتصاد الإسرائيلي من قبل.
5. لعبت هذه الحرب دوراً في إثبات نجاح الرهان على الصهيونية أمام يهود العالم فانتشرت الصهيونية بينهم، وأسهم رأس المال اليهودي في تعزيز مكانة وحجم الطبقة الوسطى اليهودية.

التداخل بين حزب العمل والدولة -الذي كان ذا طابع إشكنازي- شكّل نقطة التقاء لليهود الشرقيين مع الطبقة الوسطى الجديدة. وهكذا نشأ في "إسرائيل" معسكران سياسيان واجتماعيان في الوقت ذاته: معسكر ال"ليكود" ومعسكر حزب العمل؛ ما أوصل "الليكود" إلى الحكم (1977-1984)، حيث غيّر طريقة تعاطي حزب العمل مع التسوية الفلسطينية، وبالتالي سقط برنامج ألون حول تقديم حل على أساس التنازلات الإقليمية مع الأردن في الضفة الغربية في خضم المفاوضات مع مصر بعد كمب ديفيد على أساس السلم معها. وبدل مبدأ التفاهم على الأرض "Territorial Compromise" حلّ مبدأ: "Functional Com". وهذا الخيار تعزّز بعد "هزيمة" منظمة التحرير في حرب لبنان سنة 1982 وغرق الليكود في الوحل اللبناني؛ فك الارتباط الأردني مع الضفة الغربية؛ ثم قبول المجلس الوطني الفلسطيني مبدأ التقسيم، بالإضافة إلى التغيّرات التي طرأت على السياسة العربية والفلسطينية، قلّصت كلها تكلفة السلام وجعلت الاعتراف ب "إسرائيل" رخيصاً إلى أبعد الحدود؛ حيث نجد أن الظروف السياسية قد تهيّأت لكي يطرح حزب العمل طرحاً جديداً لا يقوم على أساس برنامج ألون.
وهكذا أصبحت الخارطة السياسية الإسرائيلية الجديدة بعد العام 1977 تُقسم إلى معسكرين: يمين ويسار؛ وفي فلكهما أحزاب أكثر إيديولوجية، صغيرة ومتوسطة، تشدّهما إلى اليمين وإلى اليسار. وبناء على ذلك شهدت الساحة السياسية هبوطاً وصعوداً لكلا الطرفين: العمل والليكود، حيث وجدت كل فئة منهما نفسها مضطرة للتحالف مع الأحزاب الصغيرة لكي تبقى في السلطة، مع إبداء قدر أكبر من البراغماتية. والملفت للنظر أنه عند وصولهما إلى السلطة، يصبح كلا المعسكرين متشابهين بسياستهما؛ أي أنه داخل السلطة، لا فرق بين الليكود والعمل، وإن اختلفا خارجها وفي تحالفاتهما.
تنبع شعبية الليكود من تحالفه مع الفئات الأكثر فقراً وتلك التي تشمل الرأسمالية الخاصة ليصبح حزباً شعبياً ومقبولاً، فهو حزب قومي طبقي؛ وهو في طرحه ديماغوجي قومي وديماغوجي اجتماعي. بالمقابل، تشكّلت حول حزب العمل كتلة اجتماعية كبيرة ليكوّنا سويّة مركز الخارطة السياسية الإسرائيلية الصهيونية التي تسلّم بعناصر "الإجماع الوطني الإسرائيلي".
والمعروف أن التحالفات السياسية هي التي تأتي بالحزب إلى السلطة ، والتحالفات السياسية المضادة لا تستطيع أن تخرِج الحزب من السلطة. فقط عندما برزت مظاهر الفساد والانحلال في الليكود مع جمود حكومة شامير في وجه وضع دولي متغيّر ومتحرّك بانهيار المعسكر الاشتراكي وانفتاح آفاق التسوية، سقط الليكود وفاز حزب العمل تحت قيادة رابين، حيث حاز على عدد كبير من المقاعد في الكنيست. وقد تميّزت مرحلة رابين بالتالي:
1. الاعتراف بمنظمة التحرير وإبرام السلام مع الأردن.
2. نمو اقتصادي متسارع وولوج "إسرائيل"، عصر "الهاي تك".
3. تطور العلاقة مع العرب في "إسرائيل" بحيث اعتمد رابين على أصواتهم.
4. تحول الهستدروت إلى نقابة عامة ذات عضوية طوعية.
بالإضافة إلى تطور نظرية الأسرلة التي تشمل اليهود والعرب، وإلى جرأة غير مسبوقة للمحكمة العليا تحت سياسة النشاط القضائي الفاعل. مرحلة رابين السياسية عكست تحولاً اجتماعياً ولكنه مبالغ فيه. نعم، تغيّر المجتمع الإسرائيلي، ولكنه لم يتحول إلى مجتمع غير صهيوني أو ما بعد صهيوني؛ لقد أصبح أكثر إسرائيلية، ولكن دون أن يصبح أقل يهودية.
وفي المقابل، حاول بنيامين نتنياهو أن يقود الليكود إلى مواقف أكثر يمينية، اجتماعياً وسياسياً. وهي محاولة لم تتحملها قاعدة الحزب نفسه التي تريده أن يظهر بمظهر الحزب المقبول في وسط الخارطة السياسية، وليس بمظهر حزب المعارضة الهامشية؛ ناهيك عن عدم تحمل علاقة "إسرائيل" بالولايات المتحدة وأوروبا لهذا التوجه.
ولقد أدى اندفاع نتنياهو للسلطة بالاتجاه نحو اليمين بدلاً من منافسة حزب العمل على صدارة الوسط السياسي في الانتخابات، حيث دفع الليكود ثمن خطأ نتنياهو غالياً. وعلى أية حال، يخطئ من يتعامل مع هذين الحزبين وكأنه أمام خيار بين أشرار وأخيار. فالحزبان عندما يصلان إلى السلطة وسدّة الحكم ينتهجان في الظروف ذاتها سياسات متقاربة. فقط هو التغيّر في الظروف السياسية والمزاج السياسي في الشارع الإسرائيلي الذي يوصل أحد الحزبين إلى السلطة.
الفصل الثاني: انتصار الوسط ونهاية حقبة الاستقطاب:
إن انتصار باراك في انتخابات عام 1999 لم يكن انتصاراً لليسار ولا لقوى السلام على قوى الحرب، ولا هو انقلاب سياسي. فاليمين التقليدي والجديد حافظ على أغلبية في الكنيست. كذلك انقسام المجتمع الإسرائيلي بين مؤيد ومعارض لاتفاقيات أوسلو لا يصلح بتاتاً لشرح الخريطة السياسية الإسرائيلية. فحتى وصول شارون إلى الحكم في 2001، الكل –عدا الاتحاد الوطني- سلّم باتفاقيات أوسلو. لذا سعى باراك لإقامة حكومة ائتلاف واسعة تستند إلى أغلبية يهودية. كانت هذه خطوة عملية لإعادة إنتاج "القبيلة" والرد على الشرخ الذي أحدثه مقتل رابين على يد متطرف يميني، والانتقال تدريجياً من الاستفراد الكامل بعملية صنع القرار داخل معسكر واحد إلى الإجماع القومي المستند إلى الحد الأدنى المشترك، أي اللاءات التي أعلنها باراك في خطاب "النصر":
لا للانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران؛ لا لأية مشاركة في السيادة على القدس؛ لا "لجيش أجنبي" –عربي فلسطيني- غربي النهر؛ أما عودة اللاجئين فلا تحتاج إلى لا، لأن رفضها أمر مفروغ منه.
لقد تم الاصطفاف الانتخابي الكبير في الشارع الإسرائيلي قبل انتخاب باراك على أساس اتخاذ موقف سياسي موحّد من التسوية. وقد سبق التطرق إلى هذه النقطة. فالكل، بمن فيهم شارون، سلّم بأوسلو وبفكرة الدولة الفلسطينية. كما اصطفّ الناخبون على موقفهم من الأحزاب الدينية. فقد انقسم الإسرائيليون بين مهادن للأحزاب الدينية وبين مناهضٍ لسطوتها ولنفوذها في أوساط العلمانيين. أيضاً، كان هنالك شعور عام بأن نتنياهو وصل إلى السلطة عقب اغتيال رابين بطريقة غير شرعية. وفترة حكمه كانت تحريفاً للتاريخ. فنشأة حزب كحزب الوسط كانت من أجل إسقاط نتنياهو من رئاسة الحكومة؛ كذلك كان هنالك اصطفاف إسرائيلي لجهة أصل الناخب الإسرائيلي وانتمائه (شرقي، روسي، مغربي، متدين ... إلخ)، إذ يبدو أحياناً أن مرحلة حكم نتنياهو كانت تعبيراً عن تحالف نخب جديدة وأقليات من نوع الأحزاب الدينية، وشاس، واليهود الروس. وفي هذه الحقبة نشأ حزب "إسرائيل بيتنا" الذي كان يقول على لسان رئيسه أفيغدور ليبرمان ما لم يجرؤ على قوله نتنياهو حيال النخبة والبيروقراطية والتهديد اليميني الشعبوي مقابل تحالفات نتنياهو اليمينية والهامشية، ومع الأثرياء ..إلخ
وكما فشل نتنياهو، فشل باراك مع سقوط مشروعه السياسي لفرض حل دائم على الفلسطينيين في كامب ديفيد. فعاد شارون على رأس حكومة وحدة وطنية مع بيرس كوزير خارجية. في هذه الانتخابات كان الخاسر الأكبر هو حزب الوسط، لأن الوسط في "إسرائيل" قد انتصر. فهذه كانت مهمة حزب الوسط التاريخية!
الفصل الثالث: تجزئة الهوية الجماعية
أدت تجربة الانتخابات المباشرة لرئيس الحكومة من قبل الشعب إلى تجزئة الهوية الجماعية لناخبي الشعب الإسرائيلي إلى اعتبارين: الأول التعبير عن موقف سياسي؛ والثاني : التعبير عن الهوية الجماعية التي ينتمي إليها الفرد الإسرائيلي. وقد شكّل هذا تغيّراً جذرياً في الحياة السياسية الإسرائيلية، الهدف منه إضعاف الأحزاب الصغيرة، ولكن النتيجة كانت العكس؛ لقد زادت عملية الانتخاب المباشر قوة صلاحية رئيس الحكومة، ولكنها عقّدت عملية تشكيل الحكومة وحوّلتها إلى عملية ائتلافية عسيرة، وعرضة لابتزاز من الأحزاب الصغيرة الأكثر إيديولوجية من الأحزاب الكبيرة.
من هنا أصبحت عملية تحديد الهوية الذاتية والجماعية في ظل الضرورة للالتحاق بأحد المعسكرين الكبيرين، عملية معقدة ومهدّدة للمكاسب التي يمكن الحصول عليها لتحقيق أهداف سياسية، اجتماعية واقتصادية. لكن مهما بلغت حدّة إنكار الهوية الذاتية كعائق أمام الالتحاق بالقوة المهيمنة، لا تتحول العلاقة مع الدولة إلى علاقة اغتراب إلا على الهوامش. فرغبة الانتماء مؤسّسة على كون الدولة دولة اليهود؛ إضافة إلى ذلك –وربما الأهم من ذلك- أنه في حال تأكيد الهوية الذاتية كهوية قومية لا دينية فحسب، فإنه يؤكد عليها بواسطة النفي أي السلب من خلال العناصر السلبية المكوّنة للوعي القومي التي ترسم الحدود مع الآخر، والآخر هو العربي؛ وبالتالي يتحول العربي بأثر رجعي إلى آخر تاريخي. فنفي الإسرائيلي للعربي تأكيد على هويته اليهودية. وفي حالة اليهودي الشرقي هي مطالبة بحصته من الدولة عبر التأكيد؛ أما النخبة الأرثوذوكسية الاشكنازية، فقد تمكنت من تحويل إنتاج الهوية، والفولكلور، ومشاعر الانتماء، والذاكرة الجماعية، والمهانة، والاغتراب التاريخي، من عملية نشوء وتشكّل الحركة الصهيونية إلى رأسمال رمزي يستثمر سياسياً في الصراع على مواقع السطوة والقوة في الدولة؛ مثال على ذلك حركة "شاس"؛ فهي تبدو معتدلة في قضية السلام. أما في الحقيقة، فهي تعتبر عملية السلام قضية ثانوية كونها تمثل قطاعاً اجتماعياً محدداً. فاستخدام الهوية القطاعية كاستثمار سياسي في عملية تقسيم "الكعكة" القومية لا يتطلب تجزئة الهوية الشمولية، بل يتطلب التأكيد عليها كإطار جامع.
ومن الخطأ اعتبار ظاهرة التعبير السياسي عند القطاعات الاجتماعية المعروفة بالأصل والثقافة وغيرها، دليلاً على إمكانية انهيار "إسرائيل" في حال التوصل إلى اتفاقيات سلام مع العرب. هذا خطاب التمنّي لدى فئات عربية تفتقر إلى استراتيجية التعامل مع "إسرائيل".
الفصل الرابع: إشكال العلمانية والتدين في انتخابات العقد الأخير
منذ نشوء نظام المعسكرين عام 1977، أصبحت الأحزاب الدينية أكثر قوة من حيث قدرتها على الإملاء. كما أن الجمهور العلماني أصبح أكثر حساسية للإملاء الديني، كذلك أصبح الخطاب السياسي لدى غلاة المتدينين الأرثوذكس (الحريديم) أكثر صهينة بشكل غير مسبوق. لذا؛ قام في "إسرائيل" معسكر سياسي ديني –يميني يكاد يكون عضوياً في تركيبته، تعدّى الحياة السياسية ليتصرف كجهاز إكليروس يهودي من نوع جديد، يمارس قوة التأثير على طابع الحياة في الدولة والمجتمع.
لقد أدرك باراك ذلك، لذا حصل التوجه نحو اجتذاب اليمين العلماني إلى صفوف حزب العمل، وإلى باراك بالتحديد لمواجهة نتنياهو. لذا، تمحور الخطاب السياسي والثقافي حول موضوع العلاقة بين المتدينين والعلمانيين في المجتمع والدولة، لجأت خلاله القوى العلمانية إلى محكمة العدل العليا، حتى كاد هذا الصراع أن يأخذ شكل الصراع بين السلطتين القضائية والتشريعية؛ فالمحكمة العليا لا تعتبر الديموقراطية حكم الأغلبية، بل حكم القيم الديموقراطية كما تراها هي. وفي الوقت ذاته، أخذت الأحزاب العلمانية موقفاً أكثر تشدداً من حزب العمل ضد الأحزاب اليمينية –كحزب ميرتس مثلاً- لتميّز نفسها وتحدّد هويتها. لهذا الغرض أيضاً تبنّت القوى العلمانية واليسار الصهيوني والحركات النسائية طرح ال"Reformist" ومقولات اللائق سياسياً "Politically Correct" من الولايات المتحدة. من هنا يبدأ التنظير العلماني حول الثقافة اليهودية والتعددية الدينية داخل اليهودية. وبكلمة أخرى، هذا الجدل الداخلي أدى إلى صهينة الأحزاب الدينية وتهويد القوى العلمانية ، كلاً ليحفظ هويته وقوته داخل مجتمع "إسرائيل" ودولتها.
الفصل الخامس: اليمين واليسار بعد انتخاب باراك:
لقد فقد اليسار قاعدته الاجتماعية العمالية الشعبية، وبات يستند إلى طبقات وسطى جديدة متسعة باستمرار. وتحول اليمين الجديد -حتى التقليدي في الحالة الإسرائيلية-إلى مخاطبة فئات شعبية واسعة لها مصلحة معيشية بتدخل الدولة في الاقتصاد. هذا تحول اجتماعي طبقي في بنية اليسار واليمين الإسرائيليين. ثم تعدّلت المعايير من جديد ليصبح الاستعداد للتسوية الإقليمية موقفاً وسطاً. وكذلك الاستعداد للتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية موقفاً لا يميّز اليسار عن اليمين بعد أوسلو، كما اختلطت التعريفات بينهما في قضية العلاقة مع الأحزاب اليمينية.
في الحين الذي سلّم فيه اليمين الإسرائيلي باكتساح السوق للاقتصاد وقبوله لهذه البنية الاقتصادية الجديدة خارج إطار السيطرة الحكومية، مع ما لهذا من تداعيات اجتماعية بنيوية، عبّر هذا اليمين عن رؤيته ل "إسرائيل" قلباً وقالباً. في كلمة ألقاها نتنياهو أمام طلاب مدرسة دينية في 17/5/1999، أسبوع بعد خسارته، أعلن بشكل صريح ومباشر عن استحالة الفصل بين الدين والدولة في "إسرائيل"، واستحالة الفصل بين الدين والقومية اليهودية. هذا باختصار طرح اليمين وبلسانه. وبعد انتخاب باراك على ضوء هذه المعطيات، كان يفترض على اليسار أن يبحث في ظل هذا التشابه في السياسات بين اليمين واليسار عن قيم اليسار: الحرية ، المساواة، العدالة الاجتماعية، والديموقراطية المناقضة لقيم اليمين، ليس فقط بالدرجة كما هي الحال بين العمل والليكود. وهذا ما لم يفعله باراك ولا حزب العمل ولا اليسار بالإجمال.
أما الأقلية العربية من خلال موقعها في الكيان الصهيوني، فلا تستطيع أن تلعب دور اليسار في مواجهة اليمين الإسرائيلي. فهذه الأقليات تدافع عن مصالح جزئية، ناهيك عن أنها مهمّشة سياسياً.
الباب الخامس: الفصل الأول: باراك
لم ينشأ إيهودا باراك في كنف الديموقراطية الإسرائيلية بجهازها السياسي البيروقراطي، بل في المؤسسة العسكرية. وهو لا يكنّ لهذا الجهاز السياسي أي احترام. والحقيقة أن ثقافة باراك كانت ولا تزال متوسطة. وهو ليس عبقرياً ولا سوبرمان، ولم يكن رجل سلام. وحال تبوّئه منصب رئيس الحزب، تبيّن أنه مثل نتنياهو في الليكود، دخل الحزب دخول الفاتحين. وغنيّ عن الذكر أن حياته العسكرية كانت حافلة؛ إذ إنه شغل مناصب عدة، وقاد عمليات "نوعية" على الأقل بينها عمليتا اغتيال في لبنان وتونس. وتدرّج ليصبح رئيساً للأركان. وقد كان في هذا المنصب جريئاً يعبّر عن قناعاته السياسية ضد الفجوات الأمنية في اتفاق أوسلو. فهو يطرح آراءه من منظور أمني استراتيجي وبراغماتي!
وكرئيس وزراء، أحاط باراك نفسه بعسكريين سابقين مبعِداً السياسيين من حوله بإخافة العديد منهم. وهذا ما دفع بقيادة حزب العمل إلى التمرّد عليه وعلى استخفافه بهذه القيادة؛ مما زاد من السياسيين المتربصين به، في الحين الذي احتفى الإعلام الإسرائيلي والغربي به بما عزّز من مكانته داخلياً ودولياً، إلا أنه أصبح أسيراً لهذا التبجيل الكبير!
كان من المتوقع من باراك إسرائيلياً أن ينفذ التزامات "واي" وأن ينسحب من لبنان خلال سنة واحدة. وقد تعهد أن تنتهي المفاوضات المبدئية مع سوريا في تشرين 2000. لكن في ظل لاءات باراك، أصبح التفاوض على الحل الدائم أكاديمياً. ورغم الإعلانات المتكررة عن اتفاق سلام وشيك مع سوريا، تراجع باراك عن وعوده بقبول الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران إزاء الإصرار السوري عليه. لقد خدع باراك السوريين والأمريكيين وأغضب حزبه وأضرّه بعد أن قاده إلى مغامرة كامب ديفيد التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة، ثم إلى سقوطه وسقوط حزبه المدوّي.
الفصل الثاني: سقوط باراك
لم تكن انتخابات العام 2001 صراعاً بين اليمين واليسار فحسب، فقد طرأت عناصر جديدة على الحياة السياسية الإسرائيلية. فالمهاجرون الروس يميلون إلى التشدد فيما يتعلق بالصراع مع العرب؛ وعندهم رؤية سطحية لهذا الصراع، كصراع بقاء في وطنهم الجديد، مع تأكيدهم على نظرة علمانية مقابل النظرة الدينية المتشددة. أما الصورة فهي مقلوبة عند حركة شاس التي أفشلت مع النواب العرب محاولة حلّ الكنيست وإجراء انتخابات لرئاسة الحكومة فقط، ليحافظوا بالتالي على أعضائهم وعلى مكاسبهم وقوتهم البرلمانية.
لقد خسر باراك لأنه استهلّ فترته في محاربة حزبه. ثم خسر حينما جعلت حركة "ميرتس" معركتها مع حركة "شاس" وليس مع اليمين. وخسر عندما حاول أن يفرض تنازلات على العلمانيين لصالح الأحزاب الدينية. وخسر خسارته الكبرى عندما حاول أن يفرض تصوره للسلام الدائم على الفلسطينيين؛ وعند رفضهم هذا التصور أعلن بأنه "لا يوجد شريك فلسطيني للتفاوض"!
ويتلخّص مغزى سقوطه باستمرار التحول التدريجي نحو اليمين في المجتمع الإسرائيلي، لتصبح ردود فعل عصبية على الانتفاضة، فانهار "نهج السلام" وهوى باراك وحزب العمل معه.
فشل باراك، الآمر العسكري، في التعامل مع حزبه، ثم مع بقية الأحزاب. كما فشل في فرض شروطه ومواعيده على الفلسطينيين والسوريين، ثم فشل في المفاوضات التي رافقت الانتفاضة. لقد انتخِب لكي يجلب السلام، فقرّب المنطقة إلى حافّة الحرب.
الفصل الثالث: أرييل شارون
حتى بأفضل الحالات، وعلى لسان أكثر المتعصبين لشارون ول "إسرائيل": شارون مجرم حرب مرتكب جرائم ضد الإنسانية. تاريخه حافل بالقتل والتدمير والإرهاب. يؤمن بالردع الأمني لكي لا يظهر بمظهر الجبان على حد قوله شخصياً. جرائمه، تواطأ كل من الدولة والسلطة والجيش على طمسها، بل حضّوه عليها. حتى أن لجنة كاهان (لجنة تحقيق رسمية) أوصت بعد مجازر صبرا وشاتيلا ألا يتولّى شارون منصب وزير الأمن في المستقبل ، فأصبح شارون رئيس حكومة "إسرائيل" بعد عشرين عاماً بالضبط!
الفصل الرابع: صورة السياسي
شارون كسياسي هو انتهازي مغامر، كما كان مغامراً انتهازياً عسكرياً. فهو لا يلتزم بالتعليمات والقوانين الشكلية إذا تطلب الأمر ذلك. هو مستخفٌ بالبيروقراطية الحكومية، ويعمل على تنفيذ المهام المطلوبة مباشرة "كالبلدوزر". وحقيقة الأمر أن عقلية الرجل استيطانية خالصة. والبلدوزر من رموز الاستيطان التي تشقّ الطريق وتزيل العوائق، "مثل العرب"، من أجل الانتشار اليهودي الاستيطاني في البلاد. الدولة عنده أداة الاستيطان وأداة الحرب دون منازع. شارون يؤمن "بالتنازلات المؤلمة"؛ أي بقاموسه السياسي: إعادة أجزاء صغيرة من الأرض لأصحابها بعد سلبها بقوة السلاح. هذا ليس تنازلاً . حتى بعد أن اعترف شارون بأن 3.5 مليون عربي يعيشون تحت "الاحتلال" الأمر الذي لا يمكن أن يستمر بلا نهاية"؛ لكنه أيضاً مقتنع بضرورة استخدام القوة طالما كانت السيطرة ضرورية. فهو كسياسي يمثل نموذجاً مهماً في سياسات القوة والردع الإسرائيلية. لقد فهم شارون أنه لا إمكانية لطرد الفلسطينيين في عملية تهجير شاملة، ولا يمكن ضمّهم إلى "إسرائيل". والنتيجة هي حل وسط إقليمي مع الفلسطينيين أنفسهم. النقاش هو كم من هؤلاء على كم من الأرض. هذا ليس موقفاً أخلاقياً. المهم عند شارون النتيجة وليس الدافع. هو مرن عندما يشارك في عملية القرار، ورافض وصلب عندما يكون مهمّشاً وغير مشارك . عندما سئل إذا غيّر رأيه في الموضوع الفلسطيني قال:"لم أغيّر رأيي. الأمر الوحيد الذي غيّرته هو رأيي أن الأردن هي فلسطين ... لم أرغب أبداً أن تكون هنالك دولتان فلسطينيتان".أما السلام الدائم برأيه، فهو ممكن إذا اعترف العرب بحق اليهود "التاريخي" لإقامة دولتهم في هذه البلاد، على أرض فلسطين؛ فحالة اللا حرب إذاً هي المفضّلة عنده ، لأنها تعطي الفلسطينيين دولة مقيّدة، محددة ومنزوعة السلاح، تحافظ فيها "إسرائيل" على حدودها لسنوات طويلة ما دام ذلك لا يمسّ بأمنها؛ أي أن يتولّى الفلسطينيون شؤون الأمن الداخلي، وأن تكون لهم مظاهر سيادة، وأن تكون العلاقة السيادية مع شرقي الأردن.
الخاتمة
عودة شارون إلى الحكم كان فيها إثبات لفاعلية الأمن في الحياة السياسية الإسرائيلية وطبيعة "إسرائيل" الكولونيالية التي مارست في عهد شارون سياسة فصل عنصري، مع تأكيد على يهودية الدولة دون الحاجة إلى تحالف مع الأحزاب الدينية. شارون يمثل تكيّف النخب المتعصبة ليهودية الدولة مع الظروف الجديدة ليجهض الطرح الجديد الذي حمله المجتمع المدني والطبقة الوسطى في الطريق إلى تسوية مع العرب. هذا تأكيد على مسيرة "إسرائيل" الظافرة نحو الأبارثايد!
بدعم كامل من الولايات المتحدة الأمريكية، أخرجت "خارطة الطريق" مع شروطها الإسرائيلية الأربعة عشر المبادرة العربية من التداول الدبلوماسي. وأخرجت خطة شارون "خارطة الطريق" من التداول. بالمقابل، شكّلت الاغتيالات والجدار العازل ضرباً من ضروب الضغط في إملاء شروط الفصل على الفلسطينيين في مرحلة شارون. أي بالحديد والنار والاغتيالات، تنشأ قيادات جديدة تقبل رؤية شارون وشروطه. وعليه، فإن المسايرة العربية والفلسطينية لا تفيد العرب، بل تشرّع "إسرائيل" وعنصريتها، التي ليست بحالة طارئة، بل هي مسألة بنيوية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.