بقلم: كارم يحيى (*) هذا الشهر للاجازات.. لكن القتل في مصر لا يأخذ إجازة صباح اليوم 18 أغسطس (أوت) 2013 كان من المقرر أن نشاهد ونحن نتثاءب من الملل ظهور الدكتاتور "مبارك" ونجليه ووزير داخليته ومساعديه في قفص إعادة المحاكمة. لكن السلطة الحاكمة قررت تغييب المتهمين المدللين المحبوسين سبعة نجوم عن الجلسة. ولعل التفسير الوحيد الذي يقنعني بمثل هذا القرار أن السلطة التي أوغلت في سفك الدماء هي الأخرى بمعدلات كارثية أكبر من سابقيها مرورا بالرئيس المعزول محمد مرسي رأت أن نظارات الدنيا بعدساتها السوداء لن يكون بامكانها إخفاء نظرة ديكتاتور نشوان برائحة الدم، وهو يتشفى في شعبة الذي اطاح به في 11 فبراير( فيفري)2011 المحاكمة الهزلية المنعقدة ربما دفعت العديد من المصريين وأنا منهم كي نحسد الأشقاء التوانسة على مصير دكتاتورهم "بن علي" . ألم يكن من الأجدى لمصر ان يأوى الرجل الى السعودية هو الآخر . فتحمل عنا المملكة عبء "مبارك" وأسرته، بدلا من ان يمنح عاهلها "عبد الله" في بيانه قبل ساعات دعمه فاقد المصداقية بالأصل لمكافحة سلطة 3 يوليو للإرهاب على هذا النحو الغبي الدموي المطعون في مصداقيته أيضا. حقا ألم يكن أجدى بالسعودية ان تريحنا من مسرحية عدالة عبثية تكلف المصريين البائسين كل هذه الأعباء المالية وإهدار الجهد والوقت. لكن سخرية جلسة محاكمة 18 أغسطس (أوت) جاءت مضاعفة. وهي تتجاوز صورة القفص الخال من زواره المحظوظين المدللين الى مشهد رمزي مواز يخطف الأضواء بعيدا عن قاعة المحكمة. مشهد مصر الرهينة بين الإخوان ودولة بوليسية مع المحتجزين المحاصرين في مسجد "الفتح" بقلب القاهرة منذ مساء اليوم السابق أكتب الآن الى أحبتى في تونس كي نتعلم معا من أخطائنا وكي لا يعيش وطنهم ما وصلت اليه مصر من محنة دامية محذرا من الانزلاق الى دائرة الدم. ولعل الخطأ الأول والأكبر كان ويظل هو إقحام سؤال" الهوية الإسلامية " المفتعل على مسار الثورة. فدبت الانقسامات والخلافات قبل أن يتمكن أيا من الشعبين المصري والتونسي من القضاء على نظام الاستبداد والفساد واقتلاعه. وحقيقة الأمر ان ثورات الربيع العربي لم تندلع بدافع "عقدة الهوية". وطوال الأيام الثمانية عشر انطلاقا من 25 يناير (جانفي) 2011 وحتى تنحي "مبارك" لم يرتفع شعار "إسلامي" واحد في ميدان التحرير أو غيره من ميادين الثورة في انحاء مصر. صحيح ان الإخوان وغيرهم من الإسلاميين كانوا حاضرين كغيرهم، لكنهم التزموا بأهداف وشعارات الثورة:"حرية وعدالة اجتماعية وكرامة انسانية واستقلال وطني". ولم يخرجوا عنها للمناداة ب "الشريعة" أو ب "مصر إسلامية ". وأظن أن شيئا من هذا حدث في تونس. لكن ما جرى ان الإخوان ومعهم ألوان أخرى من الإسلام السياسي سرعان ما غدروا بأهداف الثورة وبروحها وشركائها وأندفعوا في الإتجار بالشعارات الدينية للاستحواذ على السلطة لحساب نخبة جماعاتهم. وأنحطوا بقيم "المواطنة " الى نداء "الأهل والعشيرة" أخفق "الإسلاميون" وكانوا هم القوة الجماهيرية المنظمة الرئيسية بعدما تكفلت انظمة الفساد والاستبداد بتصحير الحياة السياسية وبتهيئة العقول للخرافات بنظم تعليمية متدنية تقتل ملكة التفكير النقدي والعلمي في المساهمة في بناء الكتلة التاريخية الحاملة للتغيير من إسلاميين وعلمانيين ثوريين ديموقراطيين. وانصرفوا عن تحقيق مهام الديموقراطية والعدالة الإجتماعية ودولة القانون وحقوق الانسان والقصاص للشهداء والمعذبين والقضاء على الفساد. وأربكوا مسار الربيع العربي بالإتجار بالدين وبافتعال عقدة الهوية "الإسلامية" ، وجروا الأوطان الي "خريف الإخوان". وهكذا إمتلأت أشرعة الثورة بريح قوى محافظة أخذت تدفع مراكبها الى الخلف. وبدلا من إعادة اكتشاف طاقة التقدم والتحرر الوطني والإجتماعي في التراث والتاريخ الإسلاميين دفع "خريف الإخوان " بعصي التخلف لتعرقل انطلاق عجلات التغيير في بلاد "الربيع العربي" . ومع انكشاف عجز "الإخوان" في الحكم عن تلبية المطالب الاساسية الملحة للمواطنين وفورة التوقعات بحياة أفضل بعد الثورة إختاروا الإندفاع الى الخلف بالمزيد من الإتجار بالدين وبالتحالف مع الجماعات الإسلامية الأشد يمينية ومع بقايا أنظمة الفساد والاستبداد. وأصبح شعار المرحلة "حريات ديموقراطية أقل". بل وخبز أقل وأمن أقل. وكان تعثر صياغة الدستور في تونس عن العام المحدد لمجلسها التأسيسي بحلول 23 أكتوبر 2012 وسلق "دستور" غير توافقي على عجل في مصر في ديسمبر 2012 عنوانا لأزمة مجتمعية وسياسية شاملة تعرقل الانتقال الى الديموقراطية وكان المشهد في مصر الأكثر مأساوية باتجاه حمامات الدم الجارية الآن. تنكر الإخوان مبكرا لثورة 25 يناير (جانفي) وتحالفوا مع "جنرالات مبارك". وقادوا السلفيين والجهاديين في جمعة "قندهار" صيف 2011 للهتاف "يامشير ياأمير.. ألف تحية من التحرير", بينما كانت الحركة الجماهيرية الديموقراطية في عنفوانها تطلب رحيل المجلس العسكري برئاسة وزير دفاع مبارك "المشير طنطاوي" وتضغط لتحسين ظروف المرحلة الانتقالية وتدفع ضريبة الدم وتتلقى المذبحة تلو الأخرى، وفي "التحرير" نفسه. وعلى هذا النحو، ظل شباب الثورة في الشوارع يدفعون ثمن رفع شعار " يسقط حكم العسكر " حتى تولى مرشح الإخوان "مرسي" الرئاسة في يونيو 2012، بينما كان الإسلاميون مشغولون بتكريس كل طاقتهم لحصد مقاعد البرلمان والرئاسة ونسج تحالفهم مع بقايا نظام "مبارك"، حتى انهم منحوا تأييدهم لحكومة رجل "مبارك" العجوز " كمال الجنزوري " في ديسمبر 2012 بينما العشرات يقتلون بالرصاص في شارع مجلس الوزراء احتجاجا. ولذا فإن الكثير من المصريين لا يشعرون بأي تعاطف مع الإخوان وحلفائهم من التيارات الإسلامية الأكثر يمينية وهي تصرخ في مسيراتها الآن فقط "يسقط حكم العسكر" ،أو وهم يعلقون فوق منصة الإعتصام في "رابعة العدوية" والآن فقط " الثورة مستمرة". وكيف وقد قالوها مبكرا بأن " الثورة انتهت.. وحان وقت العملية السياسية " في الأسابيع الأخيرة لحكم الرئيس "مرسي" وجماعة الإخوان، وبدلا من تدارك الأخطاء ، لجأ الرجل وعشيرته الى المزيد من قرع طبول "الشريعة" و"الطائفية " وأظهر على نحو غير مسبوق اصطفافا مع أقصي اليمين الديني من سلفيين وجهاديين على نحو غير مسبوق من عام حكمه . وهو يمين مسؤول عن تفزيع المواطنين المسيحيين وتهديد الوحدة الوطنية وضربات الإرهاب في سيناء . وبالطبع لم تفلح طبول " الشريعة " الجوفاء و "الطائفة" البغيضة عن ان تشبع بطونا جائعة او تحسن خدمات تتدهور أو توقف معدلات بطالة في تصاعد أو تحقق أمنا غائبا وعدالة مفقوده. وإنفجر الغضب الجماهيري في وجه الخديعة "الإسلاموية" يوم 30 يونيو 2013 فيما يشبه الثورة الشعبية. وأصبحت قطاعات واسعة من المجتمع المصري خاصة في المناطق الشعبية في حالة عداء وكراهية للإخوان بما يشبه "الإخوانوفوبيا". فتعرضوا ومازالوا لملاحقات شعبية عنيفة في الشوراع. وإن لم يسلم الأمر مع تدخل قادة الجيش بالتحالف مع معارضة بات معظمها إقصائي النزعة فيما يشبه الإنقلاب في 3 يوليو 2013 من استخدام الدولة البوليسية لجيوش البلطجية في مطاردة الإخوان. والأخطر ان جماعة الإخوان وحلفائها من تيارات الإسلام السياسي حفرت بخطاب أزمتها الطائفي لنفسها قبر الإتهام بالمسؤولية عن الإعتداءات على الكنائس المسيحية،والتي تكثفت بعد مجزرة فض اعتصام "رابعة العدوية " بالقوة المفرطة ومع تغليب الحل الأمني في 14 أغسطس ( أوت) الجاري . وفي هذا وذاك انتصار لمنطق الدولة البوليسية ودعما لسيادة هذا المنطق لا يلبى الكثير من المصريين دعوة الإخوان للدفاع عن الشرعية (شرعية الإنتخابات البرلمانية والرئاسية الأكثر نزاهة في تاريخ مصر). لأنهم ببساطة يعلمون انها كانت إنتخابات مطعون في ديموقراطيتها. ولأنها وفق تحالف الإخوان والمجلس العسكري جاءت على قاعدة " الدستور تاليا وليس أولا" وفي ظل انتهاك أبسط قواعد الديموقراطية بالاتجار بالدين عند الفقراء الأميين وباستغلال دور العبادة في الدعاية الحزبية وبالمال السياسي والرشاوى الانتخابية . بل وبالتغاضي المقصود من سلطة المجلس العسكري عن انتهاك نص المادة 4 من الإعلان الدستوري الصادر في 20 مارس 2011 القاضية ب "عدم جواز مباشرة اي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على اساس ديني ". وكذا بالتغاضي عن لا شرعية جماعة "الإخوان " وممارستها للعمل السياسي حتى في ظل قيام حزبها "الحرية والعدالة" . وقد ثبت ان الحزب لم يكن إلا زائدة دودية في جسد جماعة منخرطة في السياسة تماما، وفي يدها وحدها كل قرار سياسي. حقا لا يشعر الكثير من المصريين بأي تعاطف مع شعار الجماعة " الدفاع عن الشرعية وعودة مرسي "، ولايثقون في عودة الإسلاميين الى صفوف الثورة. لكن جانبا من المنخرطين في المظاهرات المعارضة لسلطة 3 يوليو الآن من خارج الإسلاميين هم أولئك الذي يخشون من عودة الدولة البوليسية الى شراستها زمن "مبارك" حصاد بؤس تجربة جماعة الإخوان وحلفائها من تنظيمات الإسلام السياسي الأخرى في مصر يتلخص في أنها لم تكتف بإهدار فرصة التغيير الديموقراطي بعد 11 فبراير (فيفري) 2012، وطوال عام من حكم الرئيس مرسي بين يونيو 2012 ويونيو 2013 . بل وأيضا في تسليم البلاد على طبق من فضة الى دولة بوليسية تعيد استخدام فزاعة الإسلاميين بفشلهم وعنفهم وطائفيتهم لتنتقص من حريات الجميع ولتهدد الأمل في دولة الديموقراطية والعدالة الإجتماعية والقانون والاستقلال الوطني. فيضيق هامش حرية التعبير وتجرى إعادة فرض الطوارئ وفض إعتصامات العمال بقوة الجيش والأمن قبل فض إعتصامات الإسلاميين. وتتوالى مذبحة تلو أخرى، وتنزلق مصر الى دائرة الدم بالطبع لا يتمنى مصري مخلص لتونس الغالية ملهمة ثورات الربيع العربي هذا المصير. ولقد بدا لي منذ نحو العامين أن مسارها الانتقالي الى الديموقراطية لديه حظوظا أفضل نتيجة غياب تعقيدات تدخل الجيش في السياسة ودوره وكبار رجاله في الإقتصاد وسعي الإسلاميين للاستئثار بالسلطة وجمودهم وبأن الدستور أولا . لكن يبدو أن الأمور لاتجرى كلها على مايرام . فهاهو المسار الإنتقالي يتعثر ومعه كتابة الدستور . وهاهي ضربات إرهاب الإسلاميين تحصد أنبل ساستها ومثقفيها المعارضين وتهز معها متانة تحالف "الترويكا" الحاكم . والأخطر ان يندفع حزب "النهضة " الى التعبئة والتظاهر دفاعا عن " شرعية إخوانية " في مصر فاشلة ومطعون فيها ومنتهية الصلاحية. والحقيقة انني كلما شاهدت صور مظاهرات "الشرعية البائسة" هذه عبر الفضائيات تذكرت بدهشة ما قاله لي رئيس حزب النهضة "راشد الغنوشي" عندما التقيته في تونس نهاية سبتمبر 2011 عندما سألته عن صلته بمكتب الإرشاد العالمي لجماعة الإخوان المسلمين:" أنا رئيس حزب النهضة في تونس وفقط " وعلى كل حال، لعل "إسلاميي" تونس أكثر ذكاء وأبعد نظرا من " إخوان " مصر . ولعل معارضيهم أيضا على هذا النحو. وإلا فهنيئا للدكتاتور "بن علي" وشبيهه "مبارك