"في ظلّ النظام الدكتاتوري كل شيء يصبح على ما يرام" على حدّ تعبير مونتسكيو، وقد بات واضحا أننا لم نعد اليوم بمنأى عن مثل هذا الخطاب الاغترابي الذي يقدّم الأمور في البلاد على أنها لا تشوبها شائبة وأن الأسواق عامرة بكل ما لذ وطاب والحياة آمنة حتى أن الكهرباء متوفر في كل البيوت والماء لم ينقطع في الحنفيات والمواطن يعود الى بيته فرحا مسرورا في آخر النهار، ما يعني في منطق مونتسكيو أنه إما أن يكون الحاكم مصابا بداء يحجب عنه الرؤية، أو أن كل الشعب مصاب بالعمى، وفي الحالتين فإن الكارثة قائمة... لا نقول هذا بهدف تقديم المشهد القائم في البلاد على أنه بلغ درجة من القتامة والسّواد والإحباط يستحيل معها التغيير، ولكن للتأكيد على حجم الخطر ولأن هناك من الأسباب ما يدعو جدّيا صناع القرار الى نزع النظارات التي تحجب عنهم الرؤيا ويتأملوا حقيقة الواقع في البلاد، لا سيما عندما يتعلق الامر بمستقبل الأجيال القادمة وبكل ما يحيط بنشأتها، من مخاطر من شأنها أن تهيّئ لجيل يتخبّط في الجهل والأمية... وسنتوقف في هذا الشأن عند تقريرين مصيريين حول الفساد من جهة والجهل من جهة أخرى ظهور وانتشار الفساد في أي رقعة من الأرض مصيبة على أهلها وأصحابها، فكيف اذا اقترن الفساد بانتشار الجهل والامية؟ فحينئذ تكون الكارثة مزدوجة وربما لا يمكن لكل الوصفات السحرية أن تفلح في اقتلاع الآفة من الجذور التقارير المتواترة هذا الأسبوع عن ظاهرة الفساد في البلاد بما في ذلك فساد الأحزاب السياسية وغياب الشفافية التي من شأنها أن تزيد أزمة الثقة الحاصلة بين الطبقة السياسية والرأي العام عمقا، إلى جانب التقارير والتحذيرات بشأن واقع التعليم في بلادنا بالتزامن مع الاستعداد للعودة المدرسية، ليس من شأنها أن تدفع الى دق ناقوس الخطر فحسب، فالخطر قائم، ولكن أن تدعو الى التحرّك جدّيا ودون مماطلة لمنع استفحال الامر وحدوث المحظور وعندما يجدّد نقابيون عن التعليم الثانوي التحذيرات من مخاطر الانقطاع المبكّر عن التعليم فان الامر لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام في بلد كان ولا يزال يراهن على ثروته البشرية وعلى عقول أبنائه لفرض الموقع الذي يستحق بين الأمم الراقية. بل ان ما يجعل التوقف عند هذه التحذيرات أمرا ملزما أنها تأتي على خلفية إحصاءات رسمية صادرة عن وزارة التربية أكدت انقطاع مائة ألف تلميذ عن التعليم خلال السنة الدراسية المنقضية بنسبة ارتفاع قدرت بثلاثين بالمائة عن السنوات السابقة. وأكثر من ذلك فإن عشرة آلاف من هؤلاء المنقطعين مبكرا عن مقاعد الدراسة من تلامذة الابتدائي... أما البقية فيتوزعون على المرحلتين الإعدادية والثانوية ما يعني أن معدّل أعمار هؤلاء بين التاسعة والسادسة عشر أو يزيد قليلا وهو ما يمكن اعتباره جريمة في حق هذا الجيل، وهي بالتأكيد جريمة مشتركة بين أكثر من طرف على اعتبار أنه وبرغم غياب دراسة علمية موضوعية حول أسباب هذا الانقطاع المبكر عن التعليم وسبل تدارك ذلك فإن ما أثير حتى الآن من أسباب من طرف عديد الجمعيات والمنظمات الحقوقية من شانه أن يصدم الكثيرين واذا كان الفقر والخصاصة والاحتياج الى جانب انسداد الافاق من الأسباب المنتشرة وراء ظاهرة الانقطاع عن التعليم والانصراف إلى مجال الاعمال اليدوية لتوفير المساعدة المادية للعائلات المعوزة، فإن في ظهور أسباب أخرى لا علاقة لها بضيق ذات اليد ما يدعو اليوم للتساؤل جديا عن نوع ومستقبل الجيل القادم من أبناء تونس التي التزمت منذ فجر الاستقلال بمجانية والزامية التعليم للذكور والاناث حتى بات التونسي في أي نقطة من البلاد مستعدّا للتضحية بالنفيس والغالي من أجل توفير التعليم لأبنائه مهما كانت المسافة الفاصلة بين مقر إقامته وبين المدرسة أو المعهد في زمن كان الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة يقول فيه أن تعليم فتاة أفضل بالنسبة إليه من اقتناء مدرّعة ولاشك أنه عندما تؤكّد عديد الدراسات على أن تعدّد الأنشطة والمخيمات الدعوية التي تنظمها جمعيات ترفع راية العمل الخيري تابعة لتيارات دينية متشدّدة تروّج لأفكار وتوجّهات تتعارض مع سياسة البلاد في حق نشر التعليم للجميع وتسعى للتأثير خاصة لدى الفئات المعدومة بأفضال ومكارم حفظ الفتاة من شرور المجتمع وضرورة حمايتها وذلك بتقييدها في البيت وحرمانها من التعليم بدعوى تحريم الاختلاط والدفع الى عودة الفتاة الى حياة الانعزال والجهل، فإن الامر لا يقبل التجاهل أو المماطلة وتأجيل البحث عن الأسباب، لأنه اذا كان انقطاع الفتيات عن التعليم مرتبطا بعودة الأفكار المتزمتة المعادية لتعليم الفتاة وحريتها فإن انقطاع الأطفال والشباب عن التعليم -حسب بعض الدراسات- بات مرتبطا بضرورات ومقتضيات الجهاد في سوريا، وهو ما دفع فعلا بالعديد من المراهقين والشبان ممن وقعوا تحت تأثير بعض الجماعات، إلى ترك مقاعد الدراسة والانتقال الى ساحة القتال في سوريا بدعوى الحرص على الشهادة وما يرافق ذلك من أماني بالدخول الى الجنة والتمتع بحور العين... يحدث ذلك في أغلب الأحيان دون معرفة الآباء والأمهات الذين لا يتفطنون للأمر إلا بعد فوات الأوان... وبالعودة الى التقرير الثاني الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لشهري جويلية وأوت حول ارتفاع نسبة الفساد في تونس، التي أصبحت تصنف في دائرة البلدان المتخلفة التي تتميّز بانعدام الاستقرار والدكتاتورية، حيث يشمل الفساد خاصة الأحزاب السياسية والمنظومة الأمنية والوظيفة العمومية ثم القضاء فالتعليم والسلطة التشريعية والدفاع والمنظمات الدينية، بات اصلاح ومراجعة المنظومة التربوية اليوم وتحصين التعليم من كل الشوائب والألغام وتهيئة الارضية لتكون المؤسسة التربوية انطلاقا من المحضنة وصولا الى الجامعة من الأمور التي يتعين الإسراع بمعالجتها ما يستوجب إعلاء مكانة العقل وتجنيد الباحثين وأهل الخبرة أنصار العلوم والمعارف ودعاة مقاومة الجهل والفكر الجاهلي، لتنوير العقول وسحب البساط أمام الظلاميين وعقول أهل الكهف... فعسى أن يدفع بنا ذلك الى منافسة كبرى الجامعات في العالم حيث لم نسعد حتى الآن بوجود جامعة عربية أو إسلامية واحدة ضمن قائمة أفضل خمسمائة جامعة في العالم الفساد والجهل أعداء التقدّم وإذا ما اجتمعا فإنه الانهيار لا محالة... فهل نتدارك وضعنا قبل استفحال الامر؟